نقاش مع كتاب د.محمد نايل عبيدات حول النقابات
النقابات المهنية الأردنية: طريق النهاية.. ؟؟
هشام البستاني*
بعد أن شكلت النقابات المهنية الأردنية ضمير المجتمع المحلي الذي لا يهادن بتركيبتها السياسية الشمولية الجامعة المعارضة، وبتركيزها على النضال المبدئي الملتزم بالثوابت والبعيد عن البراغماتية، وبعد أن كانت النقابات المهنية الأردنية تمثل حالة الاجتماع السياسي الأرقى في البلاد بانتخاباتها الحرّة ولجانها المعنيّة بالعمل العام المتعيّن بثوابت أساسية كبرى هي: مقاومة التطبيع وعدم الاعتراف بشرعية إسرائيل والمطالبة بالغاء اتفاقية وادي عربة (لجنة مقاومة التطبيع)، واعتبار القضية الفلسطينية جزءا عضوياً من قضية الأردن (لجنة فلسطين، وعدم اعتراف النقابات بقرار فك الارتباط)، ومعارضة السياسات الاقتصادية الافقارية للحكومة (لجنة حماية المستهلك)، واطلاق الحريات العامة (لجنة الحريات)، ودعم المقاومة في العراق وعدم الاعتراف بشرعية الاحتلال وافرازاته السياسية (لجنة نصرة العراق); وبعد أن كان العمل النقابي يتميز بالتنوع والغنى والفعالية والحركية من حيث مشاركة مختلف المشارب السياسية والايديولوجية ضمن هذه اللجان في تناغم قل نظيره خارجها; تفقد النقابات اليوم بوصلتها السابقة، وتتراجع بشكل حاد عن مواقعها نتيجة لعدة عوامل سأوردها فيما يلي من حديث.
د. محمد نايل عبيدات كان أحد أول المتنبهين لهذا التراجع، وبدأ بالاشارة اليه في كتاب نشره عام،1999 ويتابع ما بدأه في كتاب جديد هو الآن بين أيدينا وعنوانه “النقابات المهنية الأردنية: صراع البقاء” (إربد: عالم الكتب الحديث للنشر والتوزيع، 2010). وسيكون هذا الكتاب الجديد هو موضوع نقاشنا ومدخلنا لقراءة واقع ومستقبل النقابات المهنية.
سأبدأ من فصل “التعددية في النقابات المهنية” (ص 21 – 33) الذي يحاول فيه المؤلف الدفع باتجاه ضرورة الاتفاق بين مكوّنات الجسم النقابي على ثوابت أساسية، والتخلي عن صيغة القوائم البيضاء والخضراء باتجاه عمل جبهوي يضع “المصالح الكبرى للأمة” كثابت أساسي على أن يتم الاختلاف على ما دونها. هذا كلام جميل يشوبه شيء من المثالية.
الواقع أن التمثيل النقابي الآن لم يعد ينطبق عليه توصيفات القوائم “البيضاء” و”الخضراء” بالمعنى المفترض من هذه التلوينات كعلامات ايديولوجية أو سياسية متمايزة. فلا خلافات سياسية كبرى بين النقابيين، ولا خلافات نقابية كبرى بينهم، ولا تطرح القائمة الخضراء حل الدولتين في فلسطين مقابل التحرير من النهر الى البحر للقائمة البيضاء، هذا غير موجود، ولا تطرح القائمة البيضاء تمكين أصحاب العمل من المهنيين في حين تبحث الخضراء عن إنصاف العاملين بأجر منهم. وحتى في وجود خلافات سياسية وايديولوجية فعلية فإن ذلك لا ينعكس على طبيعة التحالفات الانتخابية النقابية، فنرى تحالفات بين يساريين (حزب الوحدة) والاسلاميين، ونرى تحالفات بين الاسلاميين والمحسوبين على تنظيم فتح، ونرى تحالفات بين مجموعات نقابية محسوبة على السلطة والاسلاميين، وهكذا. لا يوجد صراع سياسي أو نقابي أو ذو طابع طبقي في النقابات على الاطلاق، ما يوجد ببساطة هو صراع على النفوذ والمصالح.
يورد المؤلف في الصفحة الثالثة من كتابه أن النقابات المهنية لم تنفصل “يوماً عن شعبها وأمتها لتعيش في برج عاجي… بل على العكس، فقد انبرى النقابيون… وقادوا كل عمل يخدم فقراء أمتهم”. هذا الكلام كان صحيحاً عندما كانت هناك نخبة يسارية في قيادتها في السبعينيات والثمانينيات، وكان هذا الدفاع ناتجاً عن قناعات فكرية ايديولوجية لقيادة النقابات في ذلك الحين لا بحكم موقع النقابات الطبقي أو انتمائها الى مصالح الفئات الشعبية والفقيرة. النقابات هي مؤسسات للطبقة الوسطى، هذه هي الطبقة التي يتموضع فيها المهنيّون. ومنذ التسعينيات، ومع صعود التيّار الاسلامي الى قيادة النقابات، وانهيار المنظومة الاشتراكية وخفوت صوت مؤيديها، صار هناك تحوّل طبيعي في الخطاب والتوجّه نحو الدفاع عن مصالح الطبقة الوسطى، وصار هذا الخطاب سائداً في تصريحات النقباء وأدبيات النقابات.
الطبقة الوسطى (بالتعريف الماركسي) هي طبقة انتهازية تميل الى الاستقرار والركون إلى الوضع السائد، وتخاف من التغييرات الجذرية، ومع تحوّل النقابات الى مؤسسة تدافع عن طبقتها الأصلية، صرنا نرى ميلاً إلى ما يسمى “التهدئة” و”العقلانية” و”الحكمة”، و”ضرورة الحفاظ على النقابات” بصفتها مؤسسات مهددة بدلاً من الميل نحو الجذرية والراديكالية والحفاظ على المصالح الاجتماعية ومصالح الطبقات الفقيرة.
طبعاً أنا لا ألوم الاسلاميين لحصول هذا التحول الذي كان سيحصل لو كانت أي قوّة أخرى في قيادة النقابات ضمن المعطيات الحالية. اللوم الاساسي برأيي يقع على سقوط القوى السياسية (الاحزاب والنقابات) في فخ ما سمي ب¯”الانفتاح الديمقراطي” عام 1989 وتصفية العمل السياسي الذي نتج عنه وعن ما تلاه من قوانين ومحددات، وآتت هذه التصفية أُكُلها في الأحزاب وفي النقابات أيضاً.
مع عودة النقابات الى تمثيل كتلتها الاساسية، صرنا نرى النقابات تدخل مجال الاستثمار المالي في الاسهم والشركات، وصرنا نراها تدخل حلبة الاستثمار العقاري، وآخر هذه الاستثمارات منتجع “البحيرة” العملاق المزمع انشاؤه في البحر الميّت، وهي استثمارات لا انتاجية ذات طبيعة طفيلية تتسق والطبيعة الطفيلية اللاإنتاجية للبرجوازية الكمبرادورية المحلية التي تبحث عن الربح السريع وتميل الى الاستثمارات المالية وتبتعد عن الاستثمارات الانتاجية. وإذا أضفنا لما سبق ملاحظة ثانية هي صعود أصحاب العمل إلى قيادة النقابات (أصحاب المكاتب الهندسية الكبرى أو المراكز الطبية والسنية الكبرى أو أصحاب المستشفيات أو أصحاب المستودعات الصيدلانية…الخ، أو أولئك المرتبطون بهم، بدلاً من المهنيين العاديين الصغار أو الأُجراء، وهذه فئة تجد نفسها ومصالحها أقرب إلى السلطة السياسية وبرامجها، وأقرب إلى الكمبرادور منها إلى صغار المهنيين وأُجرائهم)، فلا غرابة إذن أن نجد النقابات المهنية تطالب بحصتها من الكعكة، كان ذلك يجد صداه في سعي النقابات الى الارتباط بصانع القرار بحكم التداخل المهني، وتفاقم فيما أعتبره فضيحة سياسية تمثلت ببيان النقابات الذي يطالب بتشكيل حكومة وحدة وطنية والصادر بتاريخ 28/8/.2010 وسأفصل قليلاً في هذا الموضوع:
ما هو الرابط الاستراتيجي بين النقابات المهنية الأردنية التي تدّعي أنها تعارض نهج التحالف الاستراتيجي للأردن مع الولايات المتحدة، وتعارض كامل البرنامج الاقتصادي للسلطة السياسية المتمثل ببيع القطاع العام وتصفية القطاعات المُنتجة وانسحاب الدولة من مهامها الاجتماعية، وتعارض نهج السلطة التطبيعي مع “اسرائيل”، وتدعو لإلغاء معاهدة وادي عربة، وتدعو لإلغاء قانون الصوت الواحد الانتخابي وافرازاته البرلمانية التفتيتية والافسادية، وتدعو لمحاربة الفساد الحكومي، وتدعو لإطلاق الحريّات العامة وعلى رأسها حرية التجمع والتنظيم والتعبير عن الرأي والغاء قانون الاجتماعات العامة… ما هو الرابط بين هذا كله، وبين سعي النقابات لأن تكون طرفاً في الجهاز التنفيذي المناط به تنفيذ نقيض كل هذه التوجهات والمطالب النقابية?
هكذا وصلنا إلى نقطةٍ تريد فيها النقابات شراكةً في الحال “المايل”، وفي صيغة “حكومة وحدة وطنية”، لتضفي مزيداً من الشرعية “الشعبية” على آليات عمل السلطة السياسية الافقارية والتفتيتية والمصادِرة للحريات والمنخرطة في برامج وتحالفات اقليمية ودولية بعيدة عما يمكن تسميته ب¯”المصالح الشعبية”.
لكن… لا ننسى أن النقابات المهنية فرّخت وزراء كثرا في الحكومات المتعاقبة: اسحق مرقة (نقيب أطباء سابق) وحسني أبو غيدا (نقيب مهندسين سابق) وكمال ناصر (نقيب محامين سابق) ومحمد العوران (نقيب أطباء سابق) وممدوح العبادي (نقيب أطباء سابق) وسمير الحباشنة (ناشط سابق في نقابة المهندسين الزراعيين). طبعاً يشير المؤلف إلى ظاهرة النقابات والتوزير (ص 106 – 109)، وأنا أراها ظاهرة تنبع من طبيعة الطبقة الوسطى التي تمثّلها النقابات.
بهذا المنطق، تعاظمت تبعية النقابات المادية للسلطة السياسية الاقتصادية القائمة، وفي ذات الوقت، ونتيجة لكون الحركة الاسلامية هي القوة السياسية الوحيدة المعتبرة في البلاد، ونتيجة لكون نفس الحركة القوة الاساسية في قيادة النقابات وخصوصاً الكبرى منها (نقابة المهندسين)، فقد تعاظم أيضاً استعمال النقابات كورقة سياسية في تجاذب عنيفٍ حيناً ولطيفٍ أحياناً بين الاسلاميين والسلطة، وقد تفاقمت هذه التجاذبات بعد سلسلة قوانين “الاصلاح الاقتصادي” والخصخصة التي استهدفت الطبقة الوسطى تحديداً محوّلة اياها الى مصدر الدخل الوحيد للسلطة عن طريق الضرائب والرسوم والمخالفات. هكذا نستطيع أن نفهم أن الصراع ضد النقابات في العقد الأول من الألفية الجديدة لم يكن كلياً في مواجهة الموقف السياسي للنقابات، بل كان أيضاً في مواجهة ممثلي الطبقة الوسطى التي كانت هي المتأثر الأكبر من الانقلاب الاقتصادي في البلاد.
لكن كيف كانت استجابة النقابات لهذه الهجمة? يُفصّل المؤلف في كتابه وفي عدة مواقع عن المواقف المهادنة والمجاملة لقيادة النقابات، وابتعادها عن المواجهة، ولا نزال نذكر قرار ديوان تفسير القوانين الذي يعتبر مجلس النقباء ولجنة مقاومة التطبيع النقابية جمعيات غير مشروعة، وقانون النقابات الجديد الذي لا يزال في الادراج، هذا عدوان يستهدف الوجود، لكن كما قلت: الطبقة الوسطى هي أميل الى الاستقرار والابتعاد عن المواجهة، وقد قرأت السلطة السياسية ذلك بكفاءة، واستطاعت ادارة “معركتها” مع النقابات بما يضمن نجاحها، وهو الأمر الذي سنأتي عليه بعد قليل.
يقول المؤلف، بعد استعراض لا يورد فيه الاسماء حول التنافس بين أفراد القوائم النقابية المتنافسة في الانتخابات وكيفية تصرّف أعضاء هذه القوائم حال الوصول الى قيادة العمل النقابي: “لا أطلب من القوائم أن تتخلى عن طموحاتها في الوصول الى قيادة النقابات، ولكني أطلب منها أن لا تفرغ النقابات من كفاءاتها وتركن هذه الكفاءات جانباً” (ص 48). بالاستناد الى كل ما قلناه سابقاً من أن التنافس على قيادة النقابات لا ينبع من معطيات نقابية أو سياسية أو ايديولوجية، وبكون الدافع الاساسي لهذا التنافس هو النفوذ، فإن من يتنافس بدافع النفوذ يهمه بشكل أساسي توسيع نفوذه، والإتيان بمن ينفذ برنامج النفوذ بدلاً من الابقاء على من لهم علاقة بالعمل الحقيقي. هذا هو الأمر “الطبيعي” ضمن هكذا سياقات. لهذا وعلى مدار سنوات، صرنا نرى تصفية للنشطاء النقابيين المعنيين من دوائر النشاط النقابي الاساسية، وخصوصا لجان المجمع، مما أدى إلى نهايتها تماماً وبدون ضغوط خارجية: فلجنة نصرة العراق لا تعمل، واللجنة الثقافية لا تعمل، ولجنة الحريات لا تعمل، ولجنة فلسطين لا تعمل، ولجنة حماية المستهلك لا تعمل، ولجنة مقاومة التطبيع تعمل بالنزر اليسير جداً. والحال ينسحب على اللجان النقابية لكل نقابة على حدة.
لذلك فإن ما يسميه المؤلف “ازدواجية الولاء” (ص 49) هو في الحقيقة ولاءٌ واحد للتشكيل أو المجموعة الباحثة عن النفوذ التي أفرزت قيادة النقابة، حيث لا ولاء آخر في مجموعة أو تشكيل مفرغ من المحددات النقابية و/أو السياسية و/أو الايديولوجية. وٍاضرب مثالاً قريباً هو ما حصل في الدورة الحالية لمجلس نقابة أطباء الاسنان: فنتيجة لخلافات بين أعضاء من الكتلتين المتنافستين داخل المجلس، تم تعليق جلسات المجلس لمدة طويلة، وتعليق كل أشكال العمل النقابي، وتم تجميد مؤتمر النقابة العلمي وتأجيل موعد انعقاده بعد الاعلان عنه، ووزعت القائمة المعارضة للنقيب رسائل لأعضاء الهيئة العامة تورد فيها بالوقائع تجاوزات قام بها النقيب. كل ذلك لماذا? بحثاً عن مصلحة النقابة ومصالح النقابيين? سأقول لكم كيف حلّت الأمور وأنتم ستحكمون بأنفسكم: لم يذهب أحد إلى خيار الهيئة العامة ويطلب انعقادها لبحث هذه التجاوزات وتحديد المسؤوليات، ولم يذهب أحد الى القضاء للمطالبة بمحاسبة من تجاوز بعد اثبات تجاوزه وتحميله المسؤولية القانونية والنقابية، ما حصل هو أن القائمة المعارضة للنقيب طالبت بمواقع قيادية في لجان النقابة، وأخذت ما أرادت، وانتهى الموضوع! لو حصل هذا في وزارة أو دائرة حكومية مثلاً، ماذا كنا سنقول عنه? هذا مثال من عشرات (ان لم يكن مئات) الامثلة المشابهة، وهي تدل بما لا يدع مجالا للشك على العقلية العصبوية والاستحواذية التي تحكم اللوائح الانتخابية في النقابات بشكل عام. وتدل أيضاً على أن تصوّراتنا عن العمل النقابي وآلياته ليست بالصورة الورديّة التي نراها، وفيما تسجّل النقابات على السلطة السياسية لا ديمقراطيتها وعدم التزامها بالقوانين وافتئاتها على الحقوق العامة، فإن ذلك -وللأسف- يحصل في النقابات، ويخصص المؤلف لذلك فصلا كاملا في كتابه بعنوان “قوانين وأنظمة النقابات مرجعٌ لا يُرجع إليه” (ص 7 – 12)، وبالعودة الى نموذج نقابة أطباء الاسنان، وبالعودة الى تجربتي كمقرر للجنة المهنة فيها عام،2008 فإن تطبيق القوانين كان آخر اهتمامات المجلس، خصوصاً فيما يتعلق بأمور المهنة، وتنتشر التجاوزات المهنية الى الدرجة التي يرتكب فيها أعضاء مجلس النقابة المؤتمنون على تطبيق القانون المخالفات.
لهذا، فقد تحوّلت بعض النقابات والحال هكذا، إلى عبء على أعضائها في ملفات أبرزها الملف المهني، والملف الصحي (التأمينات الصحية)، والملف المالي والاداري الداخلي، اضافة الى الملف السياسي، وتآكلت وترهلت من الداخل، وصار من الضروري البحث عن بدائل.
ليس صحيحاً تماماً أن العامل الخارجي فقط (هجمة السلطة السياسية على النقابات ومحاولة تحجيمها) هو المسؤول عن التراجع الكبير الذي تشهده النقابات. في الفصل المعنون “عصا بدون جزرة” (ص 85 – 101) يتحدّث المؤلف عن علاقة السلطة السياسية بالنقابات، وعن محاولات الأولى افراغ الثانية من مضمونها ومنعها من العمل في الشؤون السياسية وتطبيق قانون الصوت الواحد عليها، ويعتبر المؤلف أن عام 2005 يشكل علامة فارقة في هذا السياق نتيجة لمحاولة الحكومة في ذلك الحين تقديم قانون موحد يستبدل كل قوانين النقابات ويقصقص أجنحتها. أنا أرى أن ضرب النقابات بعنف ابتدأ عام 2001 باعتقال لجنة مقاومة التطبيع النقابية اثر نشر قائمة المطبعين (وهي قائمة لم تتكرر بعد ذلك!)، واستمر ضمن سلسلة من الاعتقالات للنشطاء النقابيين وحصار المجمع ومنع تنفيذ نشاطات فيه، كل هذا متوقّع من سلطة لا ديمقراطية، ولكن غير المتوقع هو ردود أفعال القيادات النقابية المتحفظة والحذرة والخائفة في بعض الأحيان، وتحّول قيادة النقابات إلى الرقابة الذاتية على أنشطتها وحركتها مما أدى إلى صدامات عديدة بين اللجان النقابية ومجلس النقباء كنتيجة لذلك، وهو ما أدى أيضاً إلى حالة من الاحباط والانسحاب والاعتكاف ضمن صفوف اللجان الفعالة. والحال هكذا، فإن العوامل الافراغية والتراجعية للنقابات لم تأت من خارجها فقط، بل أتت من الداخل أيضاً وبشكل أكبر تأثيراً من العوامل الخارجية. استطاعت السلطة التقاط كل هذه العوامل وتوظيفها، وبتنا اليوم نرى نقابات مشذبة تتعامل بمنطق الرقابة الذاتية على نفسها، وتخترقها السلطة في أكثر من موقع تمهيداً للسيطرة عليها كما تمت السيطرة على النقابات العمالية، وبدون أي عنف.
“مستقبل غامض” (ص 117)، هكذا يرى المؤلف الأيام القادمة للنقابات المهنية، لكني أرى أنها ستتحوّل في القريب إلى ساحة للتجاذب بين السلطة السياسية والاسلاميين لا في المشهد السياسي العام للبلاد كما كان في السابق، ولكن التجاذب سينتقل إلى الداخل هذه المرة وسيكون على قيادة النقابات بالتحديد. فنتيجة لهيمنة التيار الاسلامي بشكل عام على النقابات وابعاده للقوى الأخرى عن ساحة القرار النقابي، صار هناك فراغ أخذت السلطة تملأه رويداً رويداً مستفيدة من تحالفها مع الاسلاميين أنفسهم في بعض النقابات (الاطباء، المحامين، أطباء الاسنان…الخ) رغبة من الاسلاميين بتوسيع قاعدة تمثيلهم وضمان قاعدة انتخابية تضمن لهم مجالس ذات أغلبية مريحة.
ومع ضرب السلطة السياسية للحركة الطلابية، وسيادة الثقافة الاستهلاكية والانانية والمنفعيّة في اوساط الشباب، ووجود تنظيمات طلابية تابعة للسلطة تعمل بحريّة وبتسهيلات كبيرة داخل الجامعات فإن الأجيال الصاعدة من المهنيين تشكل قاعدةً لتيارٍ مؤيدٍ للسلطة السياسية بدأ يكبر باضطراد ويتولى مواقع قيادية في النقابات المهنية مكتسحاً الاسلاميين وبقايا القوميين واليساريين. هذه الاجيال هي التي ستغيّر خارطة الانتخابات النقابية وستغيّر قياداتها في المستقبل القريب.
وإذا لاحظنا كما يلاحظ المؤلف انسحاب النقابات من الثقافة (ص 62)، وندرة وجود المثقفين والمنظّرين داخل الجسم النقابي، وتهميش هؤلاء إن وجدوا، وعدم اهتمام النقابات بالتثقيف النقابي، وعدم اهتمامها بانشاء مركز الدراسات الذي طالبنا به منذ عشر سنين ولا نزال، سنجد أن الفراغ الداخلي يتعاظم، وأن حلول القوى التابعة للسلطة قادم بلا شك، وقد نشهد بعد عشر سنين هيئات نقابية عامة تؤيد الخصخصة والبرنامج الاقتصادي للسلطة، وتؤيد قرار فك الارتباط، وتلغي مركز القدس للنقابات، وتلغي لجان مقاومة التطبيع، وتؤيد التعاون المهني والفني والعلمي مع “اسرائيل”.
قد يستغرب النقابيون هذه النبوءة، لكن لأبدد عجبهم، سأنبههم إلى أنه لا وجود لجيل نقابيّ جديد بالمعنى النقابي للكلمة، والقوى المهيمنة على قيادة النقابات لديها أزمة حقيقية يملؤها الآن شباب كلّنا الأردن.
كل مؤسسة مفرغة من الأهداف، قواها المتصارعة لا تملك أسساً للتنافس سوى المصالح الذاتية، لا تنتج ثقافة، لا تبني تقاليد في العمل، لا تبني أجيالاً لاحقة، ولا تحافظ على المكتسبات السياسية والنقابية والمعنوية التي انتزعتها بالقانون أو بالعرف، ستتراجع وتنهار. هذه نبوءتي العلميّة التي دعمتها بالادلة وبالتحليل النظري لمستقبل النقابات المهنية. أما طريق التراجع فقد صار مستحيلاً.
:::::
هشام البستاني * كاتب وقاص، المقرر السابق للجنة مقاومة التطبيع النقابية.
المصدر: “العرب اليوم”