لماذا يجب أن ندفن أنكيدو (الحلقة الخامسة)

مؤتمر التمويل الدولي، التنمية وتشكيل الحيز الفلسطيني.

(مركز دراسات التنمية/جامعة بير زيت، 27-28 أيلول 2010)

عادل سمارة

تذويت إعادة الهندسة

حين يقوم المحليون بإعادة هندسة مجتمعهم!

يفتح هذا على مسألة نوقشت سابقاً وهي من الطرد إلى الإزاحة فالإنزياح الذاتي[1] حيث يقوم المستعمِر بدفع الفلسطينيين اي الأصلانيين إلى قرار الرحيل دون فعل مباشر منه ودون حدث مباشر وملموس أو مرئي على الأقل من قبل الكيان الصهيوني الإشكنازي في حالتنا. وهذه تفتح على أخرى حساسة جداً وهي التذويت الذاتي لإعادة الهندسة الأمر الذي لم يتطرق إليه أحد بمعنى أن هناك فِرَقاً من المثقفين والأكاديميين والساسة الذين حملوا مهمة التطبيع بناءاً على حصولهم على التمويل، بما أن كل تمويل مشروط بتطبيع وبموجبه ينفذون ما يجب أن ينفذه الأجنبي نفسه ولا يسعه ذلك بسهولة. ينفذونه ذاتياً اي يتذوتوا الموقف والمشروع.

تذويت إعادة الهندسة يعني بوضوح ان يتمثل المحلي (كَ -ذات- فردي أو جماعي-طبقي-حزبي…الخ) ما نظَّر له المانح الأجنبي وما خطط له وما حتى جسَّده، وبالتالي قيامه بتوظيف/تشغيل/توكيل محلي ليتابع المشروع. هذا المحلِّيُّ المجلَّس في الوسط بين الأجنبي/المستعمِر وبين الكميونتي المحلية هو الأنسب للقيام بهكذا مهمة، فهو اقل كلفة وأكثر اقتراباً وأكثر قبولا من الناس بل لديه إمكانيات اختراقهم دون أن يشعروا أو يتنبهوا ويحذروا. هنا يتقاطع تذويت إعادة الهندسة مع ما اقترحناه كتسمية للتطبيع إي: إستدخال الهزيمة Internalization of Defeat.

تذويت إعادة الهندسة يتجلى في ويشترط توفر مكونات وتنفيذ مخططات أو مهام لا بد منها كي يستقيم الأمر ومنها:

الكفر بالسرديات الكبرى لأن إيمان المجتمع بالسرديات الكبرى يتناقض مع الأجنبي الرأسمالي مبدئياً وليس فقط ميدانيا وتطبيقياً. فالكفر بالسرديات يعني تفكيك اي مشروع كفاحي جماعي، اي مشروع مقاومة وهذا يجعل إعادة الهندسة أكثر سهولة في المجتمع. مثلا: الكفر بالقومية العربية يُسهِّل على المطبعين تركيز القطرية الفلسطينية وحصر مهمة النضال الفلسطيني في أوساطهم، وهذا يوفر مناخ اليأس والتيئيس واستدخال الهزيمة الذي يقود بالضرورة والطبيعة إلى الاعتراف بالكيان الصهيوني الإشكنازي.

تذويت إعادة الهندسة يبرر قبول التمويل الأجنبي والانغماس في التموُّل من الأجنبي يخلق أعداداً متزايدة من المعتمدين عليه والمضطرين بعد الاعتماد على تنفيذ شروطه، ومن ثم توليد وصياغة مهام متسقة بل امتداداً لما يريده الأجنبي. مثلا، توليد شريحة متلقي العائدات غير المنظورة من المؤسسات الأجنبية، شريحة الذين يتماهون مع ثقافة الغرب الرأسمالي الفردانية ويروجون لها سواء بالتنظير للتطبيع وممارسة التطبيع ونشر ثقافة الاستهلاكية عبر ممارساتهم الحياتية مما يغري آخرين بالبحث عن علاقة بنفس المصادر التي منحت هؤلاء فرصة القدرة الاستهلاكية. ويصبح هذا البحث في تقليد الآخرين أمرا مقبولا وطبيعيا في حالة سقوط السقف السياسي الناتج عن سقوط السرديات الكبرى التي بسقوطها يصبح تفكك المجتمع أمرا طبيعيا، تفككاً سياسيا ثقافيا طبقيا واقتصادياً بالطبع.

لنقرأ التذويت هذا من زوايا أخرى. يذكر المطلعون أن م.ت.ف كانت تمجِّد دوماً موقف اتحاد نقابات العمال الفلسطيني في الأرض المحتلة 1967 بأن الطبقة العاملة هي اول من اعتبر منظمة التحرير الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.

ولم يكن الأمر حقاً هكذا، بل كان بالمعكوس، بأن الطبقة العاملة كانت قد ضيَّعت موقفها الطبقي حيث ألحقته بموقف القيادة البرجوازية بمعنى أن القيادة البرجوازية بما هي التي قادت الكفاح المسلح قد اعادت هيكلة الموقف الطبقي للطبقة العاملة، اي أعادت هندسة الطبقة العاملة بما يخدم موقف البرجوازية وسقفها السياسي. وفي السياق نفسه، حين تأكدت البرجوازية أنها أعجز من الاضطلاع بعبء تحرير فلسطين وعجزها، بما هي برجوازية، عن الاضطلاع بالمهمة الأعلى تضحية أي إعلان فشلها وهزيمتها وتسليم الراية لقيادة أخرى، فقد استسلمت البرجوازية هذه للإمبريالية والصهيونية في إعادة هندستها كي تتقزَّم إلى مشروع الحكم الذاتي، وهو المشروع الذي حفلت الصحافة والإعلام المحليين بوصفه على أنه تحرير مدن الضفة الغربية وقطاع غزة.

وماذا كان التطور السحري؟ لم تكن البرجوازية قد خَصَت الطبقة العاملة وحدها بل كانت قد خصت المبنى الطبقي بجِماعه وكذلك التشكيلات السياسية. ومن هنا، أخذت إعادة هندسة المجتمع الفلسطيني في الأرض المحتلة كل من إعادة الهندسة المجتمعية من الأجنبي من جهة وتذويت إعادة الهندسة على يد البرجوازية المحلية ايضاً وهذا أخطر.

لم تختلف النتيجة فيما يخص الحركة الطلابية في الأرض المحتلة، وإن اختلفت ظروف النشوء وقوة الدور. لقد نشأت الحركة الطلابية في الأرض المحتلة كقوة “بريَّة”. لم يُنشئها نظام سياسي ولا حتى حركة سياسية وإن دخلتها عناصر كثيرة من الحركة الوطنية وقادتها بالطبع، بل قادتها إلى أن تمكنت من تعليبها. وكان الأمر شبيها باتحادي الكتاب والصحفيين اللذين حُقنا بالتمويل ليصبحا اداة للحكم الذاتي. كانت الحركة الطلابية بارومتر المقاومة العالية آنذاك. وظل الأمر هكذا إلى أن كانت اتفاقات اوسلو وعودة القيادات من الخارج في مناخ التسوية[2].

لذا لم تشهد الجامعات نضالا طلابيا ضد الاحتلال، وكل ما كان يحدث بعض الإضرابات احتجاجاً على قيام إدارات الجامعات بزيادة الرسوم. ومن ناحية حقيقية لا توجد في الجامعات المحلية حركة طلابية بقدر ما هنالك مجالس طلبة لأغراض نقابية بسيطة المطالب والسقف تتنافس حزبياً.

لم تصل المقاومة إلى الأرض المحتلة إلا وكانت قد أُعيدت هندستها. اتت مسلحة بسلطات وصلاحيات إدارية ومالية من قبل الاحتلال فكان لها أن تتحكم بالمجتمع من هذا المدخل. لذا، ليس عجيباً أن تنطفىء الحركة الطلابية مع مجيىء سلطة الحكم الذاتي، وأن تتم عملية “أمننة” هذه الحركة سواء باختراقها بالأجهزة الأمنية أو بقمعها من قبل هذه الأجهزة. لقد توقفت الحركة الطلابية عن لعب دور نضالي ضد الاحتلال مع قيامه بإعادة الانتشار. كما عجزت عن تشكيل ولعب دور نقابي طلابي لأنها أُخذت بمفهوم الكلوية الوطنية، فأُتْبِعَ كل فريق طلابي لقيادة تنظيمه السياسية. وبالتالي تمت إعادة هندسته بما يخدم التسوية إلى الحد الذي انخرطت مجموعات طلابية في علاقات تطبيعية مع طلبة من الكيان الصهيوني.

وإذا كان تذويت إعادة الهندسة طلابيا وعمالياً يتخذ مساراً عفوياً وقد لا يفرز من أوساط هذه القطاعات “مبادرين/متطوعين” لالتهام معايير إعادة هندسة المجتمع وتطبيق هذه المعايير، فإن حالة المثقفين والأكاديميين خطرة جداً. فبوسع المثقف أن يقدم فرشاً فكريا للنقيضين: للتطبيع وللمقاومة. أي للخيانة وللثورة. وللمثقف والأكاديمي قدرة تأثير تقترب من قدرة تأثير المال في التأثير على الناس (ألم يقل السيد المسيح: لا تعبدوا إلهين، الله والمال)؟، فكيف إذا تحالف أو تقاطع.

المثقفون وراس المال؟ وكيف إذا كان رأس المال أجنبياً معادياً هدفه التطبيع!

هذا ما يجري في أوسلو- ستان. يتصدر مثقفون مشاريع التطبيع سواء بدعوة عرب لزيارة الأرض المحتلة أو اللقاءات مع صهاينة في هذه الأرض أو في النرويج بشكل خاص بما هي حاضنة أوسلو، أو الأرض المحتلة 1948. ويتصدر مثقفون الدفاع عن المطبعين واستقبالهم وحتى الدفاع عنهم ضدنا حيث ننقدهم.

إن المثقفين هم قوة الفكر التي إما أن تغذي التمسك والوعي الشعبي بالسرديات الكبرى أو تحطم هذا التمسُّك. وعليه، فمثقفو التطبيع يروجون ضد القومية العربية بشكل خاص وضد الاشتراكية وضد المقاومة ويتنفعون بالمال الأجنبي من منح وبعثات لا شك مشروطة أو تدريبية للبعض على العمالة الثقافية. هذا جانب واضح من تذويت الهندسة نيابة عن المستعمِر الذي يقوم معهم بتقسيم عمل:

· يوفر المستعمِر التمويل

· ويقومون هم بتنفيذ إعادة الهندسة الاجتماعية ذاتياً.

إن تحطيم الإيمان بالسرديات “يحرر” المرء أو الجماعة من العقائد ومن وخز ضمير الانتماء ويصبح فردا يبحث عن مصالحه الفردية دون خجل، بل ويسطع بتبرير التعامل المالي والتطبيعي مع الأجنبي بدرجة عالية من التبرير الذي يصل التحدي.

وإعادة الهندسة بالتذويت لا تنحصر في المستويات التي تحدثنا عنها بل هي تشمل مختلف مستويات الحياة، وقد تبتدع مستويات جديدة. تتفشى إعادة الهندسة الاجتماعية بشكل خاص ومؤثر في تعميق الاستهلاكية بما هي آلية لنزيف الفوائض من المحيط إلى المركز، من البلدان ضعيفة الإنتاجية إلى البلدان المتقدمة. فإضافة إلى أن الاستهلاكية لعنة طبقية حتى في البلد الواحد، فهي لعنة على البلدان الفقيرة ولكنها بدرجة أو أخرى منحة للبلدان المتقدمة وتحديداً للطبقة المالكة التي تشجع الاستهلاكية وتبتدع آليات متعددة للإعلان وإشهار المنتجات مستخدمة بدعة جسد المرأة. وبالطبع، فإن الاستهلاكية قد وجدت في اللبرالية الجديدة، وإعادة التصحيح الهيكلي في اقتصادات المحيط ولا سيما فتح وانفتاح الأسواق، تحت شعار مخادع: “تحرير التجارة الدولية Liberalization of International Trade” وهي بالطبع غالباً تجارة باتجاه واحد تصدير من المركز إلى المحيط.


[1] انظر مقالة عادل سمارة: “الاستيطان من الطرد للإزاحة فالانزياح الذاتي”، في مجلة كنعان، العدد 94 ، كانون ثاني 1999 ص ص 87-101.

[2] صادف اليوم الثاني لهذا المؤتمر الذكرى العاشرة للانتفاضة الثانية. وقف عشرة طلبة فقط يحملون يافطة حزينة لهذه الذكرى، ومرت بهم جموع الطلبة التي لا تعرف أن هناك انتفاضة . أليس هذا بتاثير الهندسة المجتمعية؟ ومرت جموع المحاضرين في الكليات والمعاهد المولة من الغرب الرأسمالي بأنواعه ولم يلتفتوا، ومر حاملو البعثات من الغرب مسلحين بالمال تماماً كما مرت سيارات القنصليات الأجنبية التي اندس رجالها بيننا باسلحتهم الفردية المسدسات المدسوسة تحت البذلات السوداء بيننا.