في مصر

في مصر

أحمد حسين

 

          يبدو أنه كتب على الشعب المصري، وليس هذا مستغربا، أن يتحمل ثقل ثورة توازي أو تفوق أعظم ثورات البشر وأشدها وطأة من أجل الحرية. فالعصر برمته من أقسى العصور التي ألمت بالبشر خلال تاريخهم كله. إنه عصر أقوى الطغاة وأكثرهم عددا، بلغوا سقف المعرفة، ومزجوها بالجريمة فأصبحوا مسوخا يعتبرون القيم الأنسانية نقصا في العقل. في هذا الظرف يثور الشعب ليس على نظام مبارك القميء. وإنما يثور على المسوخ العالمية التي يحمل مبارك رسالتها في استعباد شعبه.

          عندا ثار الشعب المصري هرعت كل الأحزاب المحلية ودول محور الشر الأمريكي الغربية وإسرائيل، وهي تحمل أجنداتها،ليس في الدفاع عن مبارك، وإنما في كيفية ملْ الفراع الذي سيحدثه سقوط نظام كان أهم أركان لعبة الإستبداد التي يديرونها في أهم منطقة في العالم بالنسبة لهم. ليذهب من يذهب، فهم ليس مهندسو علاقات شخصية. المهم عندهم أن تبقى مصر كما كانت، نموذجا رائعا على الولاء لمخططاتهم. وإذا كان الشعب المصري مصرا على طرد مبارك، فله ذلك بشرط أن يعود بعد إسقاطه إلى شؤونه المعيشية، التي يجب أن تتحسن على حساب خزينة النظام، أي الأموال المسروقة من مستوى معيشة الفقراء. على السياسة الخارجية لمصر أن تظل ثابية في فلكها حول نظام عميل.

          هذا اللون من التفكير، دليل على الإنحطاط الإنساني والمعرفي. فهو مؤشر على يقينهم من أن الشعوب، يمكن من خلال مهاراتهم المتقدمة في التخطيط والفعل، ومن خلال تصدير الإثارات السلوكية إعلاميا، أن تدار كما تدار الأنظمة. اعتقدوا، لأنهم يريدون ذلك فقط، أن الحس الشعبي للفقراء، عاجز عن وعي أن الإستبداد الإجتماعي في عصرنا، هو وباء عالمي قادم مباشرة من وراء البحر، وأن كل جوع في العالم هو جوع أمريكي معولم، وأن أي شكل من أشكال البؤس الإجتماعي هو نتاج أيديهم الطويلة الممتدة في جيوب الآخرين. في ظل هذه الحالة، قد يثور الشعب المصري على نظامه الفاسد الذي يقوم ” بتخريب البلد “، ولكن من المستبعد أن يفطن إلى أن التخلف الإقتصادي والنهب والفساد واللصوصية، كلها بنود لعلاقة نظام مبارك بأمريكا وإسرائيل. لذلك سيثور، وربما يسقط مبارك، ويحصل على بعض الكاسب في الخبز والمسكن والتأمين الصحي، ولكنه لن يذهب أبعد من ذلك. تفكير كهذا يؤكد أن الجشع والإستبداد والإستقواء هي أشياء ليس لها عقل تاريخي. وإنما اعتمادها على العنف والتضليل الإعلامي والتلاعب بالمؤثرات النفسية. وقد ينجح هذا النهج في كثير من الأحيان، ولكن عندما تبلغ تراكمات الخلل الإجتماعي حد التناقض مع استمرار إنسانية الحياة، وليس فقط مع بيولوجيتها، فإن العقل الجماعي للتجربة هو الذي يقود الوعي. هذا الوعي هو الذي يوجه حركة التاريخ بجدارة، لأنه خلاصة تراكمية طويلة المدى، لتفكيك التجارب بكل حيثياتها، على خلفية المعاناة.

          لذلك حينما ثار الشعب المصري، لم يثر بسبب الخبز وحده. كان بنباهة عُرفت عنه، يعرف أن أي شيء أقل من التغيير الجذري لا يكفي. كل شيء يبدأ من رغيف الخبز ولكنه لا ينتهي به، لأن نقص الخبز هو ترجمة لنقص الحرية، ونقص الحرية هو غياب الشعب عن ساحة الحركة. استمرار هذا الغياب هو استمرار لصناعة الإستبداد، وقيام مشروع للنهب على أنقاض مشروع للتنمية. هناك مواجهة لا مناص منها مع واقع شمولي النظرة، مصر على حرمانه من المستقبل الإجتماعي، والإستيلاء على مصيره ما استطاع ذلك، للإبقاء على حصته المقننة من الخبز والدواء والإستقلال الذاتي والحياة الحرة.

          إن زراعة الأستبداد ورعايته، هي زراعة متقدمة في عصر الإعداد لعولمة النهب. وهي تشمل زراعة النخب أو تبنيها أو السيطرة عليها، وهي تشمل أيضا معالجة العينة الشعبية المستهدفة واقتلاع مزاياها الفاعلة، ودينامياتها التاريخية الإجتماعية، وقيمها الإنسانية المحركة للوجدان، للحصول على عينة فارغة من أي إبداع اجتماعي لوجودها. وهذه أكبر عملية تزييف مركبة في تاريخ الإستبداد البشري. ومؤدى هذه العملية المركبة النهائي، هو تحييد الشعوب لصالح الأنظمة، والنخب والأحزاب السياسية والمؤسسات المدنية والإعلامية بدون استثناء، بوصفها آليات التوجيه والرقابة للمرحلة، وترسيخ مفاهيمها التضييعية في أوساط النخب الشعبية، وتمرير النظام بمقاومة ” التجاوزات “، واحتواء أية حركات ذات مصدر شعبي مستقل. كل مؤسسات التقنين السياسي الشعبي هذه، هرعت أيضا إلى الشارع المصري، وليس لديها ما تقوله سوى أجنداته العتيقة، ولم تملك الجرأة على التدخل بتلك الأجندات التعيسة، عندما رأت أن في الأمر ثورة تحمل معها وعيها المتقدم والإخلائي من كل ظواهر الأمس. ولكن تلك المؤسسات التقنينية، لم تجرؤ أيضا على نسيان أجنداتها والإلتحام بالشعب.

          ولذلك فإن الشعب المصري يواجه الآن كل المتضررين من ثورته على ساحة المرحلة محليا ودوليا. ولكن الزخم الخاص لهذه الثورة ينبع من خصوصية الموقع في ساحة هي من أكثر الساحات القومية اتساعا وتأثيرا استراتيجيا على كل المشاريع الدولية. فهي ثورة ثلثمائة مليون من البشر، هم تعداد الشعوب العربية التي ترى في مصر ساحتها الحضارية والقومية الأولى بموضوعية الواقع العملي والوجداني. وأكثر من يدرك ذلك، هم أولئك الذين يشكل النهوض العربي بالنسبة لمشاريعهم العالمية، ضربة مصيرية حاسمة، وإيذانا بانطلاق نهج التحرر الإجتماعي على أسس شعبية في كل مناطق العالم الثالث. والواقع العربي يمثل أوفي نماذج التخريب المنهجي للهيمنة والإستبداد العالمي. وسقوط هذا الواقع الرمز في بشاعته، سيشكل النموذج الكوني لكل الشعوب الأخرى المحتلة بحركة الإستبداد الإمبريالي التي تقودها أمريكا والصهيونية. ومن المتوقع أن يتجاوز هذا المركز الإمبريالي كل إمكانات الفعل لديه لإجهاض الثورة المصرية. وسيكون على الشعب المصري، ومعه كل الشعوب العربية، تجاوز، مألوف التصدي، للمحافظة على ثورة العصر، وكرامة الحياة، بكل معنى الكلمة.

          وما يحدث الأن في مصر وتونس من ثورة، وما يحيط بهما من تحفزات عربية شعبية يجب ألا تنتظر طويلا، لتستغل ارتباك وتناقضات المعسكر الإمبريالي الغربي، وتفكك ولاءات التبعية بينه وبين النظام المصري أكثر أنظمة المنطقة خطرا وأهمية في المشروع الأمريكي الصهيوني. فالشكل الميداني لما يحصل الآن في مصر تبلور على نحو يقتضي الكثير من الأنتباه والحذر. لقد تفجرت تناقضات الشرق الأوسط الجديد بين الشركاء، لتتزامن مع الثورة، على الوجه التالي:

          ِإسرائيل مع مبارك على طول الخط، لأن مبارك معها على طول الخط. ومبارك عرف أنه قادر على ” تطنيش ” أوباما، ما دامت إسرائيل ونتانياهو يراهنان عليه. وبما أن أمريكا ضد التوريث، وتريد تسويق ألغامها الديموقراطية، وإضعاف نظامه بحلفائها الإستراتيجيين داخل مصر، فإن مبارك، قدم أوراق اعتماده إلى إسرائيل مباشرة، وهو يعلم أنه لا خوف عليه لأن إسرائيل أقوى من أوباما في أمريكا. وهكذا تورطوا جميعا داخل حالة الإرباك التي أحدثتها الثورة المصرية، واضطروا جميعا من مبارك فما فوق إلى كشف أوراقهم، والعمل على المكشوف.

          أما الثورة المصرية فستشكل نتائجها، مجمل المصير العربي بشعوبه وأنظمته. والشعب المصري يعرف هذا بكل العمق والبساطة التي في الموضوع، لا يوجد مصير مختلف لأي شعب عربي عما سيحدث في مصر. فهي المعقل الأهم والأخير. وعلى ضوء ما يجري في مصر، ستيدأ مسيرة تحرر عربية تغير كل نسيج العلاقات الدولية في عالمنا، أو يسقطك المصطلح القومي العربي في دائرة المجهول إلى عقود قادمة، تقوم فيها شعوب أخري بتحرير العرب.

          قيادة الجيش المصري، مثل طاقم الجزيرة، تلعب لعبة أمريكا في المحافظة على النظام إلى حين تنجح في ترتيب الوضع على الإطاحة بمبارك، وحفظ جوهر النظام بوجوه جديدة.

          هذه الملابسات المصيرية تزيد من عبء الثورة على كاهل الشعب المصري. سواء من جانب من جانب شعورهم بخطورة ومصيرية ثورتهم عربيا ودوليا، أو من جانب إدراك الغرب وإسرائيل لفداحة النتائج التي سيطرحها انتصار الثورة المصرية على ساحة المنطقة، ومناطق أخرى ستقوم بدورها في تغيير وجه هذا العصر الغربي الصهيوني البشع.

          كل الدلائل تشير بعد كشف الأوراق إلى ثلاثة مصائر محتملة للثورة المصرية كلها تثير الرهبة في النفس:

          نجاح السيناريو الأمريكي في إزاحة النظام أو خضوعه لإرادتها في إقامة تحالف ديموقراطي مع الجماعة، بحكم كونهم العنصر الإقليمي الأكثر أهمية لمشروع الشرق الأوسط الجديد. وفي حال قبول الشعب المصري بهذه النتيجة، يكون قد سلم بالمصير الأمريكي. وسلمت معه بذلك الشعوب العربية بدافع اليأس.

         نجاح إسرائيل والنظام في وقف الثورة بالعنف، والنتيجة وقوف مصر ومعها الشعوب العربية، أمام مصير مجهول.

          إنتصار إرادة الشعب المصري. وتسليم الأطراف الأخرى بعلاقات من نوع جديد مع الشعوب العربية وشعوب العالم الثالث.