هل تحفر أزمة رأس المال جَدَثها هي والنسوية؟
بادية ربيع
يردد كثير من الناس عبارات صحيحة دون مقاربة جادة لمعناها ومحمولها، فلو تمت المقاربة لترتب عليها الكثير من المهام والأهمية بمعنى اعتمادها أو الالتزام بمضمونها وما تتطلبه. ربما تكمن هنا إحدى الجوانب الأهم للقراءة وربما من هنا تبرز مخاطر الطبقات أو النخب الحاكمة في تشجيعها وحفزها الاستهلاك إلى جانب تقزيم الوعي بتصنيع الإنسان كتابع للتكنولوجيا فيبقى متلقٍ مبهوراً وبشكل خاص عبر هيمنة الإعلام ودقة إخراجه.
يزعم إدوارد برنياس وهو ابن أخت فرويد بأنه مخترع أو مُصنِّع الدعاية الحديثة والمقصود هنا الدعاية أي التلاعب والنفاق والتزوير والكذب لصالح النظام الراسمالي بما يخدم مصالحه سواء في العدوان الخارجي أو الاستغلال الداخلي. والدعاية هنا هي حرب ناعمة بمعنى أنها تسحب الإنسان طائعا وربما سعيدا لخدمة راس المال وهذا أفيون الهيمنة.
لينجز راس المال هذا المكسب أو هذه الحرب، لا تعوزه التكنولوجيا الأكثر تطوراً والمال للإنفاق على الدعاية أو الإشهار وحسب، بل لا بد من توفر المستوى الثقافي اي العنصر البشري الذي يضع القاعدة الفكرية/السياسية/النفسية لترتيب مصفوفة هذه الأمور والعلاقة ما بينها وبالتالي تجنيد الجمهور لصالحها. وقد لا نعتقد نحن كمواطنين ببساطتنا أن راس المال، وخاصة في مستوى الدعاية، يبذل كل هذا الجهد، لكنه يبذل أكثر.
في سياق كهذا قامت شركة السجائر الأميركية بتعيين برنياس في منصب تثقيفي دعاوي: “لإقناع النساء بحقهن في التدخين في الأماكن العامة. وبربطه التدخين بتحرر المرأة جعل من السجائر مشعل الحرية”.
من يمكنه ألقول علانية أنه ضد حق النساء في أي أمر في مجتمع تحكمه اللبرالية السياسية والرأسمالية الاقتصادية؟ بل إن هذا صعب حتى في أنظمة حكم سلفية. ولذا فحين يتبنى بارنياس قضية نسوية في مجتمع بهذه الثقافة لا بد أن تنال قسطاً من النجاح بمعنى أن لها جمهورها النسائي/النسوي على الأقل. وحين تكون المسألة ممولة بسخاء بما هي استثماراً، يزدد حظها في النجاح.
ولكن لماذا اختار بارنياس التدخين في الأماكن العامة؟ أليس هذا ضمن العلاقات الاجتماعية المظهرية التي يقلد الناس فيها بعضهم بعضا وهذا يزيد الاستهلاكية. هذا إضافة إلى أن التدخين في الأماكن العامة هو أكثر استهلاكا من المنازل على الأقل لأسباب صحية. ناهيك عن ما يتضمنه التدخين الجماعي في الأماكن العامة من توفير فرص استعراض تأييد المساواة، وممارستها…بالتدخين!
أما القضية الأهم فهي مهارة وذكاء راس المال في استغلال المدارس النسوية التي دأبت على مواجهة ومعارضة الماركسية، فنشاط شركة السجائر فيما يخص: حق النساء في التدخين في الأماكن العامة أمر يجند الحركات النسوية لصالح شركة السجائر وخاصة إذا ما طُرح الأمر على أرضية المساواة مع الذكور، على الأقل مثلاً برأي المدرسة الراديكالية. على أنه من قبيل الابتسار أن نحصر المسألة في الربح الآني لشركة ما. فالأهم هو توظيف المرأة عبر هذه المظهرية لصالح ثقافة راس المال أو، و/أي في مواجهة الاشتراكية.
يُحيلنا هذا على نقاش مجدد للمسألة الطبقية بمعنى:
ما الأبقى ذلك النضال النسوي المظهري للمساواة، والذي يتخذ حالات غير قابلة للتحقق مثلا، لغة للنساء، أو قراءة كل شيء جندريا (النوع) والنوع واحد! فالتأنيث توليد اجتماعي وليس طبيعي، ولذا لم يُفلح الجندر سوى في تخريب النضال الطبقي وحتى القومي. لقد تعددت القراءات الجندرية لتصبح الجندرية صناعة تبدأ من حق التدخين للنساء في الأماكن العامة وأثره على الجندر إلى قراءة تأثير ثقب الأوزون على النساء واختلاف تأثيرها على الرجال، أو مثلاً محاولة إيصال علم التجسس إلى معرفة كيف يقوم الملكان الموكلان بما يعمله الإنسان كيف يقومان بالتمييز في التعذيب داخل القبر بين النساء والرجال!.
لقد تدهورت الحركة النسوية التي نشطت في الغرب الراسمالي في سبعينات القرن الماضي. بقيت منها شعاراتها بالطبع. لا بل الأمر أخطر، لقد تم احتواء النسويات الغربية في النظام الراسمالي الذي أخذ يجندهن ضمن نسوية كولونيالية. تأنجزت النسويات وأصبحت موظفات لغزو العالم الثالث لبث الفكر اللبرالي الجديد، للتحريض ضد النضال القومي والطبقي وضد الإسلام. والفكر اللبرالي الغربي المركب على راسمالية متغولة متوحشة لا يمكنه أن يتأصل في بلدان المحيط على الأقل لأن الأرضية الاقتصادية الاجتماعية، اي التشكيلة لم تُفرز فئات”طبقات اجتماعية وثقافة تستطيع تقبُّل هذه اللبرالية وتكون حوامل لها. وهذا أنتج تشويهات نسوية في المحيط اقرب إلى مدرسة ما بعد الاستعمار نسوياً. لا بل أخطر بكثير. فإذا كانت مدرسة/مدارس ما بعد الاستعمار تجهد للتوصل إلى التطابق، وبرأي منظِّريها او بعضهم تطمح للعُلُو إلى مستوى أدبيات المستعمِر نفسه، فإن نسويات المحيط لسن سوى صدىً باهتاً لبُنى ونظريات لا يتمثلنها.
لعلها مفارقة مضحكة حقاً في معرض الجد، تلك هي تَرافُق حظر التدخين في الأماكن العامة مع استحكام أزمة الراسمالية المعولمة مالياً واقتصادياً من جهة وأزمة الفكر اللبرالي نفسه كمبنى ثقافي كخطاب واصطدامه اليومي بأجساد الأمم والطبقات الفقيرة من جهة ثانية. صحيح أنها لا تقوى أو لم تقوَ بعد على الصدام، ولكنها تجمع من طاقة الصدام ما يكفيها الانتصار الحق.
وهكذا، حين يحلل المرء حالة ما، لا بد من قراءة مكوناتها وقراءة الترابطات والتناقضات فيها. هذه حقبة تتلاشى فيها الحركات النسوية ملحقة نفسها بالذكورية الراسمالية في سياق أسوأ مما كانت عليه العلاقة قبل فورة النسوية منذ أربعة عقود. حقبة تلعب فيها نسويات الغرب دورا عرقياً، لونياً، طبقيا، قوميا، كولونياليا على نساء المحيط مدعَّمات بالمال الذي هو اساساً من فوائض مسحوبة من المحيط نفسه. حقبة نفض فيها الشيوعيون الحقيقيون عن وعيهم خزياً أو خجلاً تضمخوا به بهزيمة التحريفية ليرفعوا مجدداً حق الأمم والطبقات في الثورة الاشتراكية. في حقبة كهذه، لا بد للنسويات الراديكالية وغيرهن أن يطوين جلابيبهن على جيوبهنَّ كي لا يعرقلن به النضال الطبقي كي يتم تكريس حقيقة ولا أوضح: لتناضل كل امرأة مباشرة ضد الذكورية ضمن الحركة السياسية. اي ضد الزوج والرفيق، وليناضل كل رفيق كذلك من أجل ذلك. من لا تتصدى لزوجها لا يتصدى له أحد نيابة عنها أحداً، وقمع المنزل لا تعرفه سوى السيدة في المنزل،أن تتصدى كما اشترطت فاطمة الزهراء على الإمام علي لا أن يتزوج امرأة أخرى وحسب، بل أن تحضر معها خادمتها، وروزا لكسمبورغ مع البحار. ومن لا تنتقد حزبها لا ينتقده أحد نيابة عنها كما فعلت أنيسة أرماند مع لينين كرفيق وألكسندرا كولنتاي مع الحزب. ولم يعد خافياً تخليق منظمات الدفاع عن المرأة كبديل للعمل الثوري. ماذا قدمت هذه الأنجزة النسوية سوى وظائف لمن يعملن مع المؤسسات الحكومية التي تمول هذه المؤسسات لأهدافها؟ وماذا كانت النتائج؟:
· إلحاق النسويات الغربيات مستسلمات لرأس المال بدل أن يلعبن دورا اليوم ضد الحرب وفي جبهة إلحاق الهزيمة بالراسمالية المأزومة.
· وتحولهن إلى قوميسارات ثقافيات يلعبن دوراً كولونيالياً في المحيط لصالح راس المال المركزي.
لا تقسيم للنضال ولا إعفاء للذات الفردية أو الحزبية أو النضالية من النضال الواحد الموحد. هذا معنى أممية الطبقات الشعبية، في مواجهة أممية راس المال. فإذا كانت البرجوازية طبقة متآلفة حتى على الصعيد العالمي، فهل يمكن قتالها فرادى! يقتضي التقاط اللحظة ثورياً أن تقوم الحركات الاجتماعية جميعا والنسوية خاصة بالتآلف لإسقاط راس المال. وبدون راس المال لن تكون حقوقا ولا للرجل أيضاً. ولا يمكن لأية نسوية راديكالية أن تحقق للمرأة ما هو حقها الحقيقي بدون نظام اشتراكي. إن الوهم والورم الثقافي الذي تؤصله النسويات بأن الاشتراكية هي للرجال، ليس إلا خضوعا لخبث راس المال في فرق ـ تسد.