مذكرات طائر عربي

 

قصة قصيرة من وحي اللحظة:

مذكرات طائر عربي

من أين يبتدىء الوطن؟

كلاديس مطر

 

وحين كنت لا أزال أحلق فوق المدينة الساكنة الجميلة، وأرى من عل كيف يعبر النهر فيها فيفصلها إلى شطرين، بينما بانت الأشجار الكثيفة على ضفتيه موحية هادئة كأن كل شيء يسير على ما يرام، تناهى إلى سمعي صوت أنين خافت فقررت الهبوط إلى ارتفاع أقل. وهناك على مقعد خشبي في حديقة رأيتها وقد أخذت تحدث نفسها وتبتسم تارة، ثم تحك رأسها مفكرة تارة أخرى، وما بين هذا وذاك كانت تشرد قليلاً ثم تنطلق في أغنية قديمة خافتة غير مفهومة الكلمات تشبه الأنين. واقتربت أكثر فرأيت رجلاً، ربما صديقاً لها قادماً يشاركها الجلوس على مقعد الحديقة، ثم أخذ يواسيها ويربت على كتفها ويهز رأسه. ولما تنامى فضولي ووصل بي إلى حالة تشبه التورط حططت على غصن قريب وأخذت استمع وأنا لا أعرف إن كان ما أسمعه كحلاً أم مطراً أم هذياناً:

دخلت على سيادته في غرفة المكتب فوجدت ابنته الصغيرة تركب على ظهره وهو يدور بها المكان مردداً (مااااع ….مااااع…). قلت عفواً أعود لاحقاً. لكنه لم يسمعني. رفعت صوتي أكثر وقلت عفواً سيدي أعود لاحقاً. أيضاً لم يسمعني. تقدمت خطوتين إلى وسط الغرفة وهو لا يزال يلف ويدور بابنته الصغيرة على ظهره زاحفاً على ركبتيه مردداً مااااع … مااااع. عندما لمح قدمي رفع رأسه مرتبكاً ونظر إلي نظرة تواطؤ؛ (أرجو أن تفهمي) فقلت بصوت شبه هامس: عفواً سيدي أعود لاحقاً. أنزل ابنته الصغيرة من على ظهره وأخذ الأوراق مني قائلاً: لا بأس .. لا بأس ثم ذهبت مرتبكة وأغلقت الباب ورائي.

في المساء جلست أمام التلفزيون لأتسلى. رأيت سيادته يقص شريطاً أبيض مفتتحاً معملاً لصناعة الشوكولا. وبعد التصفيق الرزين حمل المرافقون وأصحاب المعمل سيادته على أكتافهم ودخلوا به. وهناك تناوبوا على حمله ابتداء من المدير حتى آخر عامل. وعندما أعياهم الترحيب به أنزلوه ليحمله مرافقه إلى السيارة أيضاً على كتفه.

رجعت إلى المكتب في اليوم التالي. لم أدخل إلى غرفة سيادته، وإنما شغلت بتهيئة البريد وبرنامج العمل. وحين كنت أظن أنه ما زال في المنزل يتمطى قبل شرب (نسكافه) الصباح تناهى صراخه المفاجئ إلى مسامعي. ذهلت، قلت في نفسي (لربما أكون واهمة). لكن الصرخات غدت متواترة وكانت تزداد ممزوجة بتأوهات لم أعرف كنهها. هرعت إلى غرفته وأنا في قمة الاضطراب والهلع. وهناك وجدته مقيداً بالسلاسل عارياً بينما وقفت امرأة لا أعرفها بالقرب منه وقد أمسكت سوطاً جلدياً بيدها. صعقت. لمحني ثم صرخ كالمجنون (اخرجي حالاً . . أيتها المتطفلة الوقحة). خرجت منهارة وقلبي يخفق بسرعة جعلتني أحسّه في حلقي. أغلقت الباب ورائي وذهبت.

في المساء جلست أمام التلفزيون. رأيت سيادته يخطب في غرفة مكتبه الأنيق بينما لاح علم البلاد وراءه. وبعد أن حيا هذا الشعب القانع المنحوس بدأ يتلو بعض الأحكام الاستثنائية على (كُتّاب) لوثوا بسلوكهم سمعة الوطن، وتحدثوا عن انفتاح الثقافة وكلمات أخرى على حد تعبيره ” صينية لم أعرف من أين أتوا بها”. ثم أخذت مشاهد لكُتّاب وصحفيين تتالى وهم منقادون إلى المحاكمة وقد قبض عليهم بوليس المهمات السرية في أسرتهم نياماً.

عدت إلى المكتب ثانية! إن سيادته متمسك بي أكثر من أي وقت مضى، طبعاً بسبب إدارتي الجيدة لمكتبه و(تفهمي نقاط ضعفه وحفاظي على أسرار العمل).

لقد أغلق اليوم باب مكتبه عليه. إنه يعقد اجتماع قمة مع رجل الغرب المهم. لكني مع ذلك كنت أتوقع منه أن يناديني عبر الهاتف كل برهة إلا أنه لم يفعل. وحين استمر الاجتماع إلى ما بعد الوقت المقرر لعملي بدأت أقلق، ولم تسعفني بديهتي في تصرف فوري إلى أن انصرف موظفو المكتب الرئيسي جميعاً، عندئذ قررت البقاء خوفاً من طارئ ما. لكنه لم يخرج ولم يستدعني والأنكى من ذلك لم أسمع أي صوت من الداخل ولا حتى همساً ففكرت أن أنتظر لبعض الوقت.

ومر الوقت، وحضر موظفو الدفعة الليلية ولم يخرج سيادته من اجتماعه. إذن فلأقرع الباب وأسأله إذا ما كان يريد أمراً قبل أن أذهب. وهذا ما حصل . قرعت الباب فلم يرد أحد. كررت القرع أيضاً، لم يرد أحد. عندئذ فتحته على مهل وبحذر، وهناك رأيته بأم عيني وقد وضع سبابته على فمه ليمنعني من الكلام بينما كانت يده الأخرى تمسك بمروحة كبيرة يحركها فوق رأس الضيف النائم.

في المساء جلست أمام التلفزيون لأتسلى، فرأيت سيادته مجتمعاً بأكبر علماء البلد حول طاولة مستديرة. طبعاً لم يكن صعباً أن نلمح التأفف المبطن على وجوه الحاضرين والحنق والغيظ المكبوتين حين طلب من أحدهم أمام عين الكاميرا (بعد أن نشف ريقه من الوعظ) أن يقوم ليصب له قدحاً من المشروب وأن يضع عدداً مناسباً من مكعبات الثلج فيه، ولم ينس أن يلومه بسبب إهماله في السكب بحيث وقعت بضع قطرات على بزته (الكاردان) الجديدة. وهكذا تخلل حديثه المباشر إلى العلماء والأمة كلها عشر دقائق، تلهّى فيها الشعب بمراقبته وهو يتابع صب المشروب ومسح القطرات عن السروال المخطط الجميل.

عدت إلى المكتب صباح اليوم التالي وبدأت بفرز البريد وتهيئة العمل. لقد حضر سيادته قبل الجميع وهو يعمل في مكتبه منذ الصباح الباكر. قرع الجرس لأدخل. نعم سيدي؟ أريد ملف الفنانة (مهرجان ضواوي) من الداخلية حالاً. حسناً سيدي. أحضرت الملف وهكذا غرق فيه لمدة ساعة. استدعاني بعد ذلك وقال: ستحضر الفنانة مهرجان الآن. ادخليها فوراً واقطعي عني الاتصالات مهما كانت مهمة، واملئي البراد بقطع الحامض وشرائح (سمك السومون). فعلت وأغلقت الباب على اجتماع الفن المصيري.

في المساء جلست أمام التلفزيون لأتسلى. كان السيد (كابت مكبوت) مدير الرقابة على المصنفات الفنية يتحدث وقد نفخ ريشه ومد شدقيه باتجاه الميكرفون وقال للمذيعة الناعمة: (..احم..في الحقيقة اشكر الله على وجود منصب هام مثل منصبي … لماذا نحن هنا يا آنستي؟ هيا قولي لماذا نحن هنا؟ أليس لنحمي هذا الوطن العزيز من (المطبات) الكثيرة التي يخلقها لنا الخروج على الآداب العامة في التلفزيون والسينما والمسرح؟ أولسنا رقباء على ما يسمونه (بإبداع الممثلين) فنعمل على تهذيب ميولهم وتشذيب أطراف تطرفهم الفني؟ وكل هذا من أجل من! أليس لحماية هذا الوطن الغالي من المارقين على الفن، هذا (الكار) العظيم؟ نعم إنني أعترف وبكل فخر بأنني قد أوقفت البارحة كارثة كانت على وشك الوقوع. لقد أوقفت عرض فيلم (سومون فيميه) للفنانة مهرجان ضواوي…. سومون فيميه! حتى اسم هذا الفيلم لا يليق. صحيح أنه يتعرض لموضوع الساعة الساخن لكن من أجل هذا التعرض بالذات تم منعه: أقصد لماذا الفتنة؟ ولماذا لا نتعرض إلا إلى المواضيع الساخنة وكل شيء على ما يرام كما يقول سيادته؟ أوف!؟

أوف .. أوف … من أين يبتدئ الوطن؟ أمن أحواض الورود المزروعة في شرفات الصباح الباكر؟ أم من قاعات الجامعة حيث الطلاب، جيل الحب الجديد، يقفون بقبعات تخرجهم المميزة، يستمعون إلى التمنيات الطيبة يهديها لهم عميد نذر نفسه لبناء هذا الوطن؟ أم من نظرات الأطباء الحانية ولمسات أيديهم التي تضغط على نبض مرضى أبوا إلا أن يتداووا في (البلد)؟ أم من آباء وأمهات تركوا أبنائهم صبياناً وبنات يندفعون في وجه العلم والبحث المضني عن الحقيقة؟ أم من شعراء ومثقفين عزموا عن احتفالات التكريم وتعليق الأوسمة وقص شرائط الافتتاحيات؟ أو حاكم خرج من السرب وأخذ يعيد النظر، فجأة بنظريات العمى التي حفظها عن ظهر قلب !

من أين ينتهي الوطن! أينتهي من تلوث اللغة ومناهج الدراسة والعقائد؟ أم ينتهي من هوس نصب التماثيل لقادة في أوضاع البطولة والصلاة؟ أم تراه ينتهي من غش الدواء والبناء ورغيف الخبز؟ أم من ترسانات الأسلحة الضخمة لبلد يحتضر من الفقر وعشق الغزو!

من أين ينتهي هذا الوطن! أمن تحويل مكتبات المنازل إلى (روبابيكيا) أم من النمور المدجنة في حديقة منزل ابن الحاكم والتي تستهلك عشرات من أرطال اللحم، بينما يبحث الشعب عن فرص نادرة للعمل؟ من أين ينتهي الوطن!

في المساء جلست أمام التلفزيون لأتسلى، فلم أر شيئاً. لقد تبدل الطاقم بكل هدوء ومن دون ضجيج أو هدر قطرة دم واحدة. صحيح لم نسمع بكلمة تصويت منذ أمد بعيد، إلا أن الانتقال السعيد لعهد (آخر) كان مفرحاً بلا شك. لقد أنعش صدري برنامج العمل الجديد والتنديد بكل ما سلف، كما هللت بصوت مرتفع لفرص التغيير التي قيل فيها الشعر والنثر أمام حشود الأمة كلها. أخيراً سأخلد إلى النوم كما لم أفعل من قبل. أخيراً سيتحقق حلم الأحلام. لقد صبرنا بما فيه الكفاية تارة بالحذر الصامت وطوراً بالعصبية التي لم تقدم أو تؤخر في شيء. سوف أستسلم الليلة للنوم كطفلة أنهكها اللعب طوال اليوم، وسأغمض عيني على فرح هذه المفاجأة التي حولت شوارع البلد إلى احتفال ضخم صاخب.

عدت إلى مكتبي صباح اليوم التالي. لم يتغير شيء ما عدا الصور المعلقة في مكاتب المبنى. إن (مديري) الجديد في غرفته يمارس مهامه كالعادة. هناك بطاقة صغيرة مدون عليها كلمة ترحيب لطيفة مذيلة بتوقيعه، كما لاحظت تغير نمط الموسيقى في المكان وتبدل قماش الأرائك. ما هذه السرعة في الإنجاز: قلت في نفسي؟ ثم لملمت بعض الأوراق وقررت الدخول من أجل التهنئة وبعض الأعمال. قرعت الباب ودخلت، وهناك عرفت من أين يبتدئ ومن أين ينتهي. لقد كان واقفاً في زيه العسكري الصيفي يتطلع إلى نفسه في مرآة اللوحة التي رسمت عليها خارطة الوطن والعلم، وقد وضع المونوكل المكبر على إحدى عينيه، بينما أمسك بيد عصا أنيقة منتهية برأس أفعى، وباليد الأخرى كأساً من (الكولا) الباردة واستدار وقال لي بصوت شبه أنثوي: (ما رأيك يا عزيزتي؟ ألا يليق بي هذا البلد!)

لم تنتهي المرأة من قصتها كما لاحظت من حركة يديها واستعدادها لإكمال الحديث، لكني مع ذلك تركت الغصن وطرت من جديد، وأخذت بالارتفاع أكثر فأكثر حتى بانت المدينة كلها كوجه خريطة ملونة. لم أعد راغب بالهبوط ثانية، لا مكان لهذا الحنين الذي يشدني كلما أُرهق جناحاي لأحط على غصن أو شريط كهربائي أو حتى أفريز نافذة. لا أريد أن أصغي لهذا الأنين الذي ينبعث من هنا وهناك فأطير كالمخبول لأتبين مصدره، وأصغي لحكايا إبريق الزيت وألف ليلة وليلة. حتى منظر المكتبات العشوائية على الأرصفة لم يعد تغريني ولا يحرض هذه الذاكرة التي كانت سبباً لكل ما انتابني من تيه وجنون.

سأرتفع إلى أعلى سماء أقدر أن أطير إليها عارفاً بأني لن أصادف أحداً في طريقي ولا حتى ملائكة صغار بجناحين. وهناك من أعلى نقطة يمكن أن أصل أليها، سوف أسرد مشهد الصلب أمام رهبة الفضاء الجليل وامتداد اللانهاية، وسوف أعيد سرده كلما صادفت نيزكاً ماراً أو نجمة راحلة إلى المجهول أو كوكباً يدور في فلك.

:::::

كتبت هذه القصة عام 2003 ونشرت مع مجموعة قصصية بعنوان “رغبة غافية” الصادرة عن دار الحوار للطباعة والنشر والتوزيع.

موقع الكاتبة: http://www.gladysmatar.net