إنتصاراً للتاريخ والثورة العربية الثالثة
تحديات: التبعية والتجويف والتجريف والريع
(الجزء الثاني)
عادل سمارة
تجريف الثروة
يتحكم بتجويف الوعي وتجريف الثروة البعد الطبقي الموظف في خدمة الطبقة/ات ذات المصلحة في التجويف والتجريف. والبعد الطبقي هنا ليس محلياً وحسب وإلا نقع في فرضية اقتصاد روبنسن كروزو. لا يسمح النظام العالمي وخاصة في حقبة عولمة راس المال، لا يسمح لبلد بإغلاق الأبواب تماماً عن بقية العالم، أما تحالف طبقي على صعيد عالمي فيكون أكثر ويكون أوضح كلما كانت الطبقة الحاكمة في بلد محيطي تابع طفيلية كمبرادورية متخارجة بالبنية فيكون البلد تابعاً ويكون قوة طرد وتهميش:
· طرد الثروة إلى الخارج بآليات محلية كالفساد والتهريب، وآليات تخارجية بالاستثمار الأجنبي المباشر المباح له دفع ما يسلخ من فوائض إلى مراكزه الأجنبية.
· وطرد قوة العمل ما أمكن إلى بلدان إما تطلب التشغيل أم دون أن تطلب.
· وتهميش من لا يرحل ولا يجد عملاً في البلد ليكون في حياته اليومية على حافة مقابر الوعي ومقابر الجسد.
تجلت التحولات الطبقية في سدة الحكم بقيام سلطة الكمبرادور في مصر وتونس حيث جرى تحويل كل منهما إلى تشكيلة طبقية راسمالية/تجارية/ريعية تتقاسم مع شركات ودول المركز الاقتصاد المحلي على أساس اقتصاد التساقط.
بدأت آليات تطبيق التجريف بالقرار السياسي في قمة السلطة الذي كان جوهره مغادرة السنوات الأولى للتحرر الوطني بكل ما حملته من محاولات التصنيع، وتقويض النفوذ الأجنبي، وطموح الاستقلال الوطني، والوحدة العربية. لقد تم فتح ابواب الاقتصاد على حساب الحماية الاقتصادية سواء حماية السوق من التدفق السلعي الأجنبي أو حماية الصناعات الوليدة. وجرى سحب الدولة من الاقتصاد وخاصة في مصر حيث تم بيع شركات القطاع العام باسعار بخسة بناء على صفقات من تحت الطاولة مع رجال القطاع الخاص، واستعادة الأرض من الفلاحين بالبلطجة المكشوفة بعد أن وزعتها الثورة عليهم في هجمة لتصفية الإصلاح الزراعي، وتم تحويل الاقتصاد الزراعي بدل إنتاج الأساسيات إلى إنتاج المحاصيل الموجهة للتصدير مما قاد إلى الانكشاف الغذائي، وجرى تقويض الصناعات الاستراتيجية لصالح الصناعات الاستهلاكية والخفيفة.
يحضر البعد الطبقي العالمي هنا حين نجد أن المؤسسات المالية الدولية (الصندوق والمصرف الدوليين ومنظمة التجارة العالمية) وحكومات المركز (وحكومة العشرين التي قيد التبلور) هي التي توجه دفة الاقتصادات المحلية في بلد كمصر او تونس من خلال وصفات صندوق النقد والمصرف الدوليين وخاصة سياسة الإصلاح الهيكلي الذي يعني جوهرياً خروج الدولة من الاقتصاد وخاصة القطاع العام وتعني الخصخصة وتعني الانفتاح وتعني رفع الدعم عن السلع الأساسية وتعني تقليص ميزانيات الصحة والتعليم.
لم تكن كل هذه الهجمات الوحشية على الطبقات الشعبية ممكنة إذا لم تقترن بتجويف الوعي عبر شل القوى الحزبية والنقابية…الخ. هذا هو اقتران المسألتين معاً التجويف كتمهيد للتجريف، وفي النهاية الثراء الفاحش والفساد وتهريب الثروة أو تجريفها إلى الخارج. وكما اشرنا، تخيلت الطبقات الحاكمة أن تجويف الوعي سوف يضمن لها الاستقرار الدائم رغم نتائجه الكارثية من حيث الفقر المعمم والبطالة الموسعة إلى جانب إثراء فاحش معلوم وواضح. ويبرز السؤال مجدداً، على ماذا يتم الصراع في البلد الواحد أو على صعيد عالمي، هل هو بين الأديان ، بين الثقافات، بين الألوان، بين الأعراق أو على الفائض. طبقة تنهب جهد أخرى وبلد ينهب جهد آخر.
لكن بسطاء الوعي يصرون على خدمة رأس المال متمسكين بمقولة نفي الطبقية والطبقات والصراع الطبقي لمجرد أن الملك يصلي في المسجد الذي فيه من لا يخلع حذائه عند الصلاة لأنه اصلا بلا حذاء! هذا وكأن الله اباح الاستغلال والتغوُّل في جهد العمال.
سمات عامة للاقتصاد التونسي
لا نقدم هذه المعلومات كعملة نادرة، ولا كمسح شامل لاقتصاد تونس أو مصر او غيرها، وإنما هي للإنارة وتوضيح ما قصدناه بالتجريف سواء بقرار السلطات الحاكمة أو المؤسسات الدولية التي توجهها بل تملي عليها كذلك.
يبلغ عدد السكان 10 مليون وقوة العمل 3.74 مليون ويصل متوسط الدخل للفرد 3851 دولار وفي تقديرات أخرى 7،000 دولار! وهذا دليل غياب الشفافية حتى في الأرقام الصماء. وعدد قوة العمل 3.593 مليون، لكنها تعاني من نقص في المهارة[1].
بلغ الحجم الكلي للصادرات التونسية 15.15 بليون دولار، وبلغت وارداتها 18.03 بليون دولار. وبلغ الدين الخارجي : 19.27 بليون دولار حسب أرقام عام 2009، وتصل حصة الدين الخارجي هذه من الإنتاج الأهلي الإجمالي 47.1 % حسب عام 2009، ويبلغ دخل الميزانية: 10.05 بليون دولار بينما نفقاتها 11.23 بليون دولار وتبلغ نسبة من هم تحت خط الفقر: 7.6%، والبطالة: 14.4%.
هذه بالطبع الأرقام الرسمية في بلد ليس للشفافية فيه موقعاً. وبالمقابل، فإن الانفجار الثوري يؤكد ببلاغة أن هذه الأرقام لا تعكس الوضع الحقيقي، بل هي أرقام تمت هندستها على طريقة المعروضات السياحية. ويكفي التذكير بأن من هم تحت خط الفقر في المجموع العربي أعلى بكثير من خط الفقر التونسي!
إن الروابط الاقتصادية لتونس مع بلدان المركز وخاصة الاتحاد الأوروبي أعمق وأوسع بكثير مما هي مع القطريات العربية، وهذا على اية حال شأن مختلف القطريات حيث التجارة البينية بينها تراوح بين 4-10 بالمئة في أفضل الأحوال وهي تجارة يمكن وقفها في لحظة واحدة إذا غضب رئيس من رئيس أو ملك من أمير! وهذه الأمور ليست صدفة وإنما هي جزء من سياسات الأنظمة العربية التي تقصد تعميق و”تطوير اللاتكافؤ ” بين الاقتصادات العربية وذلك بهدف قتل المشترك القومي العربي[2].
تتوزع صادرات تونس على النحو التالي حسب ارقام عام 2009 : إلى فرنسا 29% ايطاليا 21% المانيا 8.8% ليبيا 5.8% بريطانيا 4.8% . وتبلغ اردات تونس 18.12 بليون دولار حسب تقديرات 2009. وهي من فرنسا 20.1% ايطاليا 16.4% المانيا 8.8% الصين 5% اسبانيا 4.5% اميركا: 4%.
أما مساهمة القطاعات الاقتصادية في الإنتاج الأهلي الإجمالي فهي: الزراعة 18% الصناعة 31.9 والخدمات 49.8%. وكما يتضح رغم أن تونس مجتمعا زراعياً، إلا أن مساهمة الزراعة في الإنتاج الأهلي الإجمالي هي الأدنى وهذا يرتد عموماً إلى غياب مشروع تنموي محلي من جهة وإلى تسخير الساحل للسياحة.
الجانب الريعي
حسب الصندوق والمصرف الدوليين، يعتمد الاقتصاد التونسي على السياحة والمناجم والزراعة والتصنيع وخاصة الموجه للتصدير. وبغض النظر عن صدقية الفجوة السالبة بين الصادرات والواردات، فإن اعتماد تونس في تغطية العجز ليس مصدرها قطاعات الإنتاج اي الصناعة والزراعة وإنما مصادر الريع وخاصة تحويلات العمال التونسيين في الخارج والسياحة.
تجدر الإشارة أن قوة العمل التونسية في الخارج لا تُحتسب ضمن العاطلين عن العمل في البلاد! مع أن هؤلاء العمال هم بمثابة حالات أخرجتها قوة طاردة محلية اي البطالة وتدني المداخيل والإرهاب السلطوي. والقاعدة الاقتصادية أن يتمكن راس المال في كل بلد من تشغيل عمالته؟ والاستشناء المقبول هو تشغيل العمالة الفائضة في دول التكامل الاقتصادي المحيطة اي العربية؟ وكل هذا لم يحصل إلا بدرجات متدنية.
“… يبلغ عدد تونسيي الشتات مليون شخص يقدمون مساهمة اقتصادية هامة. بلغت تحويلاتهم عام 2009 ما قيمته 2.652 بليون دينار أو 1.965 بليون دولار، أو 4.51% من الإنتاج الأهلي الإجمالي.” العمالة خارج البلاد عرضة للمؤثرات السياسية والاقتصادية الخارجية في بلدان التشغيل. وهو ما اتضح خلال الأزمة الاقتصادية العالمية الحالية.
وبعيداً عن قطاعات الإنتاج تحول الساحل التونسي إلى مناطق سياحية ركضا وراء ريع هذه الصناعة، وتم هذا كذلك على حساب الزراعة حيث جرى تمكين شركات اجنبية من المناطق الزراعية الجيدة لتنتج محاصيل موجهة للتصدير .
حسب الصندوق الدولي “في عام 2009 تدفق إلى تونس 6.9 مليون سائح معظمهم من أوروبا وشمال افريقيا”. ولكن السياحة ايضاً قطاع شديد الحساسية للسياسة. ففي الحربين ضد العراق ضُرب قطاع السياحة التونسي مما هز الاقتصاد. وهذا ناهيك عن أن تونس كانت في السبعينات وحتى منتصف الثمانينات قد فتحت للكثير من الشركات الأجنبية التي استغلت العمالة المحلية في صناعات الملابس والأنسجة، ولكن هذه الشركات ما لبثت أن انتقلت إلى بلدان أخرى تقدم عمالة بأجور اقل. وبالطبع لم يقتصر الأمر على خروج هذه الشركات بل كذلك تباطؤ الاستثمار الأجنبي نفسه رغم التسهيلات الشديدة له. وفي مختلف هذه العمليات يأخذ الفساد حصته سواء في إعطاء الأذونات او الدخول في شراكة وهي الأمور التي دفعت راس المال المحلي إلى الإحجام عن الاستثمار في مناخ منافسة مع شركات عملاقة ومناخ الاضطرار لدفع الخاوات للنظام. مفيد الاستنتاج هنا أن اقتصاد الريع بما هو رخو يوفر مناخاً أفضل للفساد والمحسوبيات أكثر من قطاعات الإنتاج.
السياسات الاقتصادية على ضوء الوصفات
يمكن ملاحظة مدى تبعية وتخارج وخضوع النظام التونسي في عهد بن علي من خلال اللغة الخبيثة ولكن لها دلالاتها التي تحدث بها الغرب الراسمالي عن تونس سواء صندوق النقد الدولي أو المصرف الدولي أو مؤتمر دافوس أو الرسميين الغربيين.
” تونس باتجاه الإصلاح الاقتصادي واللبرالية بعد عقود من توجيه ومشاركة الدولة. قادت الفطنة في التخطيط المالي والاقتصادي إلى نتائج متواضعة ولكن ثابتة في النمو منذ عقد.. . وهويرتكز على اقتصاد تقوده إصلاحات السوق وخاصة منذ 1980″.
ورد في تقرير المنافسة العالمية الصادر عن مؤتمر دافوس في أيلول 2008: “إن تونس حسب تقرير مؤتمر دافوس 2005 حصلت على المرتبة الأولى في إفريقيا ورقم/مرتبة 36 على مستوى العالم في القدرة على المنافسة وبأنها سابقة البرتغال وإيطاليا واليونان”. ما هي معايير هذه المنافسة في بنية النظام الراسمالي العالمي الذي يدعو لتحرير التجارة الدولية على مستوى مركز يُصدِّر ومحيط يفتح ابوابه ويتخلى عن الحماية! ما هي سوى الاستعداد الرسمي لفتح الأسواق لتجريف الثروة إلى الخارج انسجاماً مع الشعار المخادع: تحرير التجارة الدولية”. ويؤكد التقرير أنه “مع تصاعد أزمة المديونية في منتصف الثمانينات وأزمة سعرالصرف عام 1986، طبقت الحكومة التصحيح الهيكلي، وتحرير الأسعار، وقللت التعرفة، وحولت البلد إلى اقتصاد السوق”.
هنا المسألة المركزية تبنِّي سياسة السوق المفتوح ووصف ذلك بعبارات مموهة مثل: “خففت الحكومة التشدد الاقتصادي تدريجيا بزيادة الخصخصة وتسهيل الضرائب ومدخل ذكي للمديونية”.
ولكن الصندوق ليس راض بعد أي في الثمانينات حيث يقول: “ما تزال الحكومة متحكمة بقطاعات استراتيجية معينة من الاقتصاد (المالية، الهيدروكربونات، الملاحة، توزيع الكهرباء والغاز، ومصادر المياه) ولكن القطاع الخاص يلعب دورا متزايد الأهمية”
طبعاً، لا يتضح ما هو هذا القطاع الخاص. هل هو المحلي أم الأجنبي أم المختلط؟ فبسياسات الانفتاح يتمتع راس المال الأجنبي بحقوق وتسهيلات تفوق ما يحظى به حتى رأس المال المحلي.
ويضيف الصندوق: “كما يتجه البنك المركزي من دوره في الإدارة المباشرة للقطاع المالي إلى مزيد من دور الإشراف التقليدي والتضبيطي. وسُمح للبنوك التجارية بالمشاركة في تحويل/تقوية سوق الصرف الأجنبي. وبإشراف المؤسسات المالية الدولية حررت الدولة الأسعار، وقللت التعرفة وقللت خدمة الدين، ومددت سقف الدين إلى 10 بليون. والتصحيح دفع لاقتراض أكثر من البنك الدولي،ودائنون غربيون آخرون”
“…ومنذ 1987 حيث بدأت الخصخصة خصخصت الحكومة 160 شركة حكومية (وفي تقدير آخر 220) شركة ومنشأة تجارية وصناعية وسياحية، جزئيا أو كليا. ورغم مراعاة الحكومة للمفاعيل الجانبية إلا أن البطالة زادت وخاصة من تزايد قوة العمل. حيث 55% من السكان تحت سن 24”. هنا لا تعلق مصادر الصندوق وغيرها على ما يكتبونه! فما معنى مديح هذه الإجراءات التي تنتهي في النهاية إلى زيادة البطالة؟ يؤكد هذا ان الهدف هو الخصخصة وامتلاك راس المال الخاص المحلي والأجنبي لموجودات البلد، ولا قيمة للعمال لا من حيث احتجاز استخدام قوتهم في العمل لصالح البلد، لأن المطلوب إطلاق يد راس المال وليس الطاقات الإنسانية، وبالطبع لا يقلقهم الوضع اللاإنساني للعمال طالما الإجراء يحقق معدل ربح أعلى. ومن نتائج هذه السياسات تراجع منتسبي النقابات من 500 ألف إلى 50 ألفاً. والحقيقة أن هذا ضمن مخطط التجويف لأن تراجع الانتساب النقابي يؤدي إلى تراجع كفاحية النقابات ومن ثم استقرار التجريف الذي يحصل عبر الخصخصة.
وحسب مصادر المؤسسات المالية الدولية: ” حصلت تونس عام 1991 على تسهيلات ودخلت منظمة التجارة العالمية واتفاقية الجات واتفاقية التعرفة والتجارة الدولية. وفي آب 2010 مررت الحكومة التونسية قانون فتح الاقتصاد للامتيازات/إعفاءات الشركات الأجنبية في قطاعات التوزيع القطاعي والسياحة والسيارات، والتدريب . ويجب أن تقدم إعفاءات في قطاعات أخرى كخدمة الأغذية والعقارات على اساس حالة بعد أخرى. وأقرت اتفاقية حق الملكية الفكرية”.
وبكلمة، هذا معنى مديح مؤتمر دافوس لقدرة تونس التنافسية حيث كانت الأولى في إفريقيا ورقم 36 عالمياً، إنه الانفتاح والتلقي من الخارج، والتجويف والتجريف والريعية في الداخل.
طبيعة العلاقات بالأسوق الغربية
تقول تقارير الصندوق الدولي، وافقت تونس على نزع الحواجز التجارية مع الاتحاد الأوروبي خلال العقد الماضي فوسعت الخصخصة، وتبنت لبرالية أوسع للاستثمار الأجنبي وحسنت فعالية الحكومة”. أي زادت قدرة الدولة على جباية وسلخ الضرائب. وبالطبع فالتسهيلات الهائلة للاستثمار الأجنبي تفتح على الفساد الرسمي اي حصول السلطة على عمولات أو حصص في الشركات الجديدة، وما تحصل عليه رجالات السلطة كفائض يتم ضخه إلى الخارج.
” لقد وقعت الولايات المتحدة وتونس اتفاقية إطار متاجرة واستثمار. كما التزمت تونس نظام التجارة الحرة والنمو الموجه للتصدير. كما وقعت اتفاقية إطار متعددة مع مصر والأردن والمغرب (تعرف باتفاقية أغادير)…منذ 1993: سهلت اكثر للراسمال الأجنبي فدخلت البلد اكثر من 1600 شركة مختلطة مستفيدة من العمالة الرخيصة، وتسهيلات الدخول للسوق الأوروبية، وهذا نهب الفائض وزيادة في البطالة. …ولأن الدينار غير مقبول في الخارج هناك تقييدات على إخراج العملة من قبل السكان” . أي العملة الصعبة، ولكن هذا التقييد لا يُطال شبكة السلطة الحاكمة ولا الشركات الأجنبية!
“عام 1996 دخلت اتفاقية تعاون مع الاتحاد الأوروبي، وتعني شطب التعرفة ومختلف الحواجز التجارية حتى 2008. ورافق هذا مساعدة تونس على برامج حث الإنتاجية في العمال، والتحضير للمنافسة في السوق العالمي”. عبارات مدبجة جيداً، فما هي الميزة النسبية لبلد مثل تونس كي ينافس في السوق العالمي باستثناء فتح ابوابه للاستثمارات الأجنبية المباشرة التي تتلاشى العمل في قطاعات الإنتاج وتركز على الخدمات وتجرِّف أرباحها إلى الخارج مما يحول دون استثمار الفائض في تشغيل قوة العمل المحلية.
” وصل الاستثمار الأجنبي عام 2007 إلى 2 بليون دينار وهو 5.18% من إجمالي الاستثمار في البلد، ويزيد ب 35.7% عن 2006، ويشمل 217 شركة اجنبية جديدة، وتوسيع شركات 22 موجودة. ووصل النمو إلى 6.3 عام 2007″. يثير هذا سؤالً، إذا كان النمو المتحقق بهذا المعدل العالي، إلى جانب الاستثمار الأجنبي، فلماذا تزداد البطالة ويزداد الفقر؟
نماذج نصيَّة على كذب الغرب
ففي 28 نيسان 2008 أصدر الصندوق خلال إحدى زياراته لتونس التصريح التالي: ” إن بلدكم لينشغل في حث حقوق الإنسان والحريات الأساسية بمستوى دولي…” وبعد لحظات واصل المدير التنفيذي للصندوق شتراوس خان قوله في تونس نهاية عام 2008 بأن نظام بن علي هو ” النموذج الأمثل للعديد من البلدان الصاعدة[3]“.
مع ذلك فإن نفس الصندوق هو الذي صرحت مصادره عن الوطن العربي بالقول: ” طبقا لمعدلات البطالة الحالية الذي هو عالٍ جداً، فإن المنطقة العربية بحاجة لخلق 100 مليون شاغر عمل جديدة حتى عام 2020. ولكن في أوضاع يتم اعتصار الموازنات لصالح استيراد الأغذية والوقود، فإن خلق هذه الوظائف مستحيلاً، وخاصة في البلدان التي تفتقر إلى احتياطي الطاقة” وامتدحت بعثة الصندوق مرونة الاقتصاد التونسي: “… حيث واجه مصاعب الوضع الدولي في تراجع السياحة والمحاصيل بسبب الجفاف….ومع ذلك ما تزال سياسة تونس الاقتصادية تواجه تحديات…ففي المدى القصير سوف تحتاج تونس لموضعة نفسها بحيث تستفيد من الانتعاش الاقتصادي العالمي الذي سيلي التباطؤ الحالي”
ما هي آليات الموضعة التي تسمح لتونس كبلد وليس كقشرة كمبرادورية بالاستفادة من الانتعاش الاقتصادي العالمي؟ وهل هناك انتعاش اقتصادي عالمي من حيث المبدأ؟
“…إن تدني النمو الاقتصادي عام 2002 قد ألقى ضوءا على الإجراءات المطلوبة للحفاظ على نمو مستدام في المدى المتوسط وتقليص الهشاشة في الاقتصاد التونسي تجاه الصدمات الخارجية التي لا يمكن للسلطات التونسية التحكم بها. وهذا يتضمن قطاع السياحة سقوط الأمطار للقطاع الزراعي”
بعد مغادرة اقتصاد قطاعات الإنتاج، والاعتماد على اقتصاد الريع اي السياحة، والطبيعة، اي المطر، صار بوسع الصندوق الإقرار بأن لاحول ولا قوة لتونس في مواجهة الأزمات، وكأن ما جرى من خراب اقتصادي هو بفعل الطبيعة.
علاجات الصندوق
ويكرر الصندوق: “فمن اجل تقليص البطالة وزيادة دخل الفرد بشكل ملموس لا بد من تسريع النمو إلى معدل يصل 6.5% في فترة 2004-2008”
لذا يوصي الصندوق السلطة التونسية باتخاذ إجرائين:
الأول: “تطبيق سياسة تقوية السياسات الكلية في سياق هو زيادة انخراط الاقتصاد التونسي في الأسواق المالية العالمية”. أي مزيد من التبادل اللامتكافىء وفتح الباب لاستثمارات حرة وتحويلات الفوائض إلى الخارج. إنها سياسة امتطاء الحصان حتى يسقط أرضاً. هل كان خبراء الصندوق متأكدين كما النظام التونسي نفسه بأن الشعب ميتاً!
والثاني: أن تسرِّع تونس إصلاحاتها الهيكلية لزيادة الانتاج الكلي لعوامل الإنتاج. الأرض العمل الإنتاج.
وفي حديث لفريق الصندوق: إن التحديات التي تعترض زيادة الإنتاجية وجذب الاستثمارات تتطلب تسريع الإصلاح الهيكلي. وهذا يتطلب بشكل خاص خصخصة القطاع البنكي وهيكلة قطاع التأمين، والتحضيرلإنهاء احتكارات الاستيراد على مراحل.
تجريف مصر
المشترك عالٍ جداً بين مصر وتونس ومعظم القطريات العربية من حيث آليات التجريف والخضوع لوصفات صندوق النقد الدولي[4]، ولكن مصر تختلف في حِدَّة الارتداد عن حقبة ثورة 23 يوليو التي كانت قد قطعت خطى واسعة في طريق التنمية والتشغيل وإقامة القطاع العام والقاعدة الصناعية الثقيلة والإصلاح الزراعي، وهو ما جعل الرِدَّة شديدة التأثير وواضحة. بكلمة أخرى كانت العودة إلى التبعية في مصر نقلة واسعة وليست مجرد ارتداد بطيء.
مثل انقلاب السادات على الناصرية 1970، بداية تغيير بنية الاقتصاد المصري بموجب اعتماد وصفات الصندوق الدولي حيث بدأ التراجع عن الاعتماد على الصناعة وبدأ توجيه الزراعة نحو المحاصيل التصديرية بدل إنتاج الحاجات الأساسية للمجتمع وتوفير الأمن الغذائي وزيادة الاعتماد على الأوجه الريعية في الاقتصاد بدل القاعدة الإنتاجية مثل دخل قناة السويس والسياحة، وهما ثروتان في منتهى الحساسية لتاثيرات اي صراع محلي أو عالمي.
بدأ السادات خصخصة القطاع العام في مصر وبيع الشركات لراس المال الخاص بأسعار بخسة كانت تكمن ورائها صفقات وعمولات تتوزع بين قمة السلطة الحاكمة، وذلك ضمن مشروع تقويض البنية الإنتاجية والحد من تطورها لصالح طبقة الكمبرادور التي اثرت من دورها كوكيلة للشركات الأجنبية. وتم تشجيع راس المال الأجنبي لشراء الأصول في مصر وخاصة في قطاع السياحة الذي يوفر ريعاً عالياً ولا يطلب استثمارات عالية، وإن حصل فهو في نطاق الخدمات وليس القاعدة الإنتاجية أي الإنتاج الحقيقي. فالنشاط الخدماتي متحرك وبلا أصول حقيقية مما يجعل رحيله سهلاً. فبدل توسيع ودعم إنتاج السيارات المحلية أقيمت محطات تجميع لصناعة السيارات الأميركية مثل جنرال موتورز وهي من نمط الصناعات التي تنقل مواقعها سعياً وراء أدنى أجور ممكنة.
لم تكن علاقة النظام المصري مع الصندوق الدولي بلا خلافات، وإن كانت هذه الخلافات على درجة تغوُّل وصفات الصندوق وليس “وطنية” النظام. و”خلاف” الحكومة المصرية مع الصندوق والبنك متواصل منذ ان وافقت مصر عام 1991 على مشروع التجليس او اعادة الاصلاح الهيكلي لاقتصادها بناء على وصفة الصندوق.
في عام 1995 اصر الصندوق على ان تقوم مصر بتخفيض عملتها والا فان نادي باريس لن يشطب مقدار 4 بلايين دولار من ديونها لدول هذا النادي. وحدث آنذاك تنازع كبير. وبالطبع، تم هذا ايضا بعد مشاركة مصر في العدوان الثلاثيني على العراق حيث اعفيت من قرابة 7 مليار دولار من الديون المستحقة عليها. كان سبب التنازع على التخفيض هو رغبة نادي باريس والمصرف والصندوق الدوليين في تخفيض العملة المصرية لتشجيع التصدير على اعتبار ان صادرات مصر ضعيفة[5].
في هذا الصدد امر الرئيس المصري بضخ مقدار 25 مليار جنيه (7,5 مليار دولار) في الاقتصاد المصري على مدار الاشهر الثمانية المقبلة، حيث انها ستتحصل من ديون الحكومة التي هي من فئات ديون حكومية على القطاع الخاص وضرائب مستحقة على القطاع الخاص وعلى الافراد، وهي ضرائب مزمنة وغير سهلة التحقيق.
على ان هناك تناقضا آخر في هذا الصدد. فالدارج عالميا انه بتطبيق سياسة اللبرالية الجديدة في الاقتصاد، ومصر من الدول التي فعلت ذلك مبكرا، يترافق مع هذا التطبيق محاباة ضريبية لكبار اصحاب رؤوس الاموال على حساب دافع الضرائب الصغير!.
ولتفريغ الجيش من دوريه السياسي والوطني عامة، فقد أدى توقيع اتفاقية كامب ديفيد إلى إبعاد الجيش عن السياسة في مصر وحتى عن الأمن الداخلي فانشىء الأمن المركزي إلى جانب المخابرات والشرطة كماكينة قمع تعد بالملايين. وحيث لم يعد للجيش دوره الوطني والقومي فقد تحول إلى شركة تنتج الحاجات الاستهلاكية للقوات المسلحة وترتبط مباشرة بالولايات المتحدة في أمرين اساسيين:
· شراء المعدات الثقيلة ألتي حُظر عليها الاقتراب من سيناء،
· والتحول لصالح التسليح والتربية والعقيدة العسكرية الأميركية وخاصة لكبار الضباط وهو ما اتضح في استخدام هذا الجيش في العدوان الثلاثيني على العراق 1990.
في تقرير مركز سلام النظام العالمي من اميركا ورد أن الشرق الأوسط هو ألمنطقة رقم 1 في العالم في تهريب الأموال عبر الجريمة والفساد وأن مصر هي الدولة رقم 3 في هذا المجال على الصعيد العالمي. والسؤال هو: لماذا تهريب الأموال؟ وهل يمكن لبرجوازية إنتاجية أن تهرب أموالها؟ أم أن التهريب هو الطريق الطبيعي للأموال المسروقة والمنهوبة عبر الفساد الناتج عن التجريف مترافقا مع نزعة طفيلية كمبرادورية للبرجوازية وليس عن توجه قومي إنتاجي. هناك الكثير من الدول الرخوة ولكن فسادها له منحىَ آخر اي الفساد الاستثماري بمعنى أن البرجوازية الفاسدة تنهب ولكنها تستثمر داخل البلد كما تفعل دول النمور الأربعة في جنوب شرق آسيا. واضاف التقرير أنه في عام 2009 جرى تهريب 6,8 مليار دولار من مصر، وأن التهريب في الفترة من عام 2000 إلى 2008 قد بلغ 57 مليار دولار[6]. والتهريب عبر الفساد مختلف عن التحويلات المالية العادية إلى المراكز المالية الغربية، وهذا يبين حجم نزيف الثروة من مصر إلى الخارج ويفسر بالطبع معنى أن يعيش 40% من الشعب المصري الذي يصل عدده إلى 85 مليون نسمة على دخل من دولارين فأقل في اليوم.
أما الوجه الآخر الذي يوضح لماذا يعيش هذا العدد بأقل من دولارين، ومعيار الدولارين هو حد الموت بينما هو لدى المصرف الدولي حد الحياة! فهو ما بدأ يرشح بعد الثورة عن ما سرقه الرئيس المصري حيث وصل إلى 70 مليار دولار، أي بحجم المساعدة العسكرية الأميركية للجيش المصري منذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد اي ان مسروقات الرئيس كان بوسعها تغطية المساعدات الأميركية التي لم تكن مجرد مساعدات بل سيولة مالية لشراء معدات وخدمات أمنية وعقائدية اميركية تُدفع هذه الأموال وزيادة عليها مقابل تلك المشتريات الخطيرة!
مما أُفتضح بأن رشيد محمد رشيد وضع يده بالفساد على 200 مليون دولار، ومئات ملايين الدولارات وضع أحمد عز يده عليها في عملية خصخصة الحديد والصلب واستملك 25 مليون متر مربع بدولار واحد للمتر من خلال ولصالح شركته جراند وهذه مجرد أمثلة بين العديد من مثيلاتها.
التطبيع بالمناطق المؤهلة والغاز
لا يعمل الصندوق والمصرف الدوليين بمعزل عن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، مما يؤكد الشك في “دولية” هذه المؤسسات. وإذا كان الصندوق والبنك قد سارا في مسرب معين، فقد سارت الولايات المتحدة والكيان الصهيوني في مسرب آخر موازِ ومنسجم في نفس الوقت.
تمثل المسرب الأميركي/الصهيوني في رعاية الولايات المتحدة لاتفاقية المناطق المؤهلة صناعيا بين مصر والكيان، كما عقدت نفس الاتفاقية مع الأردن. لقد نقلت (جلوبس أون لاين) عن صحيفة الشرق الأوسط، وهي سعودية رسمية تصدر في لندن:
“…أن الولايات المتحدة وإسرائيل تؤثران على مصر لإقامة منطقة ثلاثية مؤهلة صناعيا على أن تحتوي مكونات سلعها المصنوعة في مصرعلى 8% من المكونات الإسرائيلية…وأن هذه الاتفاقية حسب رجال أعمال مصريين هي الخطوة الأولى نحو اتفاقية متاجرة حرة مع الولايات المتحدة. كما ذكؤ مسؤول كبير في مؤسسة غرف التجارة المصرية أن واشنطن تضغط على مصر لتشغيل المناطق الصناعية التي بدورها سوف تؤبد التسلل الإسرائيلي لاقتصادات مصر والعرب, واضاف إن مما يشجع مصر على هذه الاتفاقية هي أزمة صناعة الملبوسات حيث فقدت سوق الولايات المتحدة لهذه السلعة لصالح بلدان شرق آسيا. وأن الاتفاقية تُربح الصناعيين المصريين 500 مليون دولار سنوياً”[7]
وضمن السياسة نفسها كانت صفقة الغاز بين النظام المصري والكيان الصهيوني.
” …في عشاء احتفالي اقامه التنفيذيون الأعلى في مجموعة الكهرباء الإسرائيلية في حيفا حيث أعرب محمد طويلة رئيس الوفد المصري عن رغبة مصر ببيع 25.5 بليون متر مكعب من الغاز الطبيعي والتي تبلغ قيمتها حوالي 2 بليون دولار ولمدة 15 سنة[8]
[1] مختلف المقتطفات التي لا يُشار إلى مصدرها هي تلخيص مكثف لما هو في مواقع الإنترنيت مثل الصندوق والمصرف الدوليين وويكيبيديا .
[2] أنظر عادل سمارة، دفاعاً عن دولة الوحدة وإفلاس الدولة القُطرية، مركز المشرق العامل للدراسات الثقافية والتنموية
رامالله 2004 ودار الكنوز الأدبية، بيروت 2003
[3] يذكرنا هذا الخطاب الاستعماري المستخِّق بذكاء أهل البلد بخطاب طويل سابق. عام 1920 حين قرر الاستعمار الفرنسي شق لبنان عن سوريا اسماها آنذاك” جمهورية لبنان الكبير”!
[4] حول شروط الصندوق الدولي على مصر، أنظر كتاب عادل سمارة : البنك الدولي والحكم الذاتي: المادحون والمانحون ، منشورات مركز المشرق/العامل للدراسات الثقافية والتنموية، رام الله 1997.
[5] للمزيد عن هذا الامر راجع كتابنا: البنك الدولي والحكم الذاتي:المانحون والمادحون، اصدار مركز المشرق/العامل للراسات الثقافية والتنموية، ص ص 32-34.
[6] وصلت الأموال المهربة من الجزائر والمغرب 27 مليار دولار من 2000 الى 2008، وإلى جانب البطالة الواسعة في الجزائر هناك 150 مليار دولار فوائض بايدي السلطة الجزائرية.
[7] Published by Globes [online] – www.globes.co.il – on July 15, 2004, Lior Greenbaum, 15 Jul 2004.
[8] Amiram Cohen 12-2-2004 in The Marker.com