حوار عن بعد مع سمير أمين: في القومية والقطرية والشيوعية ومسائل أخرى

(الحلقة الاولى)

عادل سمارة ـ رام الله المحتلة

هذه المشاركة مقتضبة على هامش حوار ساخن نوعاً ما بين سمير أمين وشمس الدين الكيلاني، وهو محصور في رد أمين على فصل من كتاب الكيلاني عن الخطاب القومي ينقد فيه أطروحات أمين.

من جانبي، هذا الدخول محاورة مع المفكر المتميز والطيب معاً سمير امين سواء بإنتاجه أو عروبته أو ماويته إن شاء كذلك كما لا أُغفل شيوعيته.

وقد قرأت ردكم على السيد شمس الدين الكيلاني الذي لم أقرأ ما كتب، ولذا احصر قولي في ما قرأته لك بعيداً عن الاتفاق او الاختلاف أو الاشتباك مع الرجل. لن أتناول كل نقطة طرحت، ولكنني سأتعاطى مع نقاط محددة أجد من المفيد إضائتها أكثر، خدمة للقارىء ولي كذلك.

يقول أمين:

1) تفترض أطروحات القوميين ما يجب إثباته. إذ يفترضون وجود “القومية العربية” دون تساؤل حولها وحول المكونات التى تضفى معنى ملموساً لهذا الوجود، وما قد حدث من تغيرات خلال تاريخ الشعوب الناطقة بالعربية، والتى من شأنها أن تكون قد أثرت إيجابياً أو سلبياً على كيان المجتمع، وبالتالى سمات الجماعة المعنية، بالأولى حول ما قد حدث من تنوع أنتجته هذه التغيرات من منطقة عربية إلى أخرى.

ربما كان أكثر دقة لو بدأ أمين هذه النقطة بالأمة وليس بالقومية، وذلك على الأقل لأن الجدل أكثر سخونة فيما يخص القومية وعلى الأقل لأنها مفهوم حداثي متصل بتطور الحداثة الأوروبية، بينما الأمم اقدم من ذلك بكثير.

كما يلاحظ القارىء، فإن أمين يعمم تسمية القوميين دون تحديد، وهم بالطبع مدارس سواء من حيث الرؤية الجغرافية (المكان-الحيز) للأمة العربية وقوميتها بالطبع، أي هل الأمة العربية في المشرق وحده أم في المغرب أم في جزء من المغرب؟ هل يعتبر أهل أطراف الوطن العربي أنفسهم عرباً أم أفارقة…الخ. كما يعمم أمين من حيث الزمان بمعنى متى بدأ وجود ما يمكن تسميته الأمة العربية، اي قبل الإسلام، مع الإسلام، بعد الموجة القومية الأوروبية المسماة افتئاتاً “عصر القوميات” بمعنى تعميم ما يتطور في أوروبا على العالم ككل[1]. لا يتفق مختلف القوميين (حتى غير الماركسيين منهم) تماماً على القومية العربية والأمة العربية في مستويي المكان والزمان.

صحيح أن التعاطي مع القومية أو اية سردية كبرى بإطلاق ليس تعاطياً علمياً، ولكن ليس من العلمية ايضاً حصر التأثيرات على الجماعة في مناقشة القومية العربية، فتأثيرات التاريخ، أو دور الأمم في التاريخ أمر ينطبق على مختلف الأمم. وعليه، لا ينحصر التساؤل في “حقيقية” القومية العربية وحدها، وقد يكون التساؤل طبيعياً إذا ما تم طرحه عن مدى قومية كل بقعة جغرافية وجماعة بشرية يقول قوميون أو يزعموا أنها عربية، بمعنى أن الاعتراض يمكن أن يصح على المدى وليس على مبدأ الوجود. ويحضرني في هذا الصدد ذلك التشكيك المكرس في الأكاديميا الغربية وخاصة البريطانية التي عملت ولا تزال على التشكيك بل نفي وجود أمة عربية حتى لو في مكة المكرمة. وهو نفي يتساوق مع المشروع الذهني والسياسي الاستشراقي وخاصة الأنثروبولوجي الغربي اليوم الذي لا يبحث الأمر علميا بل يقصد نفيه من أجل مشروع سياسي . وقد أكون محقاً، إذا كتبت أنني أرى أحياناً أن أمين في دوره الأممي، يقدم مرونة مجانية للمركزانية الغربية التي هو من أوائل من نقدوها!

دعني أتناول الأمر من زاوية جد بعيدة، بل قد لا تكون ذات علاقة،. هذا البيت الأول في ملحمة جلجامش: “هو الذي رأى كل شيء فغنِّي بذكره يا بلادي”.

لم يقل هذا المطلع يا قبيلتي ولا يا دنيا؟ فهل في هذا معنى للأمة القديمة؟ بغض النظر إن كانت عربية أو سومرية أو فارسية…الخ المهم أن هناك من حيث الزمان وامتداده أمماً قديمة، ولماذا لا ينطبق هذا على العرب بغض النظر عن امتداد الحيِّز؟ ألم تكن إسبارطة واثينا في صراع دائم او تناقض على الأقل، هل يقول اليونانيون اليوم أنهم ليسوا امة قديمة؟ ليس هذا للدخول في تفاصيل التاريخ بل هو لنقل الحوار إلى، بل عدم عزله عن مضمونه المادي الطبقي الذي تريده أنت نفسك .

أمين:

ويعتمد الخطاب القومى على سرد وقائع وسمات يُفترض أن تثبت وجود هذه القومية

(الأمة). فالكتب المعنونة “عروبة مصر” و”عروبة الجزائر” و”عروبة المغرب” عديدة وكلها تروى نفس القصة وتقوم بعرض نفس الوقائع والسمات. ويلجأ الكيلانى إليها دون أدنى تساؤل حول درجة علمية المنهج المتبع فى هذه الكتب، ودون التساؤل حول احتمال كونها منتجات أيديولوجية بحتة.

هذا النقد صحيح، ورغم أنه موجه ضد الكيلاني في خصوصية موضوع النقاش، ولكنه ينطبق ايضاً على مختلف الأمم. يكفي أن نسحبه على الولايات المتحدة بما هي حديثة وتمتص كل يوم من الأمم الأخرى، سواء باحتلال شمال المكسيك كله، أو بابتلاع الملايين في موجات الاستجلاب، هذا ناهيك عن أن الذين رفضوا الإقرار بامة عربية، ستالين “غفر الله له” اعتبر الكيان الصهيوني أمة واعترف بها والكيان الصهيوني الإشكنازي هو تجمع نموذج على أمم متحدة، اي من قرابة مئة أمة. هناك في أية أمة منتج إيديولوجي في إهاب قومي ، ولكن السؤال هو ما حدود الوجود الموضوعي والتاريخي وما حدود كون الأمة صناعة. لذا أعتقد أن ما يجب أن يشغلنا هو:

إن هذه الأمة متمظهرة في القومية، سواء في كل الوطن أو في ربعه، ما هو دورها في التاريخ؟ والأهم ما هو دورها المعاصر؟ هل هي قومية شوفينية؟ هل كافة دعاتها ومدارسها يمينية عنصرية؟ أم هي جزء من حركة التحرر العالمي في مناهضة الأمم بله الطبقات الرأسمالية في حقبها: الاستعمارية فالإمبريالية فالمعولمة التي تجر الإنسانية إلى العبودية والبربرية؟ أليس دورنا هو في تطوير العناصر التقدمية في القومية العربية بمعزل عن أطروحات هذه المدرسة القومية ، وهذا النظام القومي أو ذاك؟ هل مقاومة الغزو الصهيوني والراسمالية في حقبة العولمة هو رصيد تقدمي للقومية العربية حتى لو كانت عروبتها في بغداد وحدها؟

أعتقد أن علينا قراءة الحبل السري بل الرابط الضروري بين النضال القومي والاشتراكي للطبقات الشعبية العربية والذي جعل دور القومية العربية تقدميا بالضرورة في حقبة الراسمالية المعولمة. كما علينا تطوير مفاهيم وآفاق هذا النضال بما هو قائم على نضال تقدمي ضد المركز الرأسمالي المعولم الذي شكل بمجموعه “متروبول” الاستيطان الصهيوني وضد الصهيونية. وهذا ما يفتح بالضرورة على قراءة التشكيلات التجزيئية القطرية وينقدها بقصد تجاوزها ثورياً دون الانشغال بأن موريتانيا عربية أم إفريقية. حين نصل هنا نصل إلى الوجوب الطبقي فالإشتراكي المطلوب. هذه القراءة المطلوبة ، قراءة حرة ترفع من رأسها وهم الغرب والتوهم به وابتلاع أطروحاته سواء الغث منها أو السمين…

أمين:

2) ليس من العسير بيان مجموعة أخرى من الوقائع التى يمكن على أساسها استخلاص أطروحة “تنوع القومية”، أى تواجد “قوميات قطرية (محلية)”.والمنهجان (أى منهج الخطاب العروبى ومنهج الخطاب القطرى) يشتركان فى طابعهما التبسيطى، حيث إن النتائج المستخلصة منهما هى هى، ضعيفة الطابع، دون قدرة إقناعية، بكلمة أخرى هى تعبيرات أيديولوجية غير علمية.

من الصعوبة عملياً إيلاء اعتبار متوازِ بين القومية والقطرية على الأقل لأن تقسيم هذا الوطن بدأ بالتقسيم الإداري العثماني وتجسد وتغير في تقسيم وتجزئة استعمارية حاولت تكوين كيانات قابلة للانفصال عن بعضها وغير قابلة للحياة بمعزل عن التبعية للمركز. وأقل ما يمكن قوله في هذا الصدد أن بروز الحركة القومية العربية في سوريا قبل غيرها لأن سوريا جرى تقسيمها كقطر من الداخل .

لماذا لا يكون المبتدأ هل هناك مشترك قومي، وهل هناك خصوصيات قطرية، وما هي العوامل التي اقتحمت المنطقة لتعميق التجزئة، وهل التجزئة اساساً اختيار شعبي بل هل سنح للشعب العربي أن يختار في اي وقت، اي شيىء؟ يجب ان لا نغفل دور المشروع القطري في محاولة خلق خصوصيات مصطنعة بين الأقطار، وهي موجودة حقا ويكون السؤال هل تُقرأ علميا أم إيديولوجيا تخارجيا؟

ولكن، بعد عقود طويلة على حكم الدولة القطرية وأدائها وارتباطاتها بدءأ من التبعية والفساد والقمع وصولا إلى الاعتراف العلني والمسروق بالكيان الصهيوني ومشاركة قطريات عربية في احتلال العراق، هل ظل أمام الثوريين العرب غير تفكيك مفاصل الدولة القطرية[2]؟ والدولة القطرية هنا ليست مسألة مجردة أُسقطت من الفضاء. بل هي بالضبط ما يركز عليه أمين، هي مسألة طبقية كمبرادورية متخارجة، ومجموع هذه القطريات العربية كمجموع حبات البطاطس عند وصف ماركس للفلاحين.

أمين:

لئن أصبح اتجاه التطور يفعل فعله نحو توحيد اللغة المستخدمة بالفعل (وأنا اتمنى ذلك!)، فإن الاستنتاج الذى يمكن استخلاصه من الملاحظة هو أن “العروبة” الموحدة لعلها فى سبيل التحقق، واحتمال أكثر منها واقعًا، بل واقع حديث، على خلاف أطروحة القوميين التى تزعم أنها “قديمة قدم الفتح الإسلامى/ العربى” كما سوف نرى فيما بعد.

لا أتفق مع هذا التطهر العلمي، فمختلف الأمم القديمة تأخذ قدمها بالاعتبار، والصحيح هو عدم سحب هذا القديم على الواقع الحالي. فالوجود على أرض معينة ووجود تواصل تاريخي حتى لو تقطع اقتحاما من الخارج لا ينفي أن هناك أمما مستدامة وليست قديمة وحسب. والعرب هم أمة موجودة قبل الإسلام. ولا أدري إن كان تعبير الفتح الإسلامي صحيحا أو الجاهلية، فالإسلام وليد عربي ولم يأت إلى العرب فاتحاً. يمكن تسمية الانتشار الإمبراطوري فتحا ولكن ليس في الوطن العربي (على الأقل من يُعترف بهم أنهم عرب، مثلا أهل اليمن في ذلك الزمان) بغض النظر ايا منه كان عربياً بالمعنى النسبي أم لا.

كما لا يخدم كثيراً كون العروبة (بمعنى شعور أناس أنهم عرباً) الموحدة اليوم في سبيل التحقق واستخدام هذا الإقرار لنفي تحققها في الماضي أو التشكيك فيه، بمعنى أن هذا النفي لا يخدم من ناحية علمية، وإن كان يخدم في نفي أطروحة القوميين المقصودين برد أمين. وأعني أن لا ضرورة لاستخدام الماضي لنقد الحاضر بمقدار ما أن الضرورة هي في قراءة جادة للحاضر وتطويره من أجل مشروع نهضوي.

أمين:

للأسف الشديد هناك فى وطننا العربى المعاصر (وفى مناطق أخرى فى العالم الثالث) ميول قوية تسعى إلى رفض “المفاهيم والنظريات المستوردة” لمجرد كونها مستوردة، خارجية دون اعتبار مدى صلاحيتها وحدود ما تقدمه من استخلاصات، وفى المقابل تسعى إلى ترقية شأن “الأصالة” إلى سماوات المطلق. فهؤلاء الذين يأخذون بهذا المبدأ ـ وبينهم الكثير من العروبيين ـ (وإن كان الكيلانى لا ينتمى إلى هذه الفئة!) يفهمون “العروبة على أنها قائمة بحد ذاتها دون حاجة إلى استيعاب ناتج تقدم المجتمع العالمى الخارجى.

حتى لو رغب هؤلاء بالقطع مع التفاعل مع الخارج ولا اسميه الاستيراد فهذا محال. فلم يحصل في الماضي مع اي تجمع بشري، أما في العصر الحديث فمن يغلق على نفسه الباب هناك من يطرق الباب عليه ويدخل في الغالب غازياً، كما يمكن أن تنشأ ظروف تخلق من لدنه من أو ما يستدعي التفاعل وحتى الانفتاح على الخارج. لقد حاولت العثمانية ضبط انخراطها في النظام العالمي، ولكن طبقة التجار وخاصة تجار التهريب تمكنوا من خرق المنع.

من يرفضون استيعاب ناتج المجتمع العالمي يعيشون وهم تحقيق ذلك المحال وبدل أن يتعاملوا مع رياح التغيير يضطروا للتذيل لها. وإذا كانت بعض الدول قد اتبعت استراتيجية إحلال الواردات في الاقتصاد، فإن المطلوب في الفكر والثقافة استراتيجية الاطلاع والنقد والتطويع والتبييىء للتظريات الوافدة من الخارج. . ومرة أخرى، فإن ناتج المجتمع العالمي يفرض نفسه بشكل أخطر من الخطاب، اي بالتقنية والاستهلاكية، هو بين ظهرانينا وإنكاره عودة سلفية خطيرة، بل إن قراءة خطابه والأخذ منه يشكل مناعة وتصليبا وفتح آفاق لدينا.

أمين:

أما فى البلدان التى أصبحت “الوطن العربى” فإن عملية التعريب (بل والأسلمة) فيها قد ظلت بطيئة أكثر مما يتصور القوميون الذين يقبلون أقوال قصص خرافية فى هذا المجال. فالأغلبية الكبرى من سكان المغرب استمرت فى استخدام اللغات الأمازيغية حتى عقود غير بعيدة. وهناك حركة إنعاش “الذاتية الأمازيغية” فى المغرب والجزائر لابد من أخذها فى الاعتبار فى العمل السياسى.

مرة أخرى يعمم أمين ارتكاز قوميين على “قصص خرافية” مع أن المطلوب وضع هذه المسألة في سياقها الطبيعي بمعنى أن هذا الوطن مشترك مع أمم وإثنيات أخرى. وإن القومية الحاكمة، وهي قطرية جوهرياً هي التي تشتبك مع الثقافات واللغات الأخرى في موقف رجعي معادٍ للعرب وغيرهم على حد سواء. وهي لفرط لا ديمقراطيتها ترى في التعدد خطراً على مصالحها الطبقية القطرية الضيقة. إن هذا التعميم وغيره من أمين يضع هو نفسه محط نقدٍ هو في غنى عنه لو حاول بعض الدقة والتوضيح وليس الانجرار إلى أُطروحات غير علمية ليسحبها هو ايضاً على مختلف القوميين ، اي في وضع كهذا يمكن للبعض قراءة أمين على أنه يشمل الماركسيين القوميين أو العروبيين الذين يؤمنون بالوحدة العربية، والذين لا اعتراض لديهم على انفصال هذه الإثنية/القومية أو تلك. بل الذين يقرأون حق هذه الأقليات في الانفصال من مدخل مختلف قد يقوم على أن هذه الأقليات حين تطالب بالانفصال إنما لأن نخبها السياسية الكمبرادورية والثقافية متخارجة (الموجة القومية الثالثة) عنها هي نفسها وليست عن العرب فقط، وأن هذه الأقليات قد تقوي انخراطها / وحدتها/ تحالفها مع العرب في حالة الوحدة العربية القائمة على التنمية والتحرر والاشتراكية.


[1] مقابل الزعم الأوروبي الراسمالي الأبيض أن عصر القوميات هو منتصف القرن التاسع عشر اي عصر القوميات في أوروبا، نرى أن هذه هي الموجة الولى بينما الموجة القومية الثانية هي في منتصف القرن العشرين اي حركات التحرر الوطني في المحيط، وأما الثالثة فهي في حقبة العولمة حيث في معظمها حركات تابعة ومصنوعة من الإمبريالية. يمكن لمن رغب متابعة هذه المسألةنشرة كنعان الإلكترونية .

[2] هذا عنوان كتابي عن المسألة القومية صدر عام 2009 برام اله عن مركز المشرق/العامل للدراسات الثقافية والتنموية.