قولان في مشهد قاتم ولحظة واعدة!
عبد اللطيف مهنا
قد يقول لك قائل، فلا تملك إلا أن تسلم مكرهاً بما يقوله، وإذ لا تجد في جعبتك ما يمكن أن تحاججه به تومئ موافقاً:
إنها مجرد نظرة عجلى منك، إن تلقيها باتجاه خارطة هذا الوطن العربي الكبير، وتطل من خلالها على راهن هذه الأمة الكبيرة المغيبة، فهي تكفي بأن تجعل القشعريرة تستوطن بدنك، أو قد تصاب بحالة هي أقرب إلى لوثة مستحكمة مردها الاحساس المريع بمزيج مفجع من القهر والغضب، الاشفاق والاحباط، المهانة والغثيان.. نظرة كهذه تكفي لأن تدمي قلبك الكسير، وتثلم وجدانك الحزين، وتجرح ما تبقى لك من كبرياء.
… وقد يقول لك آخر، وأيضاً لا تملك إلا أن تُثنّي على قوله مؤيداً:
إنها لحظة تاريخية حبلى بآلامها وأحلامها، محطة في زمن أمة بدأ تاريخها مع التاريخ، لحظة من لحظاتها الحرجة، لكنمكا تأتي حيث لم يسبق لها أبداً أنها كانت وعبر هذا التاريخ المديد في مثل هذا المستوى العالي من الوعي بما تحمله لها هذه اللحظة من استحقاقات… الوعي العميق بما هي مثقلة به لحظتها هذه من الأخطار المصيرية المحدقة بها، وادراكها العميق لوجوب، بل ضرورة، مواجهتها، أو مستوجب التحفز استعداداً لدفع ضريبة هذه المواجهة… اللحظة المفصل، المفصل المفترق، المفترق التحوّل، أو هذا القادم الذي بدأت ارهاصاته المنذرة المطلة من ركام انحدار طال، والذي يحتم قدومه واقع مريع لم يعد يحتمل، وتستعجله استحقاقات مرحلة حبلى بمفاجآتها لابد ولا مناص من ملاقاتها، وحيث حتام عليها الإجابة على سؤالها المصيري… سؤال الحياة أو الموت، أو أن تكون أو لا تكون…
بين نظرة قائلنا الأول، ولحظة قائلنا الثاني، عليك أن تعبر برزخاً مترامياً من المفارقات وتتبين، إن استطعت إلى ذلك سبيلا، خطوطاً كثيرة يتمازج فيها الخيط الأبيض مع الأسود ويتلاطمان، حيث على وعيك أن يجتهد ليحكم على ما تراه عينك وما قد يستشرفه حلمك، وقبلهما ما يلتقطه ادراكك…
ولعل جردة، هي أيضاً متسرعة، أو هي تمر، كما يقال، ولو مرور الكرام، مطلة على ما يتبدى لك فاقعاً على هذه الخارطة العربية، الخارطة من أقصاها إلى أقصاها، من محيطها إلى خليجها، من مغاربها إلى مشارقها، اسيويها وأفريقيها، هذه الخارطة التي تنهش أطرافها السائبة ويعاث في أحشائها المغتصبة، نظرة إلى كامل المشهد العربي، ليتكشّف لك سريعاً مدى انحدار يغشى راهننا وفداحة ما يحيق بواقعنا، وخطورة ما ما يتهدد حاضرنا وينتظر مستقبل أجيالنا.
نبدأ بفلسطين، حيث قضية قضايا الأمة، وبوصلة حاضرها ومستقبلها، وإذا لم نتحدث هنا عن التفريط والتهويد المتلازمان واللذين يشد احدهما عضد الآخر، ونعرض للقهر والتشريد الحالين بشعب عربي مستفرد به ولا من نصير له أو من مجير، ونعدد شتى صروف حصارات الاذلال والتجويع والإبادة… حال القدس المهوّدة، وغزة المحاصرة، والضفة التي تنهش وتقطع أوصالها المتناثرة، والجليل والنقب اللذين يوضع المرابطون الصامدون على ترابهما الآن تحت طائلة ما يشي باقتراب بدايات الترانسفير المبيت… وسائر شؤون وشجون معهود الحديث الفلسطيني الحزين المعروف… إذا لم نتحدث عن كل هذا، فيكفي أن نشير إلى خبر واحد أمريكي يختصر ما تقدم ويفي بالمراد، وهو وصول خدمات “بلاك ووتر” سيئة الصيت إلى هذا الوطن المنكوب المسلوب، بما تعنيه “بلاك ووتر” التي غيرت اسمها وواصلت مهماتها السوداء، وكأن ترسانات الاحتلال وجيوشه ومستعربيه، والتنسيق الأمني معه من قبل الأوسلووين، لا تكفي لحماية المحتلين الغاصبين من تصدي صدور من يحتلونهم العارية وأظافرهم المدماة!
…وننتقل إلى العراق، هذا الذي دمر وهدمت عن سبق ترصد واصرار وتخطيط كافة أسس وركائز الدولة فيه، ولا زال يتخبط في دمه المراق للعام الثامن من حقبة الغزو الأمريكي الأسود إلى بلاد الرافدين، وحيث تقاسمت بغاث الطوائف والقاديمون على ظهور الدبابات الغازية كعكة مأساته في المنطقة الخضراء، وبنى الكرد صروح دولتهم في شماله حيث فتحت جامعة الدول العربية قنصليتها في رحابها، وترأسوا أيضاً دولة عراق ما بعد الغزو في عاصمة الرشيد، ويطالبون بجسارة مغتنم الفرصة السوداء بقضم المزيد من الجسد العراقي المستباح وضمه إلى امبراطوريتهم العرقية التي بات لا يقيم فيها العراقي إلا بتصريح اقامة… هذا العراق يبشرنا جو بايدن هذه الأيام صراحة ب”احتمال” بقاء الغزاة فيه… قال لنا ما قلناه مراراً: أنهم لم يأتوا عراقنا ليغادروه بإرادتهم، ولا ينوون مغادرته إلا لكي يبقوا فيه.
…ونعرّج على السودان، حيث يضع جون كيري الآن اللمسات الأخيرة المتآمرة على منجز عملية بتر جنوبه، وحيث تخطط ذات الأيادي السوداء إياها للأطراف المختلفة المعروفة لبتر المزيد مما يتسنى لها من أوصاله لاحقاً… والصومال حدث ولا حرج… ولا نستثني اليمن السعيد، الذي هجرته سعادته منذ آمد بعيد، والذي أعدوا له وصفة تمزيق تعددت مسمياتها، ظاهرها خليطاً حوثياً وحراكياً وقاعدياً وفوقها رسمياً الله وحده يعلم إلى أين تقوده تداعياتها… ولا ننسى موريتانيا وشبيهاتها، التي تغرق في فقرها ورمالها وجرادها، ويضيفون إلى هذا متحارجة غامضة على الفهم جمعت طلاسمها بين عصابات التهريب، والمهاجرين، وبعض من مسميات القاعدة، وما يبتكرونه لها من مثل هذه المتشابهات… ولبنان الطوائف والمحكمة الدولية وتحالفها الأمريكي الفرنسي مع المحلي، وشهود زورها، ومخططات طلب رأس المقاومة فيه، لبنان المعارضة المستقيلة اهتجاجاً، والحكومة الساقطة إجماعاً، وتلك التي يفترض من ستخلفها والتي لن يكون من السهل تشكيلها في قادم الشهور وربما الأعوام!
…وننتهي إلى مصر، التي أخرجوها من الصراع فاستفردوا بإخراجها منه باقي أمتها… والآن، يجربون فيها محاذير الفرقة الإسلامية القبطية فيتصدى لهم الشعب وتتهاون الدولة… هاهو بابا روما ينتهز جريمة “كنيسة القديسين” ليمارس تدخله السريع في شؤونها الداخلية على الطريقة الاستباقية الأمريكية، وبالتوازي، ها هو ساركوزي يدق نواقيس تهمة “التطهير الديني” المزعوم!
وأخيراً وليس آخراً، دم الجوعى المراق في جزائر مليارات النفط والغاز وحصص الجنرالات وعذابات جماهير “الحيطست”، وتونس الخضراء المنتفضة التي تحرق خضرتها وتسفك دماء منتفضيها، بينما هذا الغرب المتآمر المنافق الذي أقام الدنيا ولم يقعدها لسقوط متظاهرة إيرانية، يصمت متستراً متواطئاً ومتآمراً على كل هذه الدماء التي تسيل على شواطئ المتوسط ثمناً لانعتاق منتفضيه الذي تحقق.
نعم، هي لوحة سوداء تتبدى للناظر، لكنها تقابل بلحظة تشي بأنه من رحم هذه العتمة ها هو قادم الفجر يلوح للحالمين بالانعتاق المحتوم… هاهي ثقافة المقاومة تتجذر وتنتشر وتسود، وانتفاضات المقهورين والجوعى تتوالى وقد تنتقل قريباً متجولة بين ربوع الخارطة المترامية المحتقنة… المسألة هي مسألة حياة أو موت، مسألة بقاء أمة أو اندثارها، وعليه، هذه الأمة المغيبة يعبّر ما هو خلف مختلف أوجه حراكها الآن عن إفاقة مستحقة من غيبوبة طالت، عن غضب لطالما مار جمره تحت الرماد ليندلع ملتهباً حيث لا يبدو أن أحداً كان يحسب له حساباً… هذه اللحظة العربية تستعيد قول الكميت منذراً بني أمية:
أرى تحت الرماد وميض جمر وأخشى أن يكون له ضرام
ولا أدري ولست أخال أدري أايقـــاظ أمـيـــة أم نيــــام!