بين أمانة الثـورات

 

بين أمانة الثـورات العـربية ومحاولات اختراقها

د. محمد احمد النابلسي

 

السياسة فن ماكر، طالما رفض التحول إلى علم. ولا تصدقوا بحال مصطلحات ” علم السياسة” والعلوم السياسية” وما بينهما. ومن مكر السياسة تسللها إلى العلوم الإنسانية، والنفسية خصوصا، وتسخيرها لخدمة السياسة ومشاريعها. وعندما نهرب من هذا المأزق، أو نتهرب منه، نجد أنفسنا في قلب السياسة.

هل تذكرون أن بداية خلاف المحاور العربية انطلقت من انشطار المؤتمر العربي للطب النفسي قبل أن يبدأ من الخلاف حول الحرب على غزة؟.

بدايتنا كانت من خلال الدعوة لسيكولوجيا نفسية وعلوم نفسية عربية تنطلق من الوقائع البيئية والثقافية العربية، ومن النثروبولوجيا المميزة للشخصية العربية. ولم يكن التصدي لدعوتنا هذه علميا، أو ثقافيا، أو حتى صحافيا، بل كان سياسيا خالصا، فتجاهلناه ما أتيح لنا التجاهل، رغم أثره في بيئتنا اللبنانية المتوترة، وهو ما يعرفه جيدا العديد من الزملاء العرب. وتابعنا لغاية مجيء “المسيح الكاذب” بوش الابن الذي قسم العالم إلى محورين، واحد للشر، وآخر للخير. لنجد أنفسنا في محور الشر لمجرد انتمائنا للطرف السلبي في معادلة صدام الحضارات. وهربنا إلى الأمام عبر كتاباتنا في مجال الطب النفسي السياسي. وأحيانا، عبر مقالات جدلية تجاري وقائع الأسر العقلي في محاولة للخروج منه.

البعض ينتقد غيابنا عن نشاطات وفعاليات الاختصاص في الفترة الاخيرة، وعذرنا أن التسمم السياسي تسرب إلى مجمل هذه النشاطات، بما فيها التحرك لعلاج مصدومي غزة وغيرهم من المصدومين النفسيين العرب.

المشهد كان مخيفا، وفيما كنا نتجادل حول التفاصيل والقشور، كان مشروع تغيير الخارطة العربية، وحلف بغداد الجديد، جار على قدم وساق، على دماء الملايين من العراقيين والفلسطينيين واللبنانيين والصوماليين والسودانيين وباقي العرب.

نأمل أن يكون هذا المشروع قد لفظ أنفاسه الأخيرة، أو أنه يلفظها في هذه الفترة، لأن نجاحه سيؤسس لصراعات أهلية عربية تمتد لقرن مقبل على الأقل. انظروا إلى الفتن المذهبية التي وصلت لصدام المالكية مع الإباضية في الجزائر لتدركوا هول التفجير الاصطناعي للأحقاد التاريخية.

بناء عليه فإننا لم نقصد السلبية، أو نتقصدها، عندما دعونا للحفاظ على استقرار العالم العربي، ولو بحالته الراهنة المتناقضة، لأن أي تغيير سياسي في اية دولة عربية سيصب في مصلحة المشروع الاميركي المتوحش. وهذا الموقف وقائي، وليس سياسيا.

الثورات العربية في تونس ومصر خصوصاً بينت عدم صوابية موقفنا اذ أثبتت هذه الثورات قدرتها على التغيير بدون الاخلال بالنظام ودون اراقة الدماء ودون تقديم هدية الفوضى للخارج. والفوضى هي كانت مصدر رعبنا خاصة عندما تأتي نتيجة للتحريض. فالتحريض لا يجلب الا الفوضى وهو يعمق الشقاق داخل البلد المعني ويشطره وفئاته مهيئاً الأجواء للصدامات وربما الحروب الاهلية.

وعلى أمل انطلاقة ما بعد صدمة مشروع الشرق الأوسط الكبير، وعلى أمل ألا نصنع شقاءنا بأيدينا، فنكمل صراعاتنا بما يدعم إعادة إنعاش هذا المشروع، ورجاؤنا ألا يصل الشقاق السياسي العربي إلى عقر دار الاختصاص، وحسبنا أننا لم نشارك في هذا الشقاق بعد اعترافنا بعجزنا عن منعه.

الآن ماذا يمكن لاختصاص الطب النفسي والعلوم النفسية أن يفعله في مواجهة ديموقراطية الرغيف، وحرية المهاجر، وكرامة الخاضع للاحتلال، وغيرها من المفارقات التي تشكل ظواهر تغري بالبحث والدراسة لكنها تطرح جدلية تتعلق بأخلاقيات الاختصاص. فاذا ما لجأنا لمبدأ “الفائدة في مواجهة المخاطرة” فاننا نقع في المحظور السياسي منذ طرح العناوين بل ومنذ طرح الاسئلة واليك مثال ندرة البلدان العربية التي تجري فيها الانتخابات وفق المفاهيم الغربية وأقل منها البلدان التي تقوم فيها الحكومات بممارسة دور السلطة التنفيذية. والاخيرة هي لبنـان والعراق والسلطة الفلسطينية. والعنوان الذي يطرح نفسه: “ما هو دور الرغيف في انتخابات البلدان الثلاث؟” أما السؤال فهو عن “مقدار الثقة بسيرورة الانتخابات في هذه البلدان؟”. العنوان والسؤال وبالتالي التفسيرات ممنوعة ومحظورة تحت طائلة “الحرم البطريركي”.

إلا ان مجرد البحث في هذه المواضيع يقودنا ومعنا الجمهور الى تنشيط الذاكرة القريبة وفي محتواها برلمان عراقي تحت وصاية الاحتلال وبرلمان فلسطيني تحت وصاية اسرائيل وبرلمان لبناني تحت وصاية السفارة الاميركية. ففي العراق يغيب العراقيون الاكثر وطنية لرفضهم الاعتراف بالاحتلال عبر المشاركة في انتخابات باشرافه فتكون النتيجة رئاسة المالكي. وفي فلسطين تفوز حركة حماس في الانتخابات لكنها تواجه بالفيتو الاسرائيلي فتكون النتيجة تسلم محمود عباس لكامل السلطات بثمن حرب أهلية فلسطينية وتقسيم الدولة الافتراضية الى دولة غزة ودولة رام الله. اما في لبنـان فتستهلك الانتخابات مليارات الدولارات (ويكيليكس) لتوصل الهامشيين ورجال الاعمال وموظفيهم الى البرلمان. وبدل الفيتو تحظى انتخابات لبنان بشهادة الجودة الاميركية (الآيزو) باعتبارها انتخابات ديمقراطية تعبر عن ارادة الشعب المشتراة مقابل الرغيف ووجبات الغذاء. وتكون النتيجة رئاسة فؤاد السنيورة أو سعد الحريري. فاذا ما جرت محاولة ما لاستبدالهما فان الفتنة جاهزة للتفجير مدعومة بالفيتو الاميركي جاهز لعرقلة تشكيل اية حكومة بديلة. كما ان الملفات جاهزة للتفجير في وجه الحكومة المفترضة ان وجدت.

الموضوعية العلمية تقود اي باحث موضوعي لاعلان عدم أحقية هذه الاسماء بمناصبها. عبر الجزم الموضوعي بعدم عدالة انتخابات تجرى في مثل هذه الظروف وتحت هذه الشروط والتدخلات.

وفي لبنان فان للمظلومية الحريرية مبرر أوحد وهو بقاء الرئيسين عباس والمالكي راسخين في مناصبهما مقابل المساس بالمنصب الحريري علماً بأن الرئيس سعد الحريري بريء حتى الثمالة مقارنة بسابقي الذكر.

لقد غادرنا السيد بوش مخلفا وراءه كوارث امتدت من العراق، إلى جواره، ومن الجوار إلى أرجاء وطننا العربي. وهاهو السيد أوباما يقول لنا ” سورري”، ويكفينا ذلك، فهو يعد بالانسحاب من العراق.

ولكن من يعالج المصدومين العراقيين، وآثار الصدمة والترويع الممتدة إلى أرجاء المنطقة؟ ومن قال إن الكوارث توقفت؟ وفي ظل أية ديموقراطية يتم العلاج؟ وهل تدخل الوقاية من الحروب الأهلية ضمن الاختصاص؟. انها الاسئلة المحظورة اذ يحق لنا فقط أن نتكلم عن التعصب الديني، وعن الحريات بمفهومها الأميركي، كما عن المعاناة الناجمة عن السن، أو الخاصة به، بالإضافة إلى النظريات الخالصة.

منذ فترة، ونحن لا نجد من يسمعنا، ولا من يكترث لتحذيراتنا، ونواصل السؤال ” من يغلق صندوق الشرور والفتن “صندوق باندورا” التي فجرت في مجتمعاتنا منطلقة من العلوم النفسية الموظفة في خدمة السياسة؟ وهل يمكن تفجير التناقضات الجمعية دون دراسة العقل الجمعي؟.

فهل نعدد الحروب الأهلية السافرة، أم المستترة، أم المهددة بالاندلاع؟ أم ندعو لإطفاء الفتن العامة، أم البينية العربية، أم المذهبية، أم الطائفية؟. وقبلها، هل نعالج الضحايا الذين يعدون بالملايين، أم نتخذ الموقف الوقائي من الكوارث القادمة؟ أم نقبع في أبراج الاختصاص العلاجية ونكتفي بعلاج من يعتبرون مرضى، ونحن لم نعد قادرين على تمييزهم؟.

القاعدة تقول: إنه في زمن الكوارث على الاختصاص النفسي أن يترك لممثلي الأمن والنظام مهام طمأنة الجمهور وإشعاره بالأمان، فالأمان هو العلاج الجمعي في هذه الحالات.

ولكن ماذا نفعل ونحن نشهد ممثلي الأمن وهم يعمقون مشاعر القلق والكارثة لدى الجمهور؟. وفي بعض الحالات يستضيفون أطباء نفسانيين على الفضائيات لإقناع الجمهور بأن كارثته كبيرة وغير ممكنة التجاوز، وأن عليه أن يزيد من قلقه كي يدافع عن مستقبل جماعته واستمرارها!.

في الثمانينيات، علقت عضوية الاتحاد السوفياتي في الجمعية العالمية للطب النفسي لأسباب تافهة بالمقارنة مع إساءة الاستخدام العربية الحالية للاختصاص واليوم، لا نجد أية مراجعة أخلاقية لتوظيفات الاختصاص، حتى بات الاختصاص أداة لتوليد مشاعر الكراهية البينية، وتفجير تناقضات الجماعات، ووضعها في حالة مواجهة. ونعني أنفسنا من سرد الأمثلة، كونها خاصة بكل بد عربي على حدة.

لهذا نستمر في إطار المسموح، مبتعدين عن المحظورات، في انتظار كوارث جديدة قادمة بعد أن فتح مجرم حرب صندوق باندورا، وبعد أن ينجو خليفته بعبارة “سورري” ها نحن ننسحب، ولتستمر الشرور والكوارث من بعدنا”. وقبل قبول الاعتذار نود أن نقول بأننا ندرك أن ” قادة المجتمع” المتخلفين عن فترة مجرم الحرب بوش يشكلون المقدمة الحقيقية للاعتذار الاميركي، فهل يعتذرون؟!.

الإعتذارات مستبعدة بعد ان لحس الرئيس أوباما كل وعوده للعرب ومعها وعود خطابه في القاهرة مضيفاً لكل ذلك استخدام الفيتو ضد مشروع ادانة الاستيطان الاسرائيلي وغيرها من خطوات التراجع التي تؤكد ان اوباما قال كلمة “سـورري” للعرب والمسلمين على سبيل اللياقة وليس على سبيل الاعتذار.

فاذا ما جمعنا هذه الملاحظات الى ما تيسر من وثائق ويكيليكس بشأن العلاقة بين الطارئين من طائفتنا السـنية وبين لجوءهم الى رفع شعار الاحباط السني وبين النمط الاميركي الجديد للتدخل في المنطقة. ليبقى الاهم حماية الثورات العربية الموثوقة من الثورات العربية المصنعة في البنتاغون والموسـاد كوسيلة براغماتية لاستغلال اجواء الغضب العربي.

المعايير الاكاديمية متوافرة ولكن ابسط منها اعمال الذاكرة والتدوين في حال عدم القة بها. واستحضار ذكريات احداث ما قبل الظاهرة والاحداث المحيطة ببدايتها. ومن بينها مثالاً تسجيل اسماء ضيوف مبارك في الفترة السابقة لخلعه قبل ان يسمح هؤلاء لانفسهم ادعاء القرابة بالثورة المصرية.

والاهم الاحتفاظ بنص خطاب اوباما في القاهرة وتصريحاته قبلها في اسطنبول ومن ثم في الامم المتحدة قبل الوقوع في وهم تبريرات واشنطن للتغاضي عن الاستيطيان الصهيوني. والمقارنة بين مواقف بعض العرب من هذه المواقف الاميركية ومن ثم من تبرير بعضهم للتراجعات الاوبامية وقبولها دون مناقشة.

:::::

د. محمد احمد النابلسي، رئيس المركز العربي للدراسات المستقبلية