لماذا يجب أن ندفن أنكيدو (الحلقة الثالثة)

مؤتمر التمويل الدولي، التنمية وتشكيل الحيز الفلسطيني.

(مركز دراسات التنمية/جامعة بير زيت، 27-28 أيلول 2010)

عادل سمارة

· الاقتصاد السياسي: بين التحول وإعادة الهندسة الإجتماعية

· تمفصل أنماط بلا إنتاج!

ناقشنا في الحلقتين السابقتين قضايا عدة منها ما لم تتعرض له أوراق المؤتمر، كالتطبيع وعدم نقد الذات، وتقصير الشارع في مواجهة المتمولين والمطبعين…الخ. وفي حين وُجِّه أو كِيلَ النقد للمنظمات غير الحكومية المحلية من قبل مختلف المتحدثين بقومياتهم , واتجاهاتهم، لم يتم التعرض للمنظمات غير الحكومية الأجنبية التي هي حواضن/أمهات/مولدات منظمات الأنجزة المحلية، لا بل هي صلة الوصل المباشر بين الحكومات أو الأنظمة الحاكمة في المركز وبين المنظمات غير الحكومية المحلية. لقد كان النقد الموجه للتمويل نقداً في العموميات دون أن يتعرض كما اشرنا للتطبيع بما هو تجسيد على الأرض لأهداف التمويل التي هي بالضرورة والقطع التطبيع بأنواعه، كما لم يتعرض النقد للمنظمات غير الحكومية الأجنبية التي تجسد هذا التطبيع عبر إعادة هندسة المجتمع.

من جانب آخر، هل يجوز لنا سؤال أكاديميين لماذا لم تكن هناك أوراقا في الاقتصاد والنظرية، وانحصرت الأوراق في السياسة والخطاب الشكلاني؟ لم تكن هناك أوراقا قوية سوى ورقتَيْ، الصديقة سارة روي والرفيق باتريك بوند! هل التنظير والتعمق حكراً على الضيوف وللمحليين السياسة السطحية؟

كنت اتطلع إلى ورقة استراتيجية بمعنى: ما طبيعة تأثير التمويل على:

 التحول Transformation

 الهندسة وإعادة الهندسة المجتمعية؟

 فما بالك بتذويت إعادة الهندسة المجتمعية! (أنظر الحلقة القادمة)

وما أقصده معالجة لأين اتجهت البلاد، ما هو نمط الإنتاج المهيمن، هل هو راسمالي محلي ذاتي الدفع والتطور؟ هل هو مركَّب، هل هو نمط التساقط Trickle-down، هل هناك تمفصل لأنماط إنتاج ِArticulation of Modes of Production؟ وهل التمفصل طبيعي ومحلي ام بتأثير المستعمِر، وهل التبادل اللامتكافىء كلاسيكي الطابع أم هو Armed-unequal Exchange ضمن خصوصية الحالة الفلسطينية؟

أنا أعلم أن الجامعات المحلية تُباعد ما بين نفسها وبين التعميق النظري فهي غارقة في المنهج البارسونزي الأميركي Talcott Parsons[1]، وترفض حتى وضع مقدمات نظرية[2] في الأطروحات، وترسل الطلبة إلى جامعات هي “مدارس في التطبيع مع الكيان ومع اللبرالية الغربية” تطبيع اكاديمي وسياسي، بل مصائد!، ولكن المؤتمر ليس مساقاً صفِّياً، أو هكذا يُفترض ومن يُقدم ورقة يقدم مستواه وعليه الدفاع عن قامته العلمية. واعلم أن الدول التي اشترت كلية هنا وأخرى هناك، وخاصة فرنسا وبريطانيا والنرويج (وهي دولة تخترق مجتمعنا بالوكالة عن أميركا) لا شك تمنع مستوى معيناً من التجذير، وإلا ماذا تستفيد من صرف الأموال على الجامعات المحلية، وماذا ستقول لها أميركا؟. وابعد من هذا، فالمحاضرين الذين يصرون على رفع المستوى المعرفي للطلبة من مقتربات ماركسية حتى لو عالية التجريد يُطردون من الجامعات المحلية.[3]

ولكن، من يتابع الأزمة المالية/الاقتصادية العالمية وما يدور في العالم، وعلى الأقل محاضرة الرفيق باتريك بوند يمكنه إدراك أن “العلم” الاقتصادي البرجوازي قد تهاوى وأن كثيرين من اساتذة هذا العلم ألقوا بكتب المساقات على الأرض أمام الطلبة فلماذا لم نسمع بهذا؟ لماذا نتأخر[4]؟

هناك خلط يقوم به البعض بين التحول الاجتماعي وإعادة هندسة المجتمع. في التحول قوة دفع وديناميكية ذاتية، فعل إيجابي، مقاومة، حراك اجتماعي وحتى صراع طبقي. ولذا، يُفترض في التحول أن ينتهي رغم الصعود والهبوط، أن ينتهي إلى الأمام أو إلى الأعلى.

أما إعادة هندسة المجتمع فهي فعل فاعل خارجي سالب الهدف موجه ضد بنية اجتماعية كسيحة يتم اللعب بها وتكييفها طبقاً لما يقرره عامل خارجي قوي، تشعر هي بالاستسلام له وإليه. وهذا ينطبق على التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية Soci-economic Formation, كما ينطبق على القوى السياسية والطبقات فرادى وحتى ضد الأفراد. أليس بإمكان التمويل الأجنبي تحويل شرائح أو حتى طبقة من برجوازية قومية ذات توجه إنتاجي إلى كمبرادور؟ أليس بإمكان تمويل الأنجزة والمنح والبعثات أن تحول شخصٍ إلى كاتب تقارير تحت غطاء بحث في الدكتوراة؟

تتسم التشكيلة على العموم وخاصة في بلدان المحيط بتمفصل بين نمطين على الأقل، نمط إنتاج رأسمالي وغير راسمالي، على أن يكون القانون العام هو توسع نمط الإنتاج الراسمالي على حساب اللا – أو الماقب-رأسمالي. Non-capitalist or Pre-capitalist.

في حوارات التنمية دوليا، وخاصة الحوار الهندي و الأميركي اللاتيني Indian and Latin American Debate وحتى بالعموم، يتم توسع نمط الإنتاج الراسمالي عمليا على حساب غير الراسمالي عبر تغلغل الإمبريالية ولهذا التوسع سمته الأساسية وهي فصل المنتج عن وسائل إنتاجه.

ولكن، تُرافق هذا ظاهرة هامة كذلك وهي انتقال التمفصل من المستوى التجريدي النظري (فنمط الإنتاج هو أصلا مفهوماً مجرَّداَ) انتقاله بل تجليه/تمظهره في العلاقات الاجتماعية الطبقية، اي إلحاق وخضوع الطبقات الممثلة لِ والمتعيشة من نمط الإنتاج المتراجع، إلحاقها بالطبقات التي تمثل نمط الإنتاج المهيمن اي الراسمالي. يترتب على هذا التغلغل، في الحالة الكلاسيكية بالطبع، تحويل الفلاحين إلى العمل المأجور في مناجم وربما برتلتهم بالعمل في المصانع. لندعُ ذلك تجريد الفلاحين من الأرض.


[1] يعتبر بارسونز سيف الحداثة اللبرالية في مواجهة الماركسية. من بين كتاباته:

The Structure of Social Action, McGraw-Hill, New York, 1948

Societies: Evolutionary and Comparative Perspectives, Prentice-Hell, New York, 1966.

Sociological Theory and Modern Society, Free Press, New York, 1960.

[2] سوف أبدأ ربما قريباً بنشر حلقات من مذكرات مثقف الطريق الصعب، وسأوضح ماذا واجهني من تعمية نظرية لطلبة في كتابة أطروحاتهم.

[3] مثلا، الراحل سليمان بشير نموذج ماساة المثقف العارف طُرد مرارا من عدة جامعات محلية فرحل بالسكتة القلبية، والراحل حسين البرغوثي، ولم يكن متشدداً ماركسياً طُرد من إحدى الجامعات، وإسماعيل الناشف فُصل قبل عامين، واليوم يُتهمونه بالتطبيع لأنه يعمل في جامعة في الخط الأخضر.! وهو يحمل جنسية الكيان بما أنه من الطيبة في المثلث المحتل عام 1948. ومن يتهمه يحمل نفس الجنسية وعاش ردحا من حياته في الكيبوتصات! كان على اسماعيل أن يرحل إذن وأن يعمل في بار في بتاح تكفا، كي يأكل وبالطبع، وهذا الأساس، كي ينسى ما يعرف! أما مفيد قسوم فقيل له: حاولنا إفهامك ما نريد…لكنك لم تتجاوب. فلم يكن أمامه سوى الرحيل. أما من” فهموا” ما أرادت الأكاديميا أن يعمل المُحاضرون وان يبحث المبعوثون وفي اي قطر عربي فرزقهم واسع إلى حد أنهم يُمنحون ويًمنحون!

[4] كان الراحل حسين البرغوثي يردد دائماً عبارة لشاعر مجري: “عن كل شيىءٍ دائماً متأخرون”