إسرائيل والتحوّل التركي… والبديل البلقاني!

 

إسرائيل والتحوّل التركي… والبديل البلقاني!

عبداللطيف مهنا

 

هناك واحد من الأسئلة التي تأتي في مقدمة أهم ما تطرحه منطقتنا على نفسها من أسئلة كثيرة، بحكم كونها الأكثر عرضة من سواها من مناطق عالمنا المتغير للتداعيات والمؤثرات التي تثيرها رياح التحولات الاستراتيجية الكونية… هذه التحولات التي تلوح مقدماتها في راهن المرحلة الانتقالية القلقة والأشد ارتباكاً وإرباكاً لمن يشهدها، إنه:

ترى إلى أين تسير العلاقات التركية الإسرائيلية على ضوء توترها الراهن، الذي بلغ مبلغه إثر العدوان الإسرائيلي الدموي المعروف على نشطاء سفن أسطول الحرية وضحاياه الأتراك؟

بلغة أخرى، إلى أي مدى سوف تسير هذه التي يمكن وصفها بالتحولات التركية العميقة والمتسارعة، السابقة على هذا الحدث والذي هو ليس إلا بعضاً من تداعياتها… أو تلك التوجهات التركية الجديدة التي جاء بها حزب العدالة والتنمية الحاكم في أنقرة، باعتبارها مسارات ذات منحى استراتيجي سوف يكون لها الأثر غير المحدود على مستقبل المنطقة ومستمر الصراعات فيها وعليها؟

هناك وجهان للخطاب التركي المتعلق بهذه العلاقة المتوترة، تتضح هذه الأيام الفوارق ما بينهما أكثر من ذي قبل، وهما الوجه الأيديولوجي والآخر الديبلوماسي.

الأول، المتمحور حول وجوب الاعتذار الإسرائيلي، والتعويض على ضحايا المجزرة المرتكبة، والموقف التركي المعروف من حصار غزة، وتهويد القدس، وإدانة العدوان الإسرائيلي المستمر على الشعب الفلسطيني، وهذا خطاب، بشكل أو بآخر، لم تتبدل نبرته ولم يعد الأتراك عنه ولا يبدو أنهم في وارد العودة.

أما ديبلوماسياً، أو الوجه الثاني، فلقد وسم الخطاب التركي مؤخراً قدراً ملموساً من الزيادة في الحذر وبعض من التحفظ، وشيء من الجنوح إلى التأني وحتى التهدئة، أو محاولة تفادي التصعيد أو ردة الفعل مقابل التصاعد في الغطرسة الإسرائيلية، التي بلغت مبلغاً من التحدي أو الوقاحة المستفزة، عبر التأكيد تلو التأكيد على رفض المطلبين التركيين جملة وتفصيلاً… وصولاً إلى محاولة محاصرة تركيا عبر نسج أسس لعلاقات تحالفية بديلة، تبدأ بقبرص، التي تم ترسيم الحدود البحرية معها دون أخذ في الاعتبار للموقف التركي المتعلق بالمشكلة القبرصية، فاليونان وبلغاريا، وصولاً إلى رومانيا، يضاف إلى هذا ما يعزز شكوك أنقرة وقلقها غير الجديد المتعلق بالعلاقة الإسرائيلية بحزب العمال الكردستاني، مع ما تشهده عياناً من تعاظم مستويات هذه العلاقة المريبة بكردستان العراق.

ما هو سر هذا الحذر والتحفظ وتفادي التصعيد التركي البادي في الحراك الديبلوماسي التركي الراهن، أو ما تبديه تصريحات المسؤولين الأتراك، هذه الأيام؟

هل هو تراجع اعترى زخماً وسم مسار التحولات التي حملها المسار الذي رصف لبناته بحنكة وتؤدة حزب العدالة والتنمية طيلة الثمانية أعوام المنصرمة؟

أم هو نوع من إعادة حسابات بعد إفادة من دروس، وبعض تفادي لخسارات، أو بدافع تعقل يجيء حرصاً على مضي المسار الأردوغاني ونجاح استهدافاته؟

لكي نجيب على مثل هذا السؤال المتوالد أسئلةً، تظل إجاباتها هدفاً للسؤال الذي قلنا بداية أنه يأتي في مقدمة ما تطرحه منطقتنا المربكة القلقة في عالم مضطرب ربما هو هذه الأيام أكثر إرباكاً وقلقاً منها، رغم أنها تظل الحرية بأن تكون الأكثر قلقاً من سواها… لكي نجيب، لابد من الانطلاق بداية من التطورات الداخلية التي يشهدها راهن تركيا حزب العدالة والتنمية في ظل مسارها الأردوغاني، أو تحولها الإستراتيجي بعد استدارتها باتجاه هويتها وتاريخها وجغرافيتها ومواريثها الحضارية، وعلى رأس كل هذه وتلك صوب مصالحها ودورها إقليمياً فدولياً.

لقد راكمت تركيا العدالة والتنمية في سنواتها الثمان السمان ما يمكن اعتباره بحق عديد الإنجازات والانتصارات الخارجية والداخلية، التي رافقها، موضوعياً، العديد من التحديات والعوائق والارباكات. ولعل أبرز هذه المنجزات والنجاحات ما تبدأ أولا، بتركيا المنفتحة بعد طيلة إنغلاق مع محيطها وبيئتها وجوارها، وذلك بفضل من إنتهاج سياسة “صفرمشاكل” لمهندسها اللامع أحمد داوود أوغلو وزير الخارجية، والتي تبعها بالتالي تعاظماً للدور الإقليمي التركي، حيث كان نجاحها هذا هو ما جلب بالضرورة نجاحات اقتصادية واستثمارية جعلت من تركيا المزدهر اقتصادها ترتقي لمستوى الرقم الاقتصادي السادس عشر في قائمة الدول الأكثر نمواً والأكثر منعة اقتصادية في هذه المرحلة التي يمر العالم فيها بأزمة اقتصادية كونية متفاقمة. إنه الأمر الذي عزز بالتالي من قدرتها على الخروج من موقع التابع المعتاد أو الملحق القانع للغرب إلى منزلة الرقم الهام والدور المستحق، ليس الإقليمي فحسب، وإنما الدولي أيضاً، وثقة الدولة التي غدت تشعر بأن الغرب هو من يحتاجها وليس هي المحتاجة إليه، وما خلفه كل هذا من حالة اعتزاز وطني ذات طابع شعبي من شأنه أن عزز من شعبية الحزب الحاكم وأطلق يده نسبياً في مواجهة خصومه ومعارضيه في الداخل. رافق هذا أو استند إليه، مسار إصلاحي ديمقراطي حثيث، استعان بهذه الشعبية في مقارعة عديد الكوابح والموانع، وأفاد منها في إفشال المحاولات الإنقلابية، وفي فل سطوة بقايا الأتاتوركية، وإخضاع آخر قلاعها المتمثلة في العسكر والقضاء، مستفيداً كذلك من جمود المعارضين الملوحين بالوعود في غياب البرامج والبدائل التغييرية المنشودة شعبياً لديهم. وهي كوابح وموانع وعوائق لا يستهان بها وهي الحاملة لإرث ما يقارب القرن، ولها ظهيرها الخارجي الذي لا يستهان به، أيضاً، والمتمثل في الغرب وإسرائيل وفي ظل نقطة الضعف الأخطر اللذين قد ينفذا منها وهي الحركة الكردية.

كان من أهم النجاحات الداخلية هو ما يعد مفصلاً إصلاحياً له ما بعده، وهو استفتاء هذا العام الذي نشهد هذه الأيام انصرامه، وبما حمل من تحولات دستورية تركية أنهت تدخلات المؤسسة القضائية ومدعييها العامين وحدّت من عسفها وجبروتها المتدخل، وكفت سطوة الوصاية العسكرية وقلمت أظافرها. وبالتالي كانت الجرأة على محاكمة جنرالات “المطرقة”، وهي الأمور التي شكلت محطة في اتجاه دؤوب يشارف على الوصول إلى دستور تركي جديد يؤسس لتركيا جديدة يطمح إليها غالبية الشعب التركي. واستطراداً، لقد عزز من هذه التوجهات مبادرات اتخذت اتجاه الأقليات الإثنية والطائفية، وأخرى حاولت مقاربة حلول للمسألة الكردية، التي هي بمثابة أخطر الثغرات وأنسبها للتدخلات الخارجية.

أما إقليمياً، فكان عقد سلسلة مجزية من الاتفاقات مع سوريا والعراق وإيران، ومواصلة الانفتاح ذي المردود، دوراً واقتصاداً، على العالمين العربي والإسلامي، والذي بات يلامس وجداناً شعبياً في الاتجاهين… ودولياً، لعل الأهم كان هو الإتفاق الثلاثي التركي الإيراني البرازيلي حول الملف النووي الإيراني، الذي سارع الغرب لإبطاله محاولا إفشاله حين واجهه بالعقوبات على إيران.

كل ما تقدم كان مدعاة لعدم رضى غربي وقلق إسرائيلي وحتى مثار نوع من الغيرة الإقليمية. إذ ليس من السهل، مثلاً، على الغرب المعتاد على الذيلية التركية، أو إسرائيل التي اعتادت في أنقرة حليفاً لها لما يقارب الستة عقود من تاريخ زراعتها في المنطقة، أن تخرج وثيقة الأمن الاستراتيجي، أو ما يعرف ب”الكتاب الأحمر”، العراق وإيران وروسيا من دائرة التهديدات لتركيا، واعتبار السياسة الإسرائيلية تهديداً للاستقرار في المنطقة وبالتالي تهديداً للأمن التركي… إن هذا كله هو ما يضعه الأتراك في حسبانهم، وهو ما فهموه من قرائتهم لموقف الغرب بما فيه الناتو الذي هم عضو فيه من مسألة أسطول الحرية، ويعلمون قبل سواهم سر البلطجة الإسرائيلية الدموية ضد مواطنيهم بالذات في تلك المذبحة التي فهموا أنها تأتي بمثابة معاقبتهم وتأديبهم جراء توجهاتهم أو تحولاتهم الجارية. فهم يدركون الآن ربما أكثر من ذي قبل أن إسرائيل كانت وتظل وستظل جزءا مقررا من علاقتهم مع الغرب، وبالتالي هم يدركون حجم الصعوبات والتعقيدات التي تجرها عليهم مخاطر التوتر الإسرائيلي التركي، أو مدى تأثير العامل الإسرائيلي على هذه العلاقة، وبالتالي ما يتبع من التداعيات التي تتهدد إنجازاتهم.

إن هذا يلقي ضوءاً على الارتباك التركي البادي حيال الملف العراقي مثلاً، وخفوت حدة الاندفاع تجاه الموضوع الفلسطيني، وحدة دعوات كسر الحصار على غزة… وصولاً إلى بعض التحفظ والتأني والتؤدة حيال ترسيم الحدود البحرية مع قبرص. ويمكن بالتالي معرفة دوافع محاولاتهم حصر التوتر وعدم قطع شعرة معاوية مع تل أبيب وحكاية مشاركة طائرتي إطفاء تركيتين في واقعة حريق حيفا.

خلاصة القول، أن الأتراك لم ينزعوا يوماً لتوتير علاقاتهم مع قوة عظمى هي الولايات المتحدة، التي من المفترض أنها حليفتهم ولا تزال، كما يمكن القول نفسه حيال الغرب، أو الاتحاد الأوروبي، الذي لا زالوا يرغبون في دخول ناديه الذي لا يريدهم، وإن خفت حماستهم لذلك وتناقصت آمالهم في دخوله… والأمر ذاته بالنسبة لمدللة الغرب إسرائيل، التي هي من صنعت التوتر معهم واستمراره رهن بها، فهو لم يبدأ تركياً، كما لا تريد تركيا استمراره… لكن، وعودة إلى سؤالنا الذي بدأنا به، إلى أين تتجه العلاقات الإسرائيلية التركية؟!

لعل التحولات التركية هي أعمق حتى مما تبدو، بل ربما أعمق حتى مما يتخيله حزب العدالة والتنمية ذاته. لقد ذاق الأتراك في مدة لا تتجاوز السنوات الثمان طعمها وأحسوا بمردودها وهم ماضون في طلب المزيد، وحقائق التاريخ

والجغرافيا والهوية والمصالح ومردودها، معنوياً وأدواراً، وازدهاراً، وموقعاً إقليمياً، ودولياً، تجعل أن لا عودة عنها. كما أن منطق تاريخ وجغرافيا وروح هذه المنطقة وطبيعة الصراع فيها وعليها يقول، إن أية قوة إقليمية محلية فيها، وسواء أكانت تركيا أو إيران أو غيرهما، تمتلك مثل الخصائص التي يمتلكانها، حتام تصطدم بإسرائيل… بالغريب الطارئ عليها الذي تتهدد طبيعته العدوانية الاستعمارية ودوره في خدمة المشاريع الغربية المعادية أمنها ومستقبل أجيالها… الإسرائيليون أول من يدرك مثل هذه الحقيقة، وعليه يجيء مغزى قول المتحدث باسم الخارجية الإسرائيلية: إن “هناك تحسن مدهش وثابت في علاقاتنا مع اليونان وقبرص وبلغاريا وغيرها”. وهو القول الذي ليس بمعزل عن قول آخر لسفير إسرائيلي سابق بل عطفا عليه: إن”علاقاتنا مع تركيا في أدنى مستوى لذلك بحثنا عن أصدقاء جدد في البلقان”!!!