معادلة التحرر

 

معادلة التحرر

الخبز الحرية = الحرية الخبز

أحمد حسين

 

        هل هناك حاجة للقول أن الثورات العربية الشعبية، أصبحت الآن في حالة مواجهة مع مبادرات التعرض الأمريكي المباشر؟

        أظن أن الحاجة لهذا القول، هي حاجة ماسة، ليس على مستوى التدليل على صحتها، فهي حتمية منطقية من جانب أمريكا، ولكن للقول للشعوب العربية أن عليها أن تنتبه الى أن هناك حربا تجري بينها وبين أمريكا، وأن تستعد لمواجهة تطوراتها المحتملة بالتنظيم والتعبئة المكافئة. وليس بالضرورة أن تلجأ أمريكا إلى إرسال المارينز ابتداء، فهناك ظروف ميدانية وموضوعية وذاتية، هي التي ستقرر متى تفعل ذلك، فقد ظلت اثني عشر عاما تعد لحربها الكبرى في العراق. وعندما جاءت لاحتلاله كان قد أصبح محتلا من الناحية الفنية. كان النظام في أسوأ أحواله هناك بالحصار المتواصل، وبالتفاف الأنظمة والهيئات الدولية والعربية حول أمريكا. والشعب العراقي كان أيضا في أسو أحواله، من حيث كونه قد أصبح بفضل جهاد حزب الدعوة وإيران من ناحية، والإخوان والسعودية من ناحية أخرى، شعبا باع وجدانه الوطني للطائفية، وغرق في تبعاتها المميتة حتى انصراف العقل. أما من حيث التفاصيل الأكثر دقة، فيمكن الحصول عليها من المالكي وطارق الهاشمي والبرزاني وعلاوي. ودفع الشعب العراقي فاتورة القضاء على صدام حسين والنظام القومي أنهارا من دمه، وكوارث مرعبة أصابت ماضيه وحاضره ومستقبله. ويقوم اليوم العراقيون اليوم، كما يبدو، من زمنهم الإجتماعي القروسطي الذي وصلوا إليه، نادمين. وحسب تحليل إحدى المذيعات في قناة الجزيرة، فإن ندم العراقيين يعود إلى أنهم انخدعوا بوعود المرشحين في الإنتخابات الأخيرة، وأقبلوا على التصويت، دون أن يحققوا من وراء ذلك أي مكسب اجتماعي. وفي وصف هذه الحالة، يمكن القول أن الأخوة العراقيين، أخذوا يمارسون حسنات الديموقراطية، قبل ان يعرفرا أن القضايا الإنتخابية، لا تستدعي ندمهم، فهي مجرد شكليات دستورية لا قيمة لها في الديموقراطيات الطائفية المتقدمة والحديثة. والجوهر الحقيقي لهذه الديموقراطية، هو التحرر الطائفي المتبادل، بحيث يتحرر السنة من الشيعة وبالعكس. وقد تحقق هذا بدون شك. أما االقضايا الإجتماعية، فلا علاقة لها بالإنتخابات، وإنما بالميزانيات. وقد يحتاج العراقيون للصبر، وليس للندم، لأن النظام السابق، بدد ثروات العراق بالتبذير والإختلاس. ولا بد للنظام الجديد من سياسة اقتصادية تقنينية على مدى عشرين سنة على الأقل، لإزالة آثار النهب المنظم الذي ارتكبه من سبقهم. وقد شعرت بخيبة شديدة ومريرة، لما كشفته قناة الجزيرة، عن الندم العراقي الإنتخابي. فقد كنت أظن أن العراقيين نادمون لأنهم تخلوا لأمريكا عن استقلال العراق، من أجل تغيير النظام فقط، وبدون أية شروط أخرى منها مثلا، عدم تدمير البنية التحتية للعراق بدون داع، سوى الإنتقام للسبي البابلي.

        لم أنكب في حياتي بما نكبت به يوم سقطت بغداد. كان الحزن عذابا أكثر منه حزنا. لذلك هربت منه إلى الغضب فهو أرحم. غضبت من عجول السنة وعجول الشيعة غضبا قاتلا، وظننت أن الشعب العراقي سيحرقهم أحياء عندما يفيق. وشعرت ببعض العزاء. ولكن عندما عرفت من قناة الجزيرة بأن المحتجين، يعارضون تغيير النظام الديموقراطي، ويطالبون المالكي برد الإعتبار إلى الديموقراطية بتحقيق ما وعدهم به، عرفت كم أنا ساذج. وتمنيت لو كنت على شاشة الجزيرة لأشكرها، كما يفعل الناشطون السياسيون في ليبيا.

        ولكن هذا لا يعني أن السيناريو والزمن الموضوعي لنكبة العراق، سيعيدان نفسيهما في مرحلة الثورات العربية القائمة حاليا. فلكل تجربة ملابساتها الظرفية وموضوعيتها الخاصة. فمن المعروف أن أمريكا دولة مؤسسات مخابراتية، تقوم على تجميع المعلومات ومعالجتها تفكيكيا وبناء مخططمتها على هذا الأساس. وأن قناة الجزيرة، بما يخص الشرق الأوسط، هي مركز الإستعلام الأهم بالنسبة لها. وهي مؤسسة مكودرة جيدا، ومؤللة جيدا، وغنية جدا في نفس الوقت. وهي تشبه مصنعا حديثا بالغ الضخامة للسيارات،حيث تدخل الخامات من الفتحة رقم (1) للمصنع، وتمر في دورة تكوينية، لتخرج سيارة كاملة التكوين من الفتحة رقم (2) المحاذية للفتحة رقم (1) تماما. فهي تجمع الخامات، أي المعلومات الأولية، التي تدخل من فتحة الحقن بالمعوماتية، وتمر بدورة كواليس تفكيكية، تخرج بعدهاعلى شكل منتج إعلامي أو استعلامي جاهز للبث على الهواء مباشرة، عبر فتحة الإرسال المحاذية.

        وإذن، فأمريكا سيدة المعلوماتية في العالم كله، لا يمكن أن ترتجل سلوكها العملي ارتجالا. وفي قضية مصيرية بالنسبة لها، مثل قضية الحراكات الشعبية في الشرق الأوسط، تعرف أنها ستكون المطلوب الأول، لأنه ليس هناك ثورات شعبية غبية، لا تعرف أن أمريكا هي سبب شقاء شعوب العالم العربي. وأن أنظمتها وحكامها هم مجرد قنابل موقوتة مرحليا زرعتها بيديها. لذلك فإن أمريكا،بعد التحليل المعلوماتي المتقدم، وبعد أن تأكدت أن أوروبا، خلا بريطانيا، تلعب لعبة أخرى لحسابها الخاص، وأن الدولة الوحيدة التي تؤيدها في التدخل هي دولة المافيا الروسية، التي تريد بيع فوائض اسلحة الإتحاد السوفياتي لديها، بعد تمويه ماركاتها القديمة، قررت أن يكون تدخلها محاطا بالتحفظ الشكلي، وأن توظف عظمتها المخابراتية، وعملائها وتحالفاتها المحلية، لفرض أسلوب التفخيخ الداخلي والتصفية الذاتية على الثورات، بدفعها نحو هاوية الحروب الأهلية.

        أمريكا مضطرة لمعاداة مصالح الشعوب. هذه هي الحتمية الأمبريالية. ولكنها مع ذلك تحاول ألا تدفع ثمنا لهذا العداء إذا أمكن. وبعد أن اعتمدت لعقود عديدة، على احتلال العالم العربي بواسطة أنظمته، فإن هذا الأسلوب قد استنفذ نفسه، بعد أن أصبحت عوراته تغطي كل جسده. وأيقنت أن الوضع الإجتماعي الساكن للشعوب العربية، وبدون أية حراكات تنموية تحت مظلتها، هو خطر من ناحية وفيه هدر استهلاكي مجاني، يجعل من تلك الشعوب طفيليات جائعة تتكاثر على جسد البترودولار، دون أن تبذل أي مجهود إنتاجي. فالمعروف أن تنشيط المشاريع الكومبرودورية، والصناعات غير الإستراتيجية الوسيطة، وتجهيز الخامات أوليا في مواقع التنجيم، هو من أولويات مشروع العولمة الإنتاجية. وأن خردة الأنظمة العربية العميلة لم تعد مؤهلة لحفظ الإستقرار الإجتماعي أو الإقليمي أو المشاركة التنموية في بنية الشرق الأوسط الجديد، خاصة بعد أن رفضت إسرائيل إجراء أية تعديلات على دورها القيادي المقرر، تسهم في تقوية مواقف تلك الأنظمة أمام شعوبها. وجاءت تجربة المقاومة الشعبية في لبنان، لتقرع أجراس الخطر على مشروع أمريكا والصهيونية في المنطقة العربية. وأيقنت أمريكا أنه لم يعد أمامها سوى إعادة احتلال العالم العربي، بأنظمة أكثر استقرارا ونجاعة وملائمة للمرحلة القادمة.

        ليس هناك من يحترم عقله ومشاهداته، ويحسن قراءة الحركة من حوله في هذا العصر المبتذل،

يستطيع أن ينكر أن النظام العربي، والحركة الإجتماعية العربية حوله، هما تشخيص خلافي قميء، ذو حراك ثيولوجي معتدل، إي حليف لأمريكا. وأن صعود حركة الإخوان، ليس صدفة في عالم خال من الصدف. إنهم الحكام الهجريين في نظام الشرق الأوسط الجديد، وإداريو الكانتونات الطائفية العربية. سوف يشكلون غرارا حداثيا ومتطورا لما كان من أنظمة قبلية، كما تريد أمريكا.

        وليس هناك من يحترم عقله ومشاهداته، ولا يعرف أن المحظور التاريخي الوحيد في استراتيجية التعامل مع المنطقة العربية غربيا وأمريكيا، هو قيام مشروع تنموي قومي في المنطقة العربية حتى ولو لم يكن مستقلا، لأنه إشكال إقليمي شرق أوسطي من ناحية، ولأنه مؤهل كالمشروع الياباني التابع، أن يتحول إلى قوة اقتصادية غير مرغوب فيها. فهل هناك إذن بديل عن لاقومية المشروع الديني المعتدل للإخوان؟

        وبالمقابل، فإنه على هذا الأساس، ليس هناك مشروع، حتى ولا في الخيال، يصلح للتحرر الإجتماعي العربي، سوى المشروع القومي،القادر على مواجهة أمريكا واستخلاص مستقبله الإنساني من براثنها. وهذ هو أهم إشكل للصراع القائم حاليا بين الثورة الشعبية، والثورة المضادة. هذا الصراع يتم الآن، بين افتراض عالم عربي قومي متحرر من أمريكا، وقادر على بناء مشروعه التنموي المستقل، وبين مشروع افتراض بقاء الشعوب العربية، على ما كانت عليه، مع بعض التحسن في ظروف المعيشة، وبقاء نسب التفاوت الطبقي على حالها، بين العمالة الرثة، وأعلى سلالم النهب الشرعي، في نظام خلافي متحالف مع أمريكا، يجمع بي الإستبداد الشرعي أيضا، والدناءة الإجتماعية.

        وفي حين أن الإخوان والليبراليين، حلفاء أمريكا الإجتماعيين على ساحة الثورات العربية، يتحركون بوعي تام، نحو هدفهم التخريبي المشترك، في تحويل الثورات إلى مصادمات أهلية وطائفية، فإن الوعي التحرري للثورة، يتفاوت بين موقع وآخر، ويبدو أنه في أحسن أحواله، يفقد زمام المبادرة تدريجيا لصالح المشروع المضاد. ومع ذلك فلست متشائما من النتيجة، وسوف تحسم حتما لصالح الشعوب العربية في النهاية لأنه لا مناص أمامها من الإنتصار في النهاية. ولكن هناك فرق بين حسم الأمور في الجولة الأولى، والإنتظار لجولة ثانية ستكون أكثر كلفة بالقطع. والحسم ممكن منذ المرحلة الأولى، وخاصة في مصر وتونس، إذا وصلت الثورة وعيها القاطع، بأنه لا بديل عن المشروع القومي التحرري للخلاص، ولا حياة مع أمريكا وكهنة الإستبداد الشرعي.

        وإذا أخذنا بالإعتبار مستوى الإبتذال الذي وصل إليه مشروع الثورة الإخوانية في ليبيا، تأكدنا أن أمريكا ما تزال تراهن على طبيعة الوعي العربي العام، في المواقع القبلية، والطائفية، وأن سر فشلها حتى الآن في مصر وتونس، هو غياب هذين العاملين على الساحة. لذلك نجحت جزئيا في ليبيا، وأقل من ذلك في اليمن والبحرين بوصف ما يجري هناك، هو أقرب إلى الحراك السياسي منه إلى الثورة. والثورة الليبية هي حتى الآن الثورة الوحيدة، التي أقيمت تأسيسا على خلفية المبادرة التامة من جانب طرفي الثورة المضادة الأساسيين في العالم العربي، أمريكا والإخوان.

        وهي أقرب إلى الغزو منها إلى التمرد الداخلي. واٌقرب إلى التشكيل الإعلامي منها إلى الوضوح الميداني. فأكثر عناصرها من المرتزقة والمتطوعين العسكريين، من عناصر الإخوان في الدول العربية والإفريقية، ومن الضباط الإستشاريين البريطانيين، وبقيادة ضباط الشركات الأمنية من أصول آسيوية وإفريقية. وهذا ما تكشفه الشفافية الإعلامية التوجيهية لقناة الجزيرة، أثناء انهماكها في تزوير واختلاق الوقائع، والصور الشديدة الإيحاء والحذر التي تقوم ببثها. وعلى سبيل المثال فإن هذه السيدة الفضائية، بادرت منذ الأيام الأولى للغزو، إلى الحديث عن المرتزقة الذين استقدمهم القذافي من الجوار، بأمل إثارة البلبلة حول وجودهم مع فرق الغزو اتي تسميها ” ثورة الشعب الليبي. وشعار ” الشعب الليبي يصنع الثورة “ الذي يتصدر سفلية شاشتها، هو شعار كثير الإيحاءات إلى درجة الإنكشاف السيكولوجي للعقل الباطن للمهمة التأليبية والتضليلية في نفس الوقت.

        والغزوة المضادة لليبيا إذا نجحت، ستكون أول وأهم استهدافاتها هي الثورة المصرية والثورة التونسية. ستكون موطيء قدم سياسي وتخريبي وعسكري إذا لزم الأمر، لاعتراض سياقات وخلق أخرى، لتخريب أية سياقات تحررية قومية على الساحة العربية، وتحديث سياق العمالة النظامية القديم بوجوه وآليات جديدة، على غرار الأسلحة السوفياتية المجددة في روسيا، التي تتاجر بالفيتو الروسي، كما تتاجر المرأة بجسدها.

        أما العراق فلن تغيره ثورة عادية. هناك حاجة إلى بركان ثوري متجدد الثوران، لاستئصال الديموقراطية الطائفية منه، واستعادة الأرض لشعبها الذي بعثرته عاصفة الصحراء. العراق بواية المشرق العربي، وليبيا بوابة المغرب العربي وأحدى بوابات أفريقيا السوداء، فهل ستسمح الشعوب العربية بعاصفة أمريكية جديدة في الصحراء الليبية؟

        تذكروا من فضلكم ! من كانوا حلفاء أمريكا في العراق؟ وعلى ماذا يجب أن يندم الشعب العراقي؟ وتذكروا قناة الجزيرة أثناء وبعد احتلال العراق.