فلسطين: واقع الشباب في زمن الثورة العربية ـ 5
نبيل علقم
تتعدد الأسئلة والمناكفات والاتجاهات حول ثورة الشباب في فلسطين، وخصوصاً بين شبابها، ففي كل يوم، نقرأ عدداً من المقالات والردود بين الشباب المعتصمين في ساحة المنارة، وبين غيرهم من الرافضين أو المتشككين في جدوى فعلهم، بل إن عدد المجموعات الفلسطينية على “الفيس بوك” زاد عن ستين مجموعة كما ورد في أحد المقالات حول هذا الموضوع. ويشكل انقسامهم مظهراً من مظاهر أزمة الشباب الفلسطيني. وهي تعكس أزمة الشعب الفلسطيني وقضيته. وما إنهاء الانقسام الذي يدعو له الشباب، ويثير جدلاً ولغطاً كثيراً حوله إلا مظهراً من مظاهر أزمة الشعب والقضية التي تنعكس على الشباب أيضاً.
ومن التساؤلات لماذا نجح الشباب في تونس ومصر، وما زالوا يقاومون استبداد السلطات الحاكمة في اليمن وليبيا وسواها من الأقطار، بينما نحن الذين نعيش تحت سطوة الاحتلال وبشاعته أجدر بثورة الشباب من غيرنا من الشباب العربي. وهذا يجعلنا نفترض فرضيتين: الأولى- أن الشباب في الضفة الغربية راضون عن السلطة وعن فتح حامية السلطة وذراعها، وأن الشباب في قطاع غزة راضون عن حماس وقوتها التنفيذية وسياساتها. ويعني الرضا، أننا نختلف عن شباب الثورة في الأقطار العربية فلا احتلال لدينا ولا فساد ولا استبداد ولا فقر، وأننا ننعم بحياة حرة كريمة بحيث لا حاجة لنا إلى الثورة.
والثانية- أننا غير راضين عن الواقع الذي نعيشه سواء من قبل الاحتلال أو من قبل السلطة أو حماس، ومع ذلك لم يتحرك الشباب للقيام بثورة ضدّ أي من هذه الجهات.
وفي كلتا الحالتين علينا أن نبحث عن تفسير لحالة الرضا وعدم الحاجة للثورة الشبابية، أو تفسير عجز الشباب في القيام بثورة ضد الاحتلال والسلطة وحماس.
ولتفسير أية ظاهرة نستعين بالتاريخ، لنستعرض الأحداث بالسرعة والإيجاز المطلوبين. لقد كانت الثورة الفلسطينية من أكثر ثورات العالم زخماً وشعبية ليس عند الفلسطينيين فحسب، وإنما عند الشعوب العربية كلها، بل وقدمت نموذجاً لكل ثوار العالم، وكانت هذه الثورة تمثل الكرامة والعزّة وأمل النصر في زمن الهزيمة العربية. وقدمت الثورة آلاف الشهداء وعشرات الآلاف من المعتقلين وسواها من تضحيات. ووقفت الأنظمة العربية ضد الثورة الفلسطينية خوفاً من أن تشتعل روح الثورة عند شعوبها المقهورة، وهي بذلك شكلت القوة الرئيسة في قوى الثورة المضادة التي تتكون أساساً من الكيان الصهيوني المدعوم من الامبريالية الغربية دون حدود. وضعفت الثورة منذ عام 1982بسبب متغيرات كثيرة، حتى انتهت إلى اتفاقية أوسلو المشؤومة التي بدأت معها كل عوامل الضعف والفرقة في مواجهة الاحتلال، والفساد والفقر والفلتان الأمني والانقسام والانصياع لإرادة الغير أيّاً كان اسمه عربياً أو غير عربي.
كانت آمال الفلسطينيين في الأرض المحتلة قبل عام 1982 تتعلق بالخارج لتحريرهم من الاحتلال، سواء من خلال العمل السياسي العربي أو من خلال الثورة الفلسطينية التي يتطلعون إليها على أنها ليست ممثلاً لهم فقط، وإنما كمنقذ من الاحتلال أيضاً، سواء من خلال عملياتها الفدائية أو جهدها السياسي الناتج عن فعاليتها في الساحة العربية والدولية. وقد شارك الفلسطينيون في الأرض المحتلة في العمل الفدائي والسياسي لكن على مستوى النخب الوطنية، وليس على مستوى شعبي واسع.
ومن الطبيعي أن الأحداث تنتج أحداثاً أخرى، ومجموع الأحداث تنتج الاتجاهات، وقد توالت أحداث كثيرة مرتبطة بعضها ببعض ومؤثرٌ أو متأثر الواحد بالآخر، وأبرز هذه الأحداث منذ أواخر السبعينيات، هي: صعود الليكود إلى الحكم لأول مرة ونزعه الكفوف الناعمة التي تميز بها حزب العمل في السياسات الداخلية والخارجية، وكامب ديفيد، والثورة الإيرانية، والحرب العراقية-الإيرانية، وخروج مقاتلي الثورة من لبنان وتشتت كوادرها بين عدد من العواصم العربية، والبدء في حملة الاستيطان في الأرض المحتلة، واشتداد الحركة الوطنية بعد انتخاب البلديات عام 1976 التي أفرزت قيادة وطنية، ومن بعدها تكوين لجنة التوجيه الوطني، وضرب الاحتلال للقيادات والفعاليات النشطة في الأراضي المحتلة عام 1982، واجتياح لبنان واحتلال جنوبه، وانتفاضة عام 1987، وانهيار المنظومة الشيوعية، وغزو العراق للكويت، والحربين على العراق، والحصار فيما بينهما، ومساعدة الحكام العرب للغرب في عدوانه على العراق وتدميره، واتفاقية أوسلو، ووادي عربة مع الأردن، وأحداث 11 سبتمبر، والحرب على أفغانستان، واجتياح الضفة الغربية عام 2002، وخروج الاحتلال الإسرائيلي من لبنان ثم من قطاع غزة تحت ضربات المقاومة، وشن إسرائيل للحرب على لبنان، والانتخابات الفلسطينية التي أسفرت عن فوز حماس، ورفض النتائج من الغرب وإسرائيل والعرب والسلطة الفلسطينية، وحصار غزة بعد شن الحرب عليها.
كل هذه الأحداث خلقت اتجاهات مختلفة ليس لدى الأنظمة الحاكمة فقط، وإنما لسائر القوى السياسية وجميع الفئات الشعبية. وكانت محصلة الأحداث تتجه إلى هزيمة الأمة العربية ممثلة بحكامهم الذين خضع معظمهم خضوعاً يكاد يكون مطلقاً للهيمنة وللإرادة الغربية والإسرائيلية، وبالتالي كان عليهم أن يخضعوا إرادة شعوبهم، وتطلب ذلك المزيد من القمع والاضطهاد والاستبداد وما فرّخ ذلك من فقر وفساد. وكانت النتيجة التي لم يتوقعها الحكام هي اشتعال الثورة الشبابية العربية في كل مكان.
ما يهمنا في هذه المقالة هو دور الشباب الفلسطيني، وتفسير الفرضيتين اللتين أشرت إليهما في صدر هذه المقالة. إن الشباب الفلسطيني هم أول من فجّر “انتفاضة” دخلت بهذه المفردة قواميس لغات العالم، وأعني بها انتفاضة عام 1987، لقد ضعفت قوة منظمة التحرير بعد عام 1982، وضعف بالتالي مركز منظمة التحرير وثقلها، فتحوّل وضعها في العالم العربي من مهابتها إلى احتوائها، فكانت النتيجة اتفاقيات “اوسلو” والسقوط الذريع في الشباك الإسرائيلية والغربية، والعربية المستسلمة للقَدرِ الصهيو-أميركي.
فاجأت انتفاضة شباب فلسطين عام1987 الاحتلال والعرب والعالم كله. لقد ثار الشباب بعد أن تلاشى أمل الفلسطينيين في الأرض المحتلة بتحريرهم من قبل العرب أو العمل الفدائي الذي أُنهك بعد تلقيه ضربات موجعة من كل أطراف الثورة المضادة. وكذلك بعد أن رأى الشباب كيف يهينهم الاحتلال ويهين آباءهم وأمهاتهم أمام أعينهم للمزيد من إذلالهم وتجريدهم من الكرامة والعزة والثقة بالنفس. وانضمت الأمهات والرجال والأطفال والكهول إلى الانتفاضة في سيمفونية مقاومة لم يشهد لها تاريخنا الوطني مثيلاً. وحاصرت الانتفاضة الاحتلال الصهيوني في أيديولوجيته وسياساته وقوته العسكرية وإعلامه واقتصاده ونفسيته.
كان لكل تنظيم فلسطيني ذراع في الوطن المحتل، وكانت الفصائل جميعاً متفقة على أن منظمة التحرير هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني في الأرض المحتلة على الرغم من عدم رضا الحركات الإسلامية عن ذلك في حينه. وكان الدافع وراء هذا التمسك هو منع الاحتلال من تصفية القضية الفلسطينية بطرح حلول للداخل لا للخارج الفلسطيني، كالحكم الذاتي وسواه من مشاريع تصفوية. وهكذا توحّد الشعب الفلسطيني وراء قيادة وطنية موحدة غير معروفة بالأسماء، وإن كان التوجه معروفاً ومتفقاً عليه بما يقرب الإجماع الوطني والديني، فقد وحّدت المقاومة كل الفصائل والاتجاهات وصهرتهم في بوتقة واحدة مضمونها هو الخلاص من الاحتلال.
ولما كانت منظمة التحرير تعاني من الضعف والتشرذم والإحباط، فقد جاءت الانتفاضة لتعيد إليها بعض دورها الذي مضى، وتمنحها قوة سياسية لا قوة ثورية، وكانت أوضاعها المتأثرة بالأحداث الكبيرة التي ذكرت بعضاً منها قد وضعتها في خانة الضعف، فاستعملت الانتفاضة الفلسطينية في المجال السياسي بما يناسب ضعفها لا بما يناسب قوة الانتفاضة، وكان هذا سبباً من أسباب الوقوع في مصيدة أوسلو.
بعد أوسلو وعودة عشرات الآلاف من كوادر المنظمة بدأت مرحلة جديدة تنازعتها روح الانتفاضة والثورة من جهة، وواقع الضعف والترهل والهزيمة من جهة أخرى، وقد عبر الأول عن نفسه بالعمل المسلح بصورة أساسية، وأنشأ كل فصيل من مكونات منظمة التحرير ومن المنظمات الإسلامية ذراعاً عسكرياً خاصاً به. وعبر الثاني عن نفسه بالواقعية السياسية، وحُسم الصراع لصالح مدرسة الواقعية التي دفعت باتجاه المزيد من الضعف والخضوع للركب السياسي العربي الذي كان ضمن قوى الثورة المضادة. ومن البديهي أن ينعكس هذا الصراع بين اتجاهي الثورة والانتفاضة من جهة، وبين الضعف الذي يميل إلى الركون والمهادنة، على الشباب، فانتصر الاتجاه الأخير وتلاشت روح الثورة أو كادت عند الشباب، فقد استشهد من استشهد من شباب الثورة، واعتقل من اعتقل وبخاصة في الفترة التي تلت الاجتياح الإسرائيلي للضفة الغربية عام 2002 وبعدها حتى اليوم. أما معظم الشباب الآخرين فقد استُقطبوا إلى المدرسة الواقعية السياسية بطرق عدة، فمنهم من تولى مراكز مهمة ووظائف يعيشون منها وربما يستعملونها لمصالحهم المختلفة، ومنحتهم الوظائف مراكز تلبي رغباتهم في الشعور بالأهمية، وخصوصاً ممن شاركوا في الانتفاضة الأولى، فتحولوا إلى جزء من النظام السياسي الفلسطيني الناشئ تحت الاحتلال ويدافعون عنه بكل قوة، رغم نقد الكثير منهم لهذا النظام الذي يخالف ضمائرهم وتاريخهم النضالي. ولأن الوضع الاقتصادي كان يتجه بسرعة نحو المزيد من الفقر بسبب السياسات الاقتصادية الإسرائيلية في تدمير الاقتصاد الفلسطيني المنهك أصلاً قبل مجيء السلطة، توجهت أعداد كبيرة من الشباب للعمل في أجهزة السلطة في الضفة الغربية وفي القوة التنفيذية في قطاع غزة، لأنها تمثل فرصة عمل جيدة لهم في ظل تردي الوضع الاقتصادي، وخصوصاً الشباب الذين كانوا أطفالاً حين الانتفاضة الأولى أو ولدوا بعدها، ولم يعيشوا تجربة الجيل الذي سبقهم بتفاصيلها اليومية في الاحتكاك بالعدو ومقاومته. وهناك الفئة الثالثة من الخريجين الذين استوعبتهم مؤسسات المجتمع المدني (NGO’S) والتي يتمول أغلبها من المؤسسات الغربية التي أقل ما يقال فيها أنها ليست ذات نوايا طيبة تجاه الفلسطينيين بل هي أدوات للهيمنة الفكرية والثقافية والسياسية نبتت كالفطريات بعد أن أغدق عليها الغربيون الأموال الطائلة، فسقطت مثل هذه النخب الفكرية في وحل تجارة الشعارات الجديدة بدلاً من شعارات مقاومة الاحتلال.
وهناك الفئة الرابعة من الشباب التي تنتمي إلى الفصائل الفلسطينية، وتتبنى برامج وسياسات الفصيل الذي تنتمي له سواء بقناعة، أو لتجد لها موقعاً وهوية بين المصفقين لهذا التنظيم أو ذاك، ولا يكلفها ذلك أية مسؤولية ولكنه يمنحها بعض الامتيازات حتى لو كانت في غاية البساطة. ولأن الفصائل كثيرة، وشبابها مسيّسٌ يترواح بين المقاومة وبين المفاوضات، فليس غريباً أن نستمع إلى أفكار حادة ونقاشات وصراعات بين اتجاهات كثيرة ما يفرقها أكبر مما يجمعها على درب واحد يخدم مقاومة الاحتلال.
لقد قام الشباب الفلسطيني بأعظم ثورة شعبية استمرت عدة سنوات عام 1987 حينما كانت سياسة الاحتلال تقوم على البطش بكل الشعب الفلسطيني لأنه وحدة متجانسة في المقاومة، ولكن الاحتلال أخذ يحمّل مسؤولية المقاومة منذ أوسلو حتى اليوم للسلطة الفلسطينية أو لحماس، اللتين يتعامل معهما بمنطق أنه يجب عليهما أن يكونا جداراً بين الشعب الفلسطيني المقاوِم وبين الاحتلال وبمعنى آخر أن يكونا حرّاساً لأمنه كي يتمكن من التفرغ لتنفيذ مخططاته بأريحية وطمأنينة.
وهكذا فإن دور الشباب في مقاومة الاحتلال سيظل ضعيفاً ما دامت هناك سلطتين في غزة ورام الله تشكلان هذا الجدار الحاجز، بل فإن الشباب يشكلون الخرسانة المسلحة في هذا الجدار. وما قضايا الانقسام، والمقاومة المشروعة، والمناورات التي تشارك بها كل أطراف السلطة والفصائل ضد بعضها البعض إلا لعباً في الوقت الضائع في زمن الثورة العربية التي آن لنا أن نتعلم منها، كما تعلموا من دروس انتفاضتنا المجيدة قبل ربع قرن من الزمن.
:::::
الرابط ومدونة الكاتب:
http://nabeelalkam.com/new/news.php?action=view&id=202