ثورة على قد المقام

 

ثورة على قد المقام

كلاديس مطر

 

(الى فرسان كنعان ) 

 

        لست مزواجة ولم اقتني يوما قطعة حلى . لست هند رستم ولا كاترين دونوف. لم تدغدع احلامي صور الاميرات ولا حتى نجمات السينما في ثيابهن التي تخلب اللب. لم يقبل رجل يدي في صالون وهو يتملق حسن طلعتي. لم تصلني برقية في صباح مشمس جميل من احد يطلب مني العمل لديه. لم أملك سيارة ولا بيت صغير خاص بي ولا حتى رصيدا متواضعا في بنك أو صندوق بريد. ليس لدي اصدقاء هامين ولا حتى بحبوحة تسمح بدعوة أحد أحبه على عشاء. لا، ليس لدي كل هذا..

        جل ما كنت افعله هو ان امشي، بعد عملي كعاملة في مصنع صغير،على الكورنيش البحري للمدينة التي تمتد فوق احد ارصفتها الكتب المستعملة واشتري كتبا بخمس ليرات او اكثر بقليل للكتاب الواحد. وعلى كرسي في حديقة قريبة كنت اجلس الى ان تتعب الشمس من شروقها فاقرأ، وأفكر وأتأمل في حركة البشر حولي الرائحين والغادين، الضاحكين والواجمين، المسرعين والماشين كالموتى الى اللامكان، ثم أعود ادراجي الى غرفة في حي قديم حيث والدتي وأخي الذي ينهشه الطموح وهو مازال في سنته الثانوية الثانية وحيث الدنيا هناك غارقة في عتقها وقوانينها الصغيرة الصارمة، وحيث الاحلام تخرج من الزواريب بصعوبة من يتنفس تحت الماء.

        وفي هدأة الليل حين تشتعل الفوانيس القليلة المغبرة لتنير بلونها الاصفر الضعيف قسم من النافذة، كنت المح القمر شبه المكتمل معلقا أعلى المدينة، جباراً وساكناً يصغي بوقار الى انفاس النيام المضطربة. عندها يستفيق ماردي الهاجع فاستفيق معه واقوم بغلالة النوم السميكة الشتوية الباهتة اللون من تكرار الغسيل وأقبِل على حافة النافذة واتطلع الى أعلى حيث سقف المدينة العالي لكن الضيق الذي لا تصل اليه المآذن والقبب المشرئبة. أتطلع الى الفسحة السوداء الليلية العميقة وأبدأ بانتاج حياتي في عقلي كما أشتهي واحب. وبلمحة يتلبسني جمال اسطوري بملامح سندريلا تستعد لحفلة أمير لكن من دون زوجة أب او شقيقات غيورات ولا حتى توقيت لعودة مفروضة. وفي الحال تفتح الابواب أمامي التي طالما كانت مغلقة وتتقدم الامنيات باتجاهي على اطباق من ذهب يحملنها نادلون منحنون، ثم تغرق يداي بقبلات كثيرة رقيقة تنهال عليهما من رجال أتقنوا التدليس والاستبداد، لأرى نفسي في آخر الممشى على كرسي ملوكي يعتلي رأسي تاج ويرتاح بين يدي صولجان.

        وفجأة انهض واقفة وكأني في المكان الخطأ، اتطلع الى هذا الكرنفالي السخي المتملق حولي فاستعيد ذاكرتي وأبدأ بالتخلي عن أثوابي الاحتفالية ورنين الحلي وأرمي بهدايا الامنيات من فوق اطباقها وسط استغراب الخدم ومقبلي الايادي. ثم اقفز مسرعة من فوق نفاق الصالوت والصحيات الانيقة المستغربة لنساء اخفين وجوههن وراء مراوح اليد والاصباغ ورجال لمع “البريانتين” فوق شعورهم وفاح من ياقاتهم رائحة نشاء الرفاهية المعطر. لم أصل الى الباب الخارجي الا وقد استعدت غلالة نومي السميكة وخفي الرقيق وعادت ملامحي الى مكانها ولاح فوقها التعب القديم ونظرة الحيرة والرضى.

وما إن التقط انفاسي حتى أدلف الى ساحة اخرى ذات فضاء اوسع مترامي وسماء زرقاء بلون البحر. وهناك رأيت الجموع التي تشبهني واقفة تلوح بقبضاتها وسواعدها التي تعلو وتهبط بوتيرة واحدة بينما تلهج الصدور بامنيات لم تتحقق وبآمال قضى عليها التيه وغربة الروح. واندسست بينهم وكنت كلما تقدمت اكثر بين الحشد كلما غدت الكلمات المرددة اقرب الى أذني ونبضها يقرع مع نبض قلبي. وانجرفت مع هذه السمفونية الشعبية الجميلة التي كانت تموج بدعة وثقة وشيئا فشيئا بدأت انا الاخرى الغناء معهم باندفاع لم آلفه في نفسي فالكلمات هي كلماتي التي طالما رددتها في هدأة الليالي البيضاء الطويلة. انها ليست عبارات فصيحة او مترجمة او منقولة عن أحد وانما مقفاة، محكية، بسيطة ومزركشة بالنوايا الطيبة وتترنم في مديح القبضة الواحدة وهدم الجدران وطرد الغريب.

        وصرخت اخيرا بصوتي الجديد…..أيتها المنامة، يا غلالة النوم القديمة الباهتة من كثرة الغسيل، ويا أيها الطموح الذي لم يجد له منفذا فوق ارض البلاد الحبيبة، ويا ايتها الهوية التي ضعضعتها الزيارات التي لا تنقطع لرجال ونساء لم تلوحهم الشمس مثلنا وتلتمع في عيونهم الزرق “شهوة ” حبنا.. ويا ايها “الاخوة” الذين رموا بلعنة الاختلاف والاقتتال على حصص الجيف… وانت ايها الحب المفقود من القلوب المترددة الواجفة في زوايا الحقيقة.. لكم جميعا اقول : اننا نقايض الخبز المتبقي لدينا بالكرامة ونحن لاخذينها.