خطاب المرحلة: عنقك أو تنخَّ!
عادل سمارة
ملاحظة: هاتفني صديق بعد حديث لي مع فضائية المنار قلت فيه :”إن المفاوضات ناجحة” مستهجناً ما قلت.
لو كانت مراكز استطلاعات الرأي حقيقية الوجود والدور، أي لو لم تكن وظيفية، لأثارت اليوم سؤالاً لشارع الأرض المحتلة: هل سمع عن المفاوضات وهل تعنيه.
من يعش في الأرض المحتلة 1967 يلاحظ دون نظر ثاقب أن الشارع لا يُبدي اهتماماً بالمفاوضات لأكثر من سبب. ولعل أهمها أن الشارع مدوَّخ بالتطبيع بأنواعه، مجتمع تمت إعادة هندسته بما يحوله إلى قطيع عبثي الوجود والوزن، مجتمع أُفقد الحِّيز الطبيعي، أُفقد الوطن وحتى المكان، لم يعد منتجاً بل يعيش على ماكينة الدعم المالي الأجنبي والمعادي كريع مالي مقابل مشروعه السياسي الوطني. مجتمع يتم الشغل الآن على تدمير حيِّزه الثقافي وصولاً إلى الذاكراتي. وهذا التدمير يتشارك فيه رأس المال المعولم الذي يعيد الهندسة ويغذيها مستبدلا الأرض بالسيولة المالية، وإلى جانبه القوى السياسية المحلية التي إختارت الخصاء السياسي وتقوم بتجنيد خصائي لكل من ليس منها ويُحتمل أن يتجاوزها.
هذه المفاوضات، هي جوهرياً إملاءات. وإلا كيف شارك العرب في المفاوضات دون وقف شرطهم الكليل (تجميد مؤقت للاستيطان) ولماذا يقول أبو مازن (لا يهمني ماذا يسمون دولتهم، إن أمنهم من أمننا) فأي كلام جميل هذا!. تسير المفاوضات على عدة مسارات متوازية لم تتوقف ذات يوم، ولم تبدأ في يوم بعده. المفاوضات هي مشروع التطبيع الدائم. لهذا، ليس غريباً، وليست المرة الأولى، أن تتخذ المفاوضات إلى جانبها مساراً مالياً. بل إن هذا الاتخاذ أكثر من واضح وينم عن تفكير استشراقي/انثروبولوجي[1] مركب. لذا تسير مفاوضات مالية في نيويروك، يقودها وزير خارجية النرويج يوناس ستور بحضور رئيس وزراء الحكم الذاتي برام الله، إلى جانب المفاوضات السياسية. وهذا المستعمِر الجديد/ممثل الدولة الوكيل للولايات المتحدة والكيان (مستعمِر بالعملة والثقافة والأكاديميا) يطالب، بل يأمر، كل العرب بدفع 500 مليون دولار لسد عجز سلطة الحكم الذاتي، هو الذي يحدد الرقم ويحدد من يدفع. والمهم أن على العرب أن يدفعوا وأن يوافقوا على المفاوضات. أليست مفاوضات ناجحة إذن؟ ومدفوعات العرب يجب أن تتم عبر المانحين الأجانب! اي لا يجرؤ الحكام العرب على تواصل مالي مباشر مع ألرض المحتلة.
وإلى جانب السياسة والمال هناك التفاوض على الفكر والثقافة، وإلا أليس غريباً أن يعلن سلام فياض من واشنطن هذه المرة أنه سيقضي على التحريض الذي يستهدف الكيان الصهيوني. ألم يقض على، او يحاول القضاء على المقاومة المسلحة. هل صدفة تواكب كل هذه الأمور وغيرها هكذا؟ وعليه، على المثقفين المشتبكين أن يختاروا بين أقلامهم واعناقهم.
وإجابة على سؤال صديقي، ليس هناك اليوم من مشروع وطني وصلت قوته النضالية حد الوقوف والصمود التفاوضي حتى تُبرَّر المفاوضات الحقيقية، هذا إذا كانت من مفاوضات مع استعمار استيطاني. هناك مشروع مفاوضات عالمي الطابع، مفاوضات بموجب ترتيب راس المال للفضاء العربي، أي ترتيبه بعد سحقه قومياً، مشروع مفاوضات يبدأ من واشنطن إلى تل ابيب فمختلف العواصم العربية وصولاً إلى شبه العاصمة لشبه الدولة هنا في رام الله[2]. هو مشروع المفاوضات الدائمة التي تبدو في المظهر تقطيع وقت وفي الجوهر تصفية قضية قطر كجزء من أمة وإعادة هندسة تلك الأمة عبودياً.
هذا الكلام حامض، ولكن من يمكنه إنكار أن اللحظة بلا مشروع سوى مشروع التسوية؟ فماذا يقول من يودُّ أن يكتب لا أن يكذب! لم يعد لتنظيمات م.ت.ف لا مشروعا مشتركا ولا مشروعاً لكل فصيل على حدة. كل فصيل منشغل كيف يحافظ على تماسكه الذاتي كي يستحق أكبر قدر ممكن من التحويلات المالية (حزبية الكوتا المالية)، يتعيَّش بموجبها اليمين من المانحين واليسار من الأنجزة ومصدر، والأهم قرار الأموال واحد!. هذا معنى الوصول إلى حال التقاعد الوطني.
مجتمع فاقد للمشروع من خلال استسلام تنظيماته السياسية التي غدت بلا مشروع نضالي ولا فكري عقيدي ولا حتى ثقافي. ولعل الخطيئة الكبرى أن الكفر بالقوى قاد إلى استخذاء وطني. وهذا يرتد إلى التشويه الهائل لعدة عقود بأن هؤلاء “وحدهم” يمثلون الوطن والوطنية. وحيث تحولت هذه القوى إلى هياكل تحافظ على نفسها من الشارع تحديداً وليس من العدو الذي لا تستهدفه، فقد خَصَتْ عناصرها بعدة آليات، وغدت حتى ملاذا لشريحتين جديدتين من المثقفين/ات:
· شريحة من تساقطوا باكراً ليبشروا ويفاوضوا من أجل أوسلو، ويحظون من حكومة رام الله بالتقاعد المبكر ليصبح نضالهم من زيادة الراتب إلى زيادة التقاعد إلى الرحيل.
· وشريحة من تماسكوا لفترة فارتخوا ليجدوا لأنفسهم ملاذا على هامش هذه التنظيمات الرخوة التي تبرر رخاوتها رخاوتهم. هذا مشروع الخصاء!
لقد باتت قوى م.ت.ف بلون واحد وخطاب واحد هو لون المرحلة وخطابها، ولا أدل على أية مرحلة من خطابها. ولا أود الحديث عن المشروع الآخر هنا، مشروع المقاومة والممانعة. في هذه المرحلة هناك مشروع واحد لما تسمى الحركة الوطنية في الأرض المحتلة يحمله فريق التفاوض الفلسطيني/العربي الرسمي. فريق شعاره الشكلي “الحقوق” وجوهره عبارة شمعون بيرس: “نحن نفاوض انفسنا”!. صاغ بيرس عبارته هذه قبل قرابة جيل من العمر، ومن يقرأ مسار التفاوض يجد أن الكيان الصهيوني بقيادة الولايات المتحدة والغرب الرسمي، راس المال المعولم، هو/هم الطرف الذي يحدد للمفاوضات طريقها بدءاً من أوسلو أو الاعتراف الرسمي الفلسطيني بالكيان.
في مفاوضات مدريد أوسلو كان هناك غطاءاً عربياً بأكثر من تبرير، ولكن جوهره البحث عن مداخل لتمرير الاعتراف الرسمي العربي بالكيان. ويتكرر الأمر اليوم بوضوح أكبر بمعنى أن المفاوض الفلسطيني يفاوض باسم الجامعة العربية، اي ان جامعة الدول العربية تفاوض الكيان، ويتم إخراج الأمر كما لو أن أنظمة الجامعة “تحتضن فلسطين المحتلة ” وهي في الحقيقة تُقر عبر هذه المفاوضات أن هذه الأرض هي “إسرائيل”.
هل من جدال بعد؟ أي بعد أن اصبح الحديث مفتوحاً بين رئيس وزراء الكيان ووزير خارجيته وبين جامعة الدول العربية: إما أن تعترفوا بيهودية الدولة أو لا مفاوضات؟
ايها السيد: يعترفوا، بل لقد اعترفوا! وإلا ما معنى الغزل المتبادل بين الأنظمة والحكم الذاتي:
· نقبل للفلسطينيين ما يقبلونه لأنفسهم
· ولا نذهب للمفاوضات دون قرار عربي
كان السقف الأعلى للجامعة هو مبادرتها القتيلة. أما اليوم فيدور الحديث عن تجميد مؤقت للاستيطان، وهو مطلب مرفوض رغم هامشيته مقارنة بحقوقنا. والاستيطان سائل لا يتجمد على اية درجة حرارية بالسالب. ما يؤجل الاستيطان هو عدم توفر الإمكانات المطلوبة لدى الكيان في لحظة ما! وغير هذا من العيب ذكره.
مرة أخرى، بدأت المفاوضات العلنية منذ عقدين، ولأنها بدأت لن تنتهي ولن تتوقف. قد تعلو وتهبط طبقاً لانشغالات السادة ليس إلا.
يعتقد الطيبون أن نجاح وفشل المفاوضات مرهون بحق العودة وما يتبعه من حقوق. وإلى هؤلاء لا بد من كلمة، أن المفاوضات لا علاقة لها بحق العودة لأن حق العودة لا يُشترى بالمفاوضات. ولكن خطاب المرحلة التطبيعي أًّصَّل في أذهان الأكثرية الشعبية أن هناك مفاوضات حقيقية. والخلل كامن هنا في أن من اعترف بالكيان على أراضي 1948 قد نسف حق العودة ليجعله فُتاتاً، ولذا ليس شأنه أن يُعيد تجميع الزجاج المحطم.
من لا يقرأ المفاوضات على هذه القاعدة هو بين بسيط لا يدري وخطير لأنه يدري.
نعم، تسير المفاوضات طبقا لعبارة بيرس : “نفاوض أنفسنا” وبيرس هنا ليس فقط ذلك الجنرال الصهيوني العتيق والنووي وحسب، هو جزء من قيادة العالم في حقبة الهيمنة الأميركية. وهي عبارة تعبِّر عن السياسة الدولية في حقبة الهيمنة الأميركية وتحديداً في عصر هزيمة الثورة العالمية، أو انتصار العمل على راس المال. انتصار مؤقت او قصير المدى هذا أمر آخر. عصر أميركا الذي ملخصه الاقتصادي الراسمالي : مركز/ محيط وملخصه السياسي الثقافي سادة /عبيد. فالسيد/المركز هو الذي يحدد خطاب ومسيرة المرحلة. هذا هو التطبيع على صعيد عالمي ونحن جزء منه تماماً.
وعشرون عاماً ليست طويلة في عمر المفاوضات إذا ما أحسننا قراءة المشروع الصهيوني كمقدمة للمشروع الرأسمالي في سحق الحيز العربي بمساعدة الكمبرادور. منذ سايكس- بيكو حتى اليوم جرى احتواء الكمبرادور السياسي والاقتصادي والثقافي في المشروع الإمبريالي الصهيوني. احتواء جعل من حكام القطريات مسوِّقين للتسوية والمفاوضات. مثلاً الرئيس المصري يجول اوروبا اليوم للترويج المفاوضات بدل أن يزور أنحاء مصر لسماع ما يقوله الشعب المصري. والمثقفون العرب اليوم يتحدثون عن الهويات المتصاغرة وعن الحرب على الفرس وعن السلام العالمي بدل أن يلمسوا نبض الطبقات الشعبية التواقة للكرامة والتنمية والحرية. والمثقفين الفلسطينيين يشغلون وظيفة التطبيع في كل مستوىً ويدعون المثقفين العرب للمجيىء إلى الضفة المحررة[3]. ويزف الأكاديميون الجامعات للجامعات الأجنبية تحت أغطية الورش المشتركة. هؤلاء هم أدوات المرحلة الذين جرى تصنيعهم بدقة وتؤدة.
إذا كان هذا الزمن المديد من سايكس ـ بيكو حتى اليوم قد أُستغرق كي يتم تطبيع الطبقات الرسمية وإدخالها في المشروع الهادف إلى “غربنة” الحيز الرسمي العربي فكم بالحري يحتاجون حتى يتمكنوا من تطبيع الطبقات الشعبية العربية. نستذكر في هذا الصدد، أن الكيان لم يعد معنيا بالاعتراف العلني من أنظمة التجزئة والقطرية، بل هي التي تُهديه وعيها وذاكرتها بل وطنها (سواء بالمبادرة العربية أو بطلب تجميد الاستيطان) والكيان يربأ! ما يريده العدو اليوم هو شرف الطبقات الشعبية، اعتراف الطبقات الشعبية العربية. هذا الشرف هو التاريخ واليوم والزمن المقبل. وعليه تدور المذبحة. بلى، هي مفاوضات دائمة.
وباختصار، ليست المفاوضات مؤقتة ولا جديدة، هي دائمة، وليست فلسطينية صهيونية بل عربية وعالمية كذلك، وليست سياسية وحسب بل مالية ايضاً، وليست لإقامة حتى دويلة فلسطينية شكلية بل لتطبيع الوطن العربي. أما والحال كما هو، فليس المطلوب مناقشة صديقي إن كانت ستنجح أم لا: السؤال هو أن لا بد من مقاومة دائمة عربية اساساً، ولا بد من تنمية بالحماية الشعبية بدل التمويل، وهذا يتطلب المجاهرة بوجوب إسقاط المرحلة بكل شخوصها وطبقاتها واقتصاداتها بدءا بتفكيك مفاصل الدولة القطرية وحدودها بالطبع.
[1] كلما بدأ الحديث التفاوضي تُثار مشكلة العجز المالي للحكم الذاتي كآلية مكشوفة كي لا يعترض المعتمدون ماليا على السلطة بمعنى إن تحركتم لن تقبضوا! هو أمر مكشوف، ولكن تكراره يكشف أن حامل كيس المال يبتز الشعب بالمال على حساب الوطن. أليست هذه إحدى جوانب إعادة الهندسة بشكل مكشوف تماماً؟
[2] بلدة تحولت إلى مدينة، تخلت عنها بكارتها وبكورتها الشرقية متحولة إلى سقوط وطني بالتطبيع وأخلاقي بالدعارة واقتصادي باموال وسخة.
[3] من مفارقات اللحظة أن يعلن الاحتلال اليوم 22 أيلول فرض طوق أمني على الضفة والقطاع بمنناسبة “عيد المظلة”. هل بوسع المطبعين العرب والفلسطينيين إدخال ريشة عصفور من الممرات التي يزعم المطبعون أنها بيد “الفلسطينيين”.