ثورتان في خطر عسكري

ثورتان في خطر عسكري

أحمد حسين

       لا تبدو الأمور في مصر أو في تونس، أنها تسير في السياق المنحاز إلى ثورتين قدمتا من الوضوح والأصالة الشعبية ما لم تقدمهما أية ثورة أخرى. وإذا تحدثنا بمقاييس الحرص على هاتين الثورتين العفويتين، أي الأكثر نقاء من التماهي السياسي والفئوي والأيديولوجي، فإن ما يجري على الساحتين المصرية والتونسية هما سياقان سياسيان يثيران الرعب. فالهوة بين واقع الثورة المرتجى والفوري، وبين التأرجحات التي يقوم بها الطاقم العسكري الإنتقالي، تتسع ساعة بعد ساعة. فهذا الطاقم في مصر يبدو وكانه يتابع، كما يبدو، لعبة كسب الوقت التي اتخذها النظام السابق، وفي نفس الوجهة المضادة لواقع ما جرى، وبنفس الآليات والحجج، التي توحي بأنه لم يكن هناك ثورة حقيقية تستهدف حتمية التغيير الجوهري لطبيعة النظام، وإنما مجرد التحول الديموقراطي له، وتحقيق بعض المطالب الإجتماعية العادلة على حسابه. وإذا استمرت الأمور شهرا واحدا، أو ربما أقل، على هذه الحالة، فستصبح ثورة الشعب المصري، ذكرى جميلة وحزينة، في ذاكرة التظاهرات الإحتجاجية. وهناك أكثر من دليل، على أن هذا هو ما يرمي إليه المجلس العسكري. وسوف يدهش الثوار أنفسهم حينما ينتبهون إلى حقيقة أن ما يجري، هو تجميد منظم للثورة، من جانب ثورة عسكرية مضادة، وراءها أطراف عديدة دولية ومحلية أحداها قيادة الجيش المصري. وخداع النفس من جانب الشباب الثوري، هو المطلوب في هذه المرحلة، لكي يستيقظوا على أن ” جيش الشعب ” قد أعدم الثورة، وأن قيادته كانت ضالعة منذ البداية في صفقات كثيرة عقدتها مع أمريكا وغير أمريكا، للتخلص من مبارك وحده، وإنهاء الثورة عند هذا الحد. وسوف يدهش الشباب المصري الثائر أيضا، لأنهم كانوا يحسون بكل هذا طيلة الوقت، وأن الدلائل كانت متوفرة على حدوثه طيلة الوقت أيضا، ولكنهم لم يفعلوا شيئا، وانساقوا مع خطابات المجلس العسكري الخالية من أية مضامين تذكر بالثورة.

        هل اعتادت أمريكا أن تترك فراغات، في مفاصل أي نظام عميل لها، حتى تترك الجيش، وهو أقوى آليات الفعل على الساحة، بيد النظام العميل؟ هل تعتمد أمريكا على غير الجيش، في حسم مشاكلها داخل أنظمتها العميلة؟ فمن أين جاء الشباب المثقف والثائر بهذه الطوباوية التي تتناول الجيش، كمصطلح وحيد الخلية، خال من أية تفاصيل غير تنظيمية؟ من الذي أسقط النظام السوفياتي غير جنرالات المخابرات الأمريكية داخل الجيش الأحمر؟ الجيش على الطريقة المعاصرة، ليس الجنود وضباط الصف والرتب العسكرية الثانية، ولا حتى الأولى. ألجيش شركة عسكرية لها مجلس إدارة عسكري أعلى يتحكم بها ” رئيس جمهورية ” بتسلسل تراتبي يوازي النظام القائم، ويخضع لأمريكا مباشرة. ويصبح الجيش ثوريا وملكا للشعب بحركة انقلابية داخله تخرج شياطين أمريكا من أوكارها، أو بانحياز القاعدة فعليا للجماهير ونزولها للشارع بشكل جماعي. أما قبل ذلك فالجيش بيروقراطية سياسية عسكرية متحكمة منحاوة لطبقتها الإجتماعية وامتيازانها ومصالحها، وتعرف مع من تقف.

        إذا كان الجيش كما يقول المجلس العسكري، فما حاجته للتدخل في السياسات التفصيلية ووجهات النظر المدنية، وتعيين جنرال من أركان النظام السابق للحكومة، متجاوزا معادلة الثورة بطريقة استفزازية؟ ذلك لأن عسكريي أمريكا في الجيش يراهنون أولا على كسر الإرادة الثورية للشعب. عندها يصبح كل شيء متيسرا وسهلا. فالعقبة هي وجود إرادة شعبية واحدة وشجاعة. أما إذا اهتز صمود الإرادة الثورية أمام اللهجة التهديدية الخشنة والمبطنة للناطق باسم المجلس العسكري، فستواصل الثورة العسكرية المضادة طريقها من هناك.

        وما معنى الصفقة التي عقدت مع مبارك، على البقاء في مصر، ببراءة الملائكة، ومع سبعين مليار دولار من حلال الشعب المصري المنهوب؟ هل يعقل هذا في ظروف ثورة شعبية ضد هذا اللص الأسطوري، لولا صفقة فرضتها إسرائيل، كما يرجح على أمريكا، وبموافقة الجيش أو وساطته المباشرة؟ هل يشكل هذا نموذجا للصمود، للصوص الحكم العربي أمام شعوبهم حتى تبييض الدولار الأخير من ثرواتهم؟

          وما معنى لجنة يشكلها الجيش لصياغة دستور جديد خلال عشرة أيام، من قضاة تقليديين من خريجي الليبرالية الغربية؟ يمكن لهؤلاء المهنيين وضع أطروحات دستورية ناجحة أكاديميا. ومن المؤكد أنهم سيضعون دستورا للديموقراطية على الطريقة الغربية التتي همها حماية استبداد الطبقات العليا والضحك على ذقون الفقراء بالإنتخابات المعروفة النتائج سلفا. فماذا عن تمثيل الثورة في هذه اللجنة؟ ولماذا وافقت الثورة على هذا الترتيب الغريب؟ هل عودة على الطوباوية التي يتناولون بها الجيش. ألم يكن بوسع الثورة أن تطلب من البشري وزملائه حضور مراقبين أكاديميين من طراز د. حسن نافعة على سبيل المثال، في مختلف العلوم الإنسانية والتطبيقية، ليستعدوامسبقا لتقديم أطروحاتهم النقدية عليه من وجهة نظر الثورة. وإذا كانت النخب الثورية لم تول اهتماما للموضوع، فلماذا لم تطرحه هيئة اكاديمية قريبة من وعي الثورة؟ علي أن أعترف هنا بأن تفاصيل ما هو حاصل بهذا الخصوص غير معروفة بالنسبة لي. فإذا لم يكن كلامي في محله، فإني أعتذر عن جهلي وكلامي في آن واحد.

        وأيضا، إذا كان الجيش كما يحاول أن يقدم نفسه، كحريص على تحقيق مطالب الثورة، فالمسألة

في غاية البساطة. عليه أن يقوم بدوره الطبيعي، فيتقمص دور الراعي لآمن الثورة، ومؤسسات الدولة، والنظام القومي العام، ويرعى تشكيل هيئة ثورية مؤقتة من شباب الثورة، إذا لم يكن هناك بديل قائم حاليا، ويطلب إليه اختيار حكومة مؤقتة، تبدأ بتسيير الشؤون العامة، ووضع المطالب الثورية على أجندة التنفيذ الدستوري الملزم خلال فترة محددة، يقوم فيها الجيش بحماية الثورة. وتقوم الهيئة الثورية بمتابعة التنفيذ وحراسة مضامينه دستوريا، أثناء مناقشة بنود الدستور، وطرحها للإستفتاء؟ أية ضمانات قدمت للأمن القومي المصري والعربي والإقليمي حتى ينشغل الجيش، عن هذا الشأن بغيره؟ إن هذا الإنشغال ليس ضئيل الشأن ما دام قائما مساجلة الشعب وثورته، وسوف ينعكس بشكل تدميري على المعنويات العامة عسكريا ومدنيا، ويتحول إلى انشغال شامل وصراعات بينية داخل قطاعات الجيش والمجتمع. كما أن حالة الثورة سوف تتلاشى في سديم الإنفعالات الهامشية والتباعد السجالي. ولعل هذا هو أهم ما يجب أن تتحاشى حدوثه الثورة، ببيانات تثقيفية متواترة، تركز على ثقافة ميدان التحرير.

        ومن الناحية الموضوعية، لم يفت الوقت بعد على مطالبة الثورة للمجلس العسكري بتوضيح كل تصرفاته، بوصفها دستورية شعبية، لا يعلو عليها أي تأسيس مدني أو عسكري. إن اللهجة الشعبية المهتزة أمام أي كان على الساحة، تشكل خطرا على الثورة. فالثورة عنفوان عادل في كل شيء حينما تصدر عن الشعب بكامل قطاعاته الشعبية. ومطالبة الجيش أن يلتزم بثورة الشعب أو يتحمل مسؤولية المواجهة مع الشعب ليس تجاوزا غير منصف. ولعل أية مواجهة مع الجيش من أجل حماية الثورة، هي واجب وحق مصيري عادل. وأية مواجهة من هذا النوع – ونرجو الآ تحدث – لن تكون في صالح الجيش، وقد تؤدي إلى انحلال قطعاته، ليس بعامل القوة المعنوية للشعب فقط، بل لأنه سيتضح عندها للجميع، أن قيادة الجيش موجودة في صف الشر الأمريكي ضد شعبها الذي عانى من الظلم. وعندها لا بد من تبلور مداخلة بتر داخل الجيش تمنع الكارثة. وكم ستكون الثورة والشعب والجيش محظوظين، لو أن هذه المداخلة تستبق أية مواجهة يفرضها عسكريو أمريكا.

        حتى الأن لا تسير الأمور في صالح الثورة، سواء في مصر أو في تونس. أمريكا تحاول كسب الوقت لزراعة جديدة لنظام ” زين ” – حسب القذافي – ونظام قارون المصري حسب التاريخ. وضياع ثورتي تونس ومصر، معناه أن تتحول نتائج الثورة إٌلى كارثة تعم الشعوب المظلومة جميعا، وتدمر أي مستقبل منظور أمام العرب بالذات للتحرر من أنظمتها العميلة لصوصها المتخلفين. فلا يوجد لص بعقل يسرق ثمانين مليار دولار. لأن هذه ثروة لا يمكن السماح بسرقتها أبدا لأنها ثروة بحجم المصير. ولو أخذ اللص هذه الثروة معه إلى الآخرة، فسوف يستعيدها الشعب المصري، ليبني بها مصانع ومعاهد علمية ومستشفيات، أو يستثمرها في إقامة نظام للتأمين الإجتماعي المجاني، لكل ذوي الحاجة في مصر إلى الأبد. فكيف إذن يخطر ببال أحد أن الشعب المصري يمكن أن يتخلى.