أحمد حسين
لي سماءٌ بدون نجوم ٍ
ولكنّ لي تحتها نجمتانْ
سأبدأ مما أحبُّ ،
فما أنا كاهن هذا المكان ِ
لأعبدهُ ،
أنا هذا المكان ْ.
قديمٌ على هذه الأرض ِ
قبل الكروم وبعد المطرْ
وهذي الطحالب في وجنتيَّ
ابتداءٌ لعشق الحجارة والماء ِ
في النهر ِ،
نقش الأجنّة عند اللقاءِ
على فرشة العشبِ
بيني وبين صبايا الشجرْ
فكيف أصبحتُ هذا العبثْ ؟
” أنا الأرضُ ” !
قال الجميل المجنح بالنارِ :
” لا تحرميني المطرْ !”
فهل جئتُ بعد الكلامِ ،
لأشرب من خمرة الشعر ِ
موتيَ بين لصوص الكلامْ ؟
لكم عشقتني الكروم ُ
وصاحبة الحان ِ
والكأس والخمر والنادلة ْ ،
وكنت المتوج بالصحو والسكر ِ ،
إذا اعتنقت صحويَ البابلية ُ بالهمس ِ
تعافتْ على ثغريَ الأسئلة ْ.
فكيف أصبحتُ هذا العبثْ ؟
لقد كان ما كانَ …
لا وقت فينا لغير السقوط ِ ،
إذا كان ما كان َ
كان الذي سيكون ُ،
كما قال محمود ُ
فالأمس سيد هذا الزمان ،ِ
يصيد العصافير في غَدِها ،
حين يملي على ريشها ما يريد ُ ،
وتحمل في ريشها ما أراد ْ .
دعيني أغادرُ
قبل وصول الرسائل منّي إليَّ
فويل السكارى من الصحو ِ ،
لا تشرب الخمرَ
إن لم تكن صاحب الحان ِ
والكرم والمعصرة ْ ،
فماذا ستفعلُ
إن غادرتك الزجاجة يوما ً
على حافة الصحو ِ
واقتحمتْ بابك الذاكرة ْ؟
سأصحو لأندمَ
لا تتركوني مع السر وحدي !
سأحزن عنا جميعا ً
ولكن خذوا من يدِي
حفنة من تراب الندمْ .
هو السرّ ، تاج الحكاية ِ ،
بدءٌ جديدٌ على صخرة ٍ
في خلاء الفجيعة ِ
خلف الكلام وبعد الألمْ .
فلا الخمر تُسكِر في كأسه ِ
حين يصحو ،
ولا الحزن يحزنُ ،
تسقط كل الحروف ِ
التي كنت فيها
ويمحو كتابُ السفرْ ،
مروركَ فيك كأنك لون الثيابُ
على جسدٍ ليس لك ْ.
لم أكن غير ظل ٍ ، تقولُُ
فتهزأ منك ظلالُ الشجرْ :
لقد كنت ساقية ًمن سراب ٍ
على غابة من حجَرْ .
وكنت ِ مُحمّلة ًبالكروم ِ
ولسع ِ الدّبابير ِ ،
ستون عاما ولون ثمارك ِ
ما زال لونَ الألم ْ.
إذا اخضر لوزُك فوق الغصون ِ
تسلّق غصنيَ لون الذهول ِ ،
وطوّح بي السفحُ عن عُشبه كالفرس ْ ،
يناولني الموت ألوانه الذابلات ِ
ويقرَعُني الحزنُ مثل الجرس ْ .
لم أكُنْ أجمل َالعابرين بصيفكِ
كنت الخريفَ الذي يحمل الحبَّ
والموت َ في قبلة ٍ واحدة ْ ،
عَشِقتك ،
هل أناِ شيءٌ بدونك ِ
أم أنت ِ شيءٌ بدون التراب ْ ؟
وهل نحن إلا غيابا ً يغيب ُ
على موعد ٍ لغياب الغيابْ ؟
لم أكن أجمل العابرين َ
أولئك لم يتركوا غير أسماءهن ََّ
وأسماءهم ْ
واستداروا انسلالا كرائحة العشب ِ
لم يكتبوا الشعر إلا قليلا ً
لكي يرسموا لحظات العتابْ
على وجْنة الصمتِ:
لم نجد ِ الدارَ فيك ِ ،
تغيرت عما روتْهُ لنا النائحاتُ ،
فهل أنت ريفية القد ِّ
ضامرةٌ كخيول السّباق ِ
معتقة مثل شِعر الملاحم ِ
يهتزّ خصرُك ِ
سبعَ سنابل في سنبلة ْ؟
هكذا قالت النائحاتُ
يناولن أيامهن الكلام َ
ويهبطنَ نحو غموض الحكاية ِ
بالأسئلة ْ:
لماذا أتوْا ؟
نحن نعرف أسماءهم في الصلاة ِ
ونعرف أسماءهم في الحكاية ِ
لكنهم لم يكونوا هنا مرة للجلوس ،
فكيف يورثها الشعر للميتينْ ؟
إن راياتهم في السماء ِ
فهل عبروا مرة ً فوق راياتهم ْ
لا يراهم أحد ْ؟
كانتْ هنا طفلة ً يوم جئنا ،
تفتش عن وجهها
في اختلاف الفصول على ثوبها
وغموض المطر ْ .
وقيثارة الصبح تركض ُ
في حيرة العطر ِ
فوق اندلاع الزنابق في الماء ِ ،
لم يعرف ِ الزهر أسماءه بعد ُ ،
لكن تفوح القواريرعفوَ الشذى
كلما لمست فضة الشمس ِ
لون القوارير باحت ْ بأسرارها .
نصبنا عرائشنا في المساء ِ
على ضفة النهر ِ ،
في الليل ، كنا نحاول سرّ النهار ِ
نسمّي الأيائل والعشب َ
نعطي الحقول تضاريسها
ونسمّي الشجر ْ.
كانت هنا يوم جئنا
فأعطت ْ لنا روحها
واستوينا معا في اكتمال الجسد ْ
لم يعد في المكان مكان ٌلغير الشغف ْ ،
وقنص المواعيد فوق السفوح ِ
إذا انتعف الوجد فينا وفيها
دنا الشعر من صدرها وانتعف ْ .
وأجمل ساحاتها مدن الرّيف ِ
يأتي إليها صباح الحقول ِ
ويطرق أبوابها بالحليب ِ
وفاكهةِ المرجِ ِ ،
تزجي قواريرُها عسل الرائحة ْ .
وكانت ِ كما تذكُرُ النائحات ُ
سماء ًمن الطينِ
تمشي عليها العجائب ُ
تأتي إلى خيمة الشمس ِ
براً وبحراً
طروداً محمّلة ً بهدايا الزواج ِ
على شمعِها خاتم الله ِ
تمشي على فرح خائفٍ كالزجاجة ِ
نحو الذي سوف يأتي .
وأجمل أحزانها
حين تسطع في شمعة العرس ِ
نار الفراق ِ
ويسطع في القلب خوف الحبيب ْ .
هل كَذَبتنا العجائز ُ
هذا الجمالُ القبيح ُعلى بابها
مثل ريش الطواويس ِ
يخدش لون الوسامة ِ
يختنق الحب في صخب الحب ِّ
ماذا نريد من امرأة ٍ
جنّ فيها العناق ُ
إذا ذكرتْ صدرها أرضعتْ كلبَها ؟
ترى هل ضللنا الطريق إليها
أم ان العجائز علمْننا
كيف نسكن أيامهن بأيامنا ؟
أقاموا على وصلك المُرّ
في الخبز والماء ِ
يستدرجون إليك الشوارعَ
في بلدة خائنة ْ .
ولن يرجعوا
كلما ابتعد الوصل عنهم
أطالوا إليك وصال السّفرْ .
فهل أنا منهمْ
يشردني وصلُها في الصدود
لأكتب وصلي عليه ْ؟
وهل أنا منهم ْ
لأكتب وجهي القبيحَ ،
الذي نسَيته على قبحها كالقمرْ ؟
إن تكنْ تلك خمرا ً
فإني سكرت بها من يدِي
لا يد النادلة ْ.
أنا باب ذاتي إلي َّ
وُلدتُ على باب حيفا طريدا ً،
بصقت بوجه الحكاية طفلا ً
وفي أوجُه السابلة ْ .
ولم يبق لي
غير موتي الذي كان قبلي ،
وهذا التسكع فى موت حيفا ،
ومشيتيَ المائلة ْ.
وغير جلوسي على حافة ٍ
يتدلى انزلاقي عليها
وأمسية ٍ لا يراها أحد ْ.
أقول لوجهي الذي لا أراه ُ،
لأطرق في اليأس باب الندم ْ:
تسكعت َ في عتمة العمر وحدك َ ،
كل الذي كان ، وهما من الدار ِ
وهما من الناس ِ
كنتَ سرابا من المشي ِ
فى شارع يتنزه فيه الرحيل ْ .
عشقت َكانك تحصي النجوم عذابا ً
وتحصي التراب ، وتحصي الشجرْ ،
وحاولت أن تشرب البحر َ
لم تستطع ْ وشربت َالعطش ْ
فهل كنت َ لونا من العشق ِ
لا عشقَ فيه سوى الحزن ِ ،
أم كنت في الحب أحمق مما تظن ُّ
تلاحق في الماء صوت الطواحين ِ
تطحن قمح فلسطين بين رحاها
وتعصر زيتونها ؟
تركت الحكاية تعزف جُنّازها فيك َ،
قيثارة للبعيد البعيد ِ ،
ونايا على مدن ٍ
ما يزال الخراب ُ يؤلف أطلالها
ولم تبك هندا ً ،
بكيت لأحجار مكة َ ،
هل تذكر اليوم مكة أحجارها ؟
هند حزن القبيلة ِ
حين يدحرجها اليثربي ّ ُ
إلى قاع روما
ليصعد من هُوة الإندثار ِ
على كتفيها
ويطعم موتاه أخبارها .
أما علمتكَ الحكاية ُ
أن الحجارة تحيا
إذا أودعتها القبيلة أسرارها ؟
وترٌ كلّ شيء لقيثارة الكون ِ
والعازفون البشر ْ ،
وليس على هذه الأرض ِ
إلا البلاد التي تُشبه الناس َ فيها
فلا وطن ٌ من حجر ْ .
فكيف تعاقر خمر النساء ِ
اللواتي هجرْن َ القبيلة ْ ؟
وكيف تحب امرأة ْ ،
بادلت روحها بالصّدى
تكره ُ الساهرين َ ، ولكن تحبّ السهرْ ؟
فيا كرمليات ُ!
من قال أن الحقيقة هذا الخراب ُ ؟
هي اللاحكاية ُ ،
ذاك الذي لم يكن أبدا ً بعد ُ ،
ما كان كان
فأرضعن َ أبناءكنّ الندم ْ ،
لكي لا يكون الذي كان َ ،
وابدأننا من تراب الأمومة ِ
بين الطريق وبين القدم ْ .
بعيد هو الدرب ُ
لكنه أول الوصل ِ
كنعان قيد التراب وقيد الشجر ْ
وقيد الوصول وقيد الدخول ِ
وقيد الحدود وقيد النساء وقيد الرجال ْ
وقيد الصباح وقيد المساء ِ
وقيد فلسطين َ
من لثغة الماء في الموج
حتى حدود الرمال .
أقِمْن َ الحواجز في المشي ِ
من مخدع الطفل حتى سقوط النعال ْ ،
على وجه هذا وهذي وذاك وتلك َ
يمدون عوراتهم نحو ماخورهم كالحبال ِ ،
يقولون :
لو ساعة ًمن زمان الحقول ِ
على حفنة ٍ من تراب ٍ
على ظل غصن وحيد ٍ
بنينا عليها وطن ْ ،
لتُولد منه فلسطينُ أخرى
على بابها حارس للعَلَم ْ
بسيف ٍ ورمح ِ ،
وحارسة ٌ للرئيس ِ ،
وكشك لبيع التذاكر مستأجر ٍ
داخل الخط ( خط الحدودِ )
وأرصفة في الهواء على الجانبين ِ
لقرع الطبول وعرض الخدم ْ.
ومهبط ُ طنجرة طائرة ْ
يسافر فيها الرئيس ُ
إلى حاجز الأمْن صفعا ً
ويُقلِع ُ ركلا ً إلى القاهرة ْ.
سراديب هذا الزمان الغريب فما يدرك العقل أحواله ُ
لماذا يريد الموطأ تاجا وقد أخذوا منه سرواله ُ
فيركب خازوقه باسما كأن السلاطين أخواله ُ؟
أنا فسحة في زمان الحكاية ِ ،
من أنت َ ؟
أعمى الذي لا يراك َ
لماذا تحب الشظايا
فلا ترفع الكأس عند فراغ الزجاجة ِ
من خمرها ، وتقول اذهبوا !؟
لماذا دللتَ السماء على نجمتي َّ
وخبأت َ عني الشواطيء في ّ
وعلمتهم أن يروْها ؟
تعقبتَني بالسجود لغيرك َ،
أخرجْت َ روحي من الأرض ِ
نحو السماء ِ ، لكي لا أراك ْ ،
فلا تسقِني الصحو َ
أعمى الذي لا يراك َ
لماذا تحب الشظايا ؟
جعلت َالصعود لنا
وتركت َ للأنهر الإنحدار ْ ،
لنحمل اجسادنا فوق أكتافنا
ثم نصعد في ليلة الروح ِ
نحو النهار البعيد ِ
سدى ً، سوف يأتي زمان السقوط ِ
وتجمَع كفاك َ
كلّ الإنحدارات ِفي هُوة ٍ واحدة ْ .