خواطر ما قبل المعركة

خواطر ما قبل المعركة

إلى المناضل الفذ د. عادل سمارة

أحمد حسين

 

أخي عادل

 

هذه مرحلة المصير العربي الشامل. إذا لم تستطع الثورات العربية حماية سقف هذا المصير بالكامل رأسيا وأفقيا فكل شيء تحته سيضيع. لا مجال لأية صفقات مع المرحلة، أو الظروف الميدانية لأنها بتفاصيلها المعادية تشكل النقيض التام. ألصفقة الوحيدة المجدية يجب أن تكون مع الوعي الرافض لأقل من الثورة الكاملة، التي تعني دحر النقيض عن كل المواقع السيادية التي يملكها على الساحة العربية. يجب أن تكون السيادة عربية خالصة على الوطن العربي. بأقل من هذا، ليس هناك إمكان للخلاص من أي شيء نرفضه. سيصبح التطبيع طبيعة للمرحلة القادمة، ونصبح نحن على وفاق عفوي معه، لأنه جزء من بنيتنا التابعة الني ستفقد كل تحفظ من هيمنة الأخر على مصيرنا.

        من مثلك يعرف أن التحرر، هو مشروع مستقل للتنمية في ظروف الثراء المادي والمعنوي والمعرفي الموضوعي، يتحرك تحت سقف التحرر مع الأخر وليس من الأخر، كما تتهمنا حمير الليبرالية. هذا معنى أن تكون إنسانا سويا في هذا الوجود الإنساني. لا قيمة للحياة ولا معنى ولا متعة وجدانية بدون الحد الأعلى الممكن من التوق للحرية، التي صنعت إنسانية البشر. فالإنسانية هي إنجازات التطور البشري بجميع فروعها المادية والمعنوية والجمالية. وهي غير ممكنة بدون الأخر، في جميع حالاتها تعاسة أو حزنا. لذلك كانت المهمة الإنسانية تاريخيا هي إزالة الظلم والإستبداد من العلاقات البشرية، وليس إزالة الآخر لأنه في الحقيقة نحن جميعا. وكانت هناك حالات استبداد فادحة كثيرة خلال التاريخ، ولكن الشعوب أستطاعت رغم ذلك، أن تحقق نقلات مهمة لوعي الحرية هي التي بنيتنا الإنسانية الحاضرة، بكل ما فيها من جمال وقبح نسعى للتغلب عليه. ولكن أمريكا يا أخي شيء مختلف. إنها تثبت كل يوم أنها مع بشريتها، لا مع إنسانيتها. وأن العلاقة معها لا يمكن إلا أن تكون علاقة استبداد خالص. إنها تجربة تطورية جانحة، تملك منظومة من القيم الذاتية العملية، تضعها في ناحية، والحياة الإنسانية في ناحية أخرى. قد يكون السبب الجوهري هو مجموعة من الغيبيات المتعلقة بالنشأة والإنجاز السريع والقوة المفرطة. وباختصار قد يكون جنون العظمة، أو الإكتئاب الفلسفي الذي يصيب الحضارات الغنية والمرفهة حول عبثية الحياة، ولكن النتيجة هي تجربة لها مزاج إجرامي، يحتقر الأخر، ويستخف بحياته وإنسانيته. ألبشرية إذن أمام مشكلة إسمها أمريكا تؤمن بحرية القوة والفوضى وتتعالى على التجربة البشرية.

        ومن الصعب إنكار أن أمريكا ترى في امتلاك العالم العربي، بموقعه وثرواته الضمان الأول لاستمرار سيادتها العالمية. وفي نفس الوقت، ولذات الأسباب، ترى فيه مرشحا لقوة محتملة، تشكل خطرا على مشروعها الشرق أوسطي الذي يعتبر أول بنود مشروع العولمة. لذلك، ومنذ بداية تحالفها مع الصهيونية، وهما تبلوران معا، وبكل الوسائل حركة استشراق متقدمة جدا، بشمولها التفصيلي وأفكارها وآلياتها الحديثة، للقضاء على أية احتمالات تنموية أو أحلام تحررية في العالم العربي. كانتا تريدان امتلاك العالم العربي وليس السيطرة عليه. مجرد السيطرة لا يعتبر ضمانا، بل محركا لنزعات التحرر. وكان الضمان الجهنمي الوحيد هو تصفية الإنسان العربي بكل الوسائل القمعية والتخريبية والنفسية المتوفرة، لتشكيل العينة البشرية المنحطة، وتجريدها من كل ديناميات القدرة على المبادرة، أو الرفض. ولن أدخل في تفاصيل لا يمكن الإحاطة بها، ولكن المجهود البحثي والتجسسي والمخابراتي والإعلامي والدعائي الذي وظفته أمريكا وإسرائيل في المنطقة العربية، لتدييث الشخصية العربية الفردية والجماعية، يتجاوز حدود الإحاطة. لقد عملت على تفتيت النسيج العربي الإجتماعي، وتدنيء وعيه بأحط الوسائل التي تخطر في بال كتاب الروايات السادية.

        وفوجئنا بالثورات الشبابية. وفوجئوا هم بزخمها الشعبي وفقدوا السيطرة على السياق. ترنحوا قليلا، ولكنهم استعادوا أنفسهم من الدهشة، وبدأوا يعيدون تنظيم أنفسهم. وحشدت أمريكا والصهيونية كل الكمائن التي زرعتها في الجسد العربي خلال عقود طويلة لتفجرها في وجه الثورة الشعبية. وأصبح السياق الآن واضحا وضوح الشمس. لقد اقتنصتهم الثورة الشعبية في لحظة انفجار للتراكمات لم يتوقعوها، وعليهم الآن التنحي عن طريق العاصفة حتى تهدأ. انزووا وتركوا شياطينهم من عسكر وليبراليين وإخوان وجامعة عربية، يحققون اختراق الثورة بالإلتحام الكاذب معها، لتقودها في ذات الطريق التي سعوا إليه عندما حدثت المفاجأة. أي دمقرطة استبداد أمريكا في العالم العربي، واستبدال آليات العمالة الفردية، بآليات التغلغل الديموقراطي المنسجمة مع وعي العولمة، حيث تحقق حالات التعددية الحزبية والفئوية والطائفية والعرقية حالة التقمص الأمريكي للعالم العربي، بدل حالة الوصاية القمعية. سيصبح العالم العربي شريحة فسيفسائية الكترونية محملة ببرنامج أمريكي، يحقق الهدف المركب لأمريكا في تملك المنطقة من ناحية، وإلغاء كل أشكال الهوية التاريخية لها من ناحية أخرى.

 

أخي عادل

 

        إذا تحقق هذا لأمريكا، فلن يعود التطبيع إشكالا قائما، لأنه أحد إشكالات الصراع على الهوية، كما أوضحته في كتاباتك الفذة بهذا الشأن، وليس أحد إشكالات التقمص البنيوي. أما إذا تعثر نجاح المشروع الأمريكي، وطالت مدة الحسم بين الثورة الشعبية والثورة المضادة، فالأولوية الأن للتعبئة القومية، والرفض الشعبي للهزيمة أمام أمريكا وعسكرها في تونس ومصر، وغزوتها الإخوانية لليبيا، وحروبها الأهلية في اليمن والبحرين. لقد دخلت أمريكا حربها التصفوية المعلنة على الشعوب العربية. فماذا على الشعب العربي سوى أن يعلن الحرب عليها؟ سنرفض التطبيع مع كل دول العالم القذرة، وفصائل العمالة التابعة لها، بعد الإنتصار في معركة المصير ضد أمريكا على ساحة إنقاذ الثورة الشعبية من التفكك. لن ننسى فلسطين ولن ننسى العراق، ولن ننسى عصور الذل وهدر الكرامة التي أذاقتنا إياها أمريكا والغرب والصهيونية، وسنرفض التطبيع مع دول العولمة الإستبدادية، بتلقائية الإنتماء إلى معسكر التحرر العالمي، وثورة كل شعوب العالم على أمريكا، لإنقاذ إنسانيتها من براثنها الملوثة بدماء العالم.

        هل انتبهت أخي، إلى مدى التفاف الليبراليين في العالم العربي حول أمريكا؟ هل سمعت أوابدهم الفكرية على شاشة الجزيرة؟ كنا نعرفهم أنت وأنا قبل اليوم، ولكنا لم نكن نظنهم يملكون كل هذه القدرة على الإبتذال المهني. إنهم يتحولون في لحظات نسيان البث المباشر، إلى قردة تدير مؤخراتها لعقول المشاهدين. هل تستطيع أن تتخيل المفكر حينما يفقد إنسانيته، ويقول أن أمريكا لم تعد أمريكا التي نعرفها، فهي تقوم بالتضحية بمصالحها في ليبيا من أجل حماية أرواح المدنيين، فتبتسم له المذيعة وكأنها تربت على كتفه، وحينما تشعر أنه لم يكن على مستوى التوقع، تقوم بشرح ما قاله بما تريد أن يقوله. أما المحلل العسكري الذي تحول إلى يافطة إعلامية، فلا غبار عليه من حيث الخط والورق والقوائم الخشبية. هؤلاء هم الآن الذين ينبغي “تطبيع” الصراع معهم، لأنهم يدعون للتطبيع مع جرائم أمريكا بالتضليل وتهديد الوعي الشعبي للثورة. إنهم يشكلون طاقم التعبئة للثورة المضادة، ويجب أن يواجهوا بتعبئة قومية وتحررية مضادة، على ذات المستوى، ليس لإصلاح نموذجهم، ولكن لشرحه للوعي كجزء من المواجهة.

        إنهم يركزون على قذافية المقاومة للغزو الأمريكي الدائر لليبيا، وكأنه ميرر كاف لتأييد الغزو الأمريكي الذي يسمونه ثورة الشعب الليبي. إنهم يضعون المشاهد والمستمع العربي، في خانة موقفه من شخصية الحاكم الليبي المتعدد الشخصيات، ليبعده عن أن موضوعية دوره الآن ليس محاكمة القذافي، وإنما صد الغزو الأمريكي الجديد لقطر وشعب عربي. إن محاولة تمرير الغزو الأمريكي لليبيا هو محاولة للتطبيع بين الثورة العربية الشعبية وأمريكا الديموقراطية. أي القضاء على الثورة وتحويلها إلى حادثة لصالح الديموقراطية الغربية، بحكم كونها معادلا للتحرر الثوري. هذا هو التطبيع الليبرالي مع الثورة، الذي يجب على الشباب العربي أن يتصدى لمقاومته بكل الوسائل على الساحة الليبية، التي تعاني من ” ثورة شعبية” مدججة بالسلاح الأمريكي، والخبراء العسكريين الأطلسيين، والمرتزقة المتخرجين من المدارس العسكرية الموازية للمارينز تحت ‘دارة السي آي أي، وطواقم ديبلوماسية وإعلامية توظف أحدث آليات صناعة الكذب.

 

أخي عادل

 

        تعرف بالطبع أن هذا ليس سجالا معك. فلا أجد لدي أو لديك إلا ما تعلمناه من ذات التجربة، وما تعلمه أحدنا من الآخر. ولكنني أردت مبادلتك الخواطر في شأن لم نختلف في جوهره أبدا، عل هذه الخواطر تفيد من هم مثلنا في شيء. يجب أن تنتصر الثورة الشاملة في الحرب مع أمريكا وكمائنها وإعلامها المفخخ في كل مكان، وأن تنتصر عليها في كل مكان. إن نقاط ضعف أمريكا في المنطقة العربية لا تحصى. فإذا توفر لدينا وعي المواجهة الميدانية معها، كسبنا معركة التحرر العربي رغما عنها.