هيلاري كلنتون في ميدان التحرير!

                               هيلاري كلنتون في ميدان التحرير!

عبد اللطيف مهنا

 

        السيدة هيلاري كلنتون في ميدان التحرير… هذه واحدة من تلك التقليعات الاستعراضية الأمريكية جداً، التي لطالما برع ملوك الshow في لعب مثيلها وامتازوا بها… وهم في مثل هكذا حالة سوف لا يجدون أحداً سواهم لا يخجل من الأقدام على لعبها، وتحديداً، في مسرح عربي راهن…

        أولاً، السيدة وزيرة الخارجية الأمريكية لم تأت إلى مصر، وفي مثل هذه الأوقات العربية بالذات، لكي تهمس في الغرف المغلقة في أذان من يتولون الأمر فيها الآن بمثل ما صرحت به جهراً في ميدان التحرير ورددته أمام العدسات. كما لم يرسلها البيت الأبيض إلى هذا الميدان في مهمة سياحية استمرت خمس عشر دقيقة، كي تشهد لله والتاريخ، وأمام ثواره الذين رفضوا الالتقاء بها، بأن “الأهرام مذهلة لكنها لا تقترب في روعتها بأي حال مما فعلتموه بالفعل”! كما وأن الإدارة الأمريكية لتدرك سلفاً بأنه لن يصدقها مصري على وجه الخصوص أو عربي على وجه العموم، وربما أيضاً من هو غير أمريكي، عندما قالت أن ” مشاهدة موقع الثورة، التي كان وقعها عظيماً في العالم، أمر رائع بالنسبة لي”!

        ثانياً، أن الأمريكان يعلمون علم اليقين، رغم أن عضلاتهم الإمبراطورية تعمل عادة في غير صالح عقلهم السياسي وغالباً ما تنوب عنه، أن الوجه الأمريكي القبيح في العالم، هو كان أكثر قبحاً في عيون العرب، والآن غدت رؤيته مما لا يطاق شعبياً ولا يحتمل، وإنه لن تجدي في تزيين بشاعته المزمنة كل فنونهم الاستعراضية، أو ما توفره لهم إمكاناتهم السياسية الهوليودية التي تتيحها لهم ميزة كونهم القوة الكونية الأعظم.

        لكنهم، وهم الأشهر في عالمنا بجهلهم للآخر، وعدم قدرتهم على فهم سواهم، وبالتالي إدمان عادة الاستخفاف بعقول الآخرين، لدرجة تصديقهم لأنفسهم وهم يكذبون عليهم، بل وعدم الخجل من ذلك، جاءوا، أو جاءت عنهم السيدة كلنتون، إلى مصر لسببين اثنين:

أحدهما ما كان قد ذكره السيناتور جون كيري محاضراً، من وجوب “تصحيح” السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، حيث، كما قال، أنه “لم يعد بإمكاننا أن نرى الشرق الأوسط فقط من خلال 11 أيلول”…

هذا التصحيح الذي يشير إليه السيناتور هو ليس بمعنى العودة عن ذات معتاد السياسات الإمبراطورية العدوانية المتسمة بروح الهيمنة، والتي يتحكم فيها معياران لا ثالث لهما، هما إسرائيل أولاً، وبكل ما تعنيه أمريكياً، والمصالح الأمريكية ثانياً وأخيراً، وإنما هو تصحيح يعني العمل في الغرف العربية المغلقة على ضمان أن لا يأتي التغيير، المرافق للثورة العربية الكبرى العابرة لحدود القطريات العربية، بما يهدد إسرائلهم في المدى الاستراتيجي، ويضر مصالحهم في المنطقة العربية، واستطراداً الجوار الإسلامي… ويعني في ميادين تحرير الثورة العربية محاولة ركوب موجه هذا التغيير أو مساعي الالتفاف الملتوية على تداعياته… إنه تزوير هذا الطوفان الشعبي وتشويهه وسرقة ما أمكن من موجاته أو حرفها ما استطاعت، بزعم أنهم مع هذا التغيير، ومحاولة تصوير أنهم مع هبوب نسائم الديموقراطية التي يبشر بها هذا التغيير… من هذا، بث تهويمات خبيثة التقطها للأسف بعض العرب، بحسن أو سوء نية، وأخذوا ينعقون بها بين ظهرانينا، تزعم بأن أصابعهم، أصابع الأمريكان، وراء كل هذا الذي يجري اليوم في دنيا العرب… وإن هذه الأصابع، وهكذا وبقدرة قادر، هي من حركت ملايينهم، ملايين العرب، الثائرة الهادرة التي شهدتها ميادين التحرير مشرقاً ومغرباً ودفعتها لأسمى معاني التضحية بدماء الشهداء… من أجل ماذا؟ من أجل الانعتاق من الهيمنة الأمريكية وتسلط وكلاء هذه الأصابع السوداء الملوثة وتابعيها الخلّص من مستبدى الحقبة العربية الأمريكية البائدة، أوالآخذة بعد انتفاضة هذه الصحوة العربية التاريخية إلى الزوال!!!

        قبل ملاحم ميادين التحرير العربية، التونسية، المصرية، اليمنية، الليبية، البحرانية، هناك الكثير من الحقائق العربية، التي منها من لا يفهمه الأمريكان والتي منها ما لا يريدون فهمه، ومن يحاولون حجبه بالاطلالات الاستعراضية الهوليودية غير الشيقة، التي كان آخرها ما حاولته نجمتهم هيلاري في استعراضها الأخير في ميدان التحرير… أولها، أن مسلسلات الخطايا الأمريكية قد تراكمت في بلادنا، وإن جروح العرب الغائرة الناجمة عنها تركة سوف تتوارثها أجيال، وقد لا تبرأ جراحها بمرور قليل الدهور… فلسطين، العراق، السودان، الصومال… ناهيك عن جاري تدخلهم المهين في مصائرنا، وعن مستمر نهبهم المنظم والتليد لثروات العرب، وكونهم لم يتخلوا منذ أن عرفناهم عن دعم مستبد في بلادنا، إلا بعد أن استنفدوه، أوغدا عبئاً عليهم، أو أصبح بقاؤه خطراً على مصالحهم، أو بات آيلاً للسقوط… وسيظل سيد الجروح العربية المومئ أبداً للخطايا الأمريكية التي لن تغفرها الأمة العربية هو فلسطين ما دامت هناك إسرائيل… فلسطين التي هي بوصلة وجدان أمة بكاملها، التي من تخلى عنها من العرب حسبته أمته متأمركاً أو متصهيناً، ولا يجد، كما هو بادية أمثلته هذه الأيام، ما يسوق نفسه به أمام شعبه، ومآله مآل من هتفت الجماهير في ميادين تحريرها في وجهه “ارحل… ارحل”…

        لقد بدأ التغيير الذي أطاح وسيطيح بسياساتهم وأدواتها وهيمنتهم ووكلائها، ولن يكون من مستقبل عربي توضع لبناته الآن لصالحهم أو سيكون لصالح إسرائيلهم… كان على السيدة كلينتون أن تعترف بأن لا مكان للأمريكان في ساحات حريتنا…

        … في مصر رفض شباب الثورة اللقاء مع السيدة كلينتون، كانت هذه خطوة ثورية مصرية مضافة… لا للتطبيع مع الأمريكان، وليس مع الإسرائيليين وحدهم… وفي تونس، وبما أن الوطنية الحقيقية في أي قطر عربي هي فعل قومي، وتعني في النهاية أو تؤدي إلى مواجهة الأمريكان وملحقهم الإسرائيلي، رد التوانسة على سياحة كلينتون في ميدان التحرير في مصر بالتظاهر ضدها في تونس هاتفين: “ارحلي”… و “الشعب يريد اسقاط الوصاية” الأمريكية… ومنعوها من عقد مؤتمر صحفي في وزارة الخارجية التونسية… والأهم بحقائقه ومغازيه، كان هتافهم ذاك الذي يعني وحدة هذه الثورة العربية الكبرى الواحدة، والذي قال لها: “لا وصاية أمريكية على الأراضي العربية”، والذي كان رديفاً لهتاف تونسي، كانت نجمة الاستعراض السياسي الأمريكي مدعوة لأن تسمعه وأن يسمعه معها كل من به صمم في الغرب والشرق، يقول: “شعب واحد لا شعبين… من مراكش للبحرين”…

        في ميدان التحرير المصري، صدقت كلينتون ولو كذبت، فقط عندما قالت: “أجيال المستقبل سوف تشير إلى التظاهرات الحاشدة التي كانت في الميدان باعتبارها واحدة من أهم نقاط التحول التاريخية”…