ألقصيدة قبل الأخيرة

ألقصيدة قبل الأخيرة

أحمد حسين

لمن يقرع القلب أجراسهُ

في خلاء المكان الأخير ِ

وما بعد غير مساء الحكاية

يطفو على عتمة الإنتباه ِ

وصلنا أخيرا حدود السفرْ .

فلسنا هنا أو هناك َ

فكيف نسمي  الأماكن َ ؟

لو كنت أعرف هذا الفِناء َ المُدلّى ،

علي أي شيء يُطِل ، سألتُ ،

ولكنني لا أرى هوة ًأوسماء ً

ولا شجرا أو حجرْ .

أري وجهها راجعا نحو عيني َّ

ظلا ً لشيء سيسقط  في َّ

رخيا كما يسقط  الماء في الماءِ

عند نزول المطرْ .

أقول لحزني عليها

تعال من الباب ِ

إني أخاف السقوط َ عليّ ولو كان عطراً ،

ووجهي يحب عناق الوجوه ِِ

التي علمتني الصعودَ إلى كرمل العمر ،ِ

حيث تمد غصون الشجر ْ ،

أصابعها في دمائي

لتطرق في القلب أبوابه الموصداتِ ،

وتلقي الظلال  عليّ

صبايا من الصخرحينا ً

وحيناً من الهمس ِ :

تذكرُ  ؟

أذكر يا أخت روحي وأنسى !

ولكنني ميتُ الوصل ِ

صلد كصوت الثكالى

وناء كناي الرعاة ِ

أخاف من النوم كي لا اراك ِ

ويسترجع الحلمُ

دهرا من الحب الحزن ِ

في لحظة نائمة ْ.

تعبت من الحب ِوالحزن ِ

مني ومنك ِ

تعبت أعانق هذا الغياب لأنسى

فأسقط  عن شجر الحور

في هوة الذاكرة ْ.

فماذا تريدين مني  ؟

كأنك لم تهجريني  صغيراً ً

على باب حيفا

تمزق وجهي  شظايا الوجوه ِ

التي مزقتها الشظايا

وأمشي كمن تمتطيه الطريق

على لحظة الخوف منهم ْ

ألم شظايا الأزقة ِ

قبل اعتقال المدينة في الليل

ثم أعود إلى نوح أمي

وصوت أبي

يخبر الله عما جرى .

كبرت على صخرة السبيِ ِ

والشوك ينبت في َّ

ليكتب حزني عليك ِ

فلم ترجعي مرة واحدة ْ!

تلمّست جدران هذا المكان القديم ِ

لعلي  أشاهد نقشا يبوح ُ

بما يجعل العشق ثأرا من الموت ِ

نحيا … ونعشق ُ

نعشق ،،،  نحيا

ولكن لماذا نحب الصخورَ

وعشب السفوح ِ

ونبني الهياكل في روحنا للنساء ِ

هل الحزن غير امرأة ْ ؟

تعالي لأحزن ضعفين ِ،

حين أراك مزنّرة بالسواعد ِ،

أذكر مشنقة اللوز والسنديان

على تلة الأفوكادو وأنسى .

وأمس سمعت الرواة يقولون َ:

(أحجية ٌزمن الناس مثل التميمة ِ

من عاش ماذا سيذكرُ

والميت ماذا سينسى ؟

فهل تعرف الأرض أصحابها

و تحب الغصون ُالشجرْ

وهل يعرف الحقل معنى المطر ؟ )

وقلت لهم : كاذبونَ

لماذا نقضتمْ إذن دورها

حجرا ً حجرا ً

وارتكبتم ملامحها ،

هل رأيتم هنا أحدا غيرنا

يشبه الطين والعشب فيها ؟

إذا مر كادت تحط الطيورُ

على قمح وجنته

وتضل الطريق إلى وجهه ِ

النحلة العابرة ْ.

وكنا إذا ما شربنا من النبع

لم ندر هل نشرب الماء

أم نشرب الذاكرة .

وكنا نقابلها في الفصول

كأنا نقابل أجسادنا

هي منها ومنا

ونحن سواحلها في مدى الروح ِ

نصلب بين يديها

ونحمل أوزار  من صلبونا

فلا تزرعوا في هواء الحكايات ِ

هذي البلاد لنا كلها .

كلوا خبزها واشريوا ماءها

نحن لسنا نرى أحدا غيرها .

كلوا خبزنا واشربوا  ماءنا

نحن لسنا نرى أحدا غيرنا .

سنبقى عليها ونسألُِ :

أين المساء الذي كان َ ؟

هذا المساء المعبّد بالصمت ِ

يخرج من فوهة الوقت ِ

مثل الجنازة ِ ،

من علم الناس هذي الوجوه البعيدة َ

مثل غيوم الخريف ِ

لقد خبأ العشب قاماتهِ   ًفي الذبول ِ

وأغمض ألوانه الزهر ُ

مثل اختباء الشموع الأخيرة ِ

في باحة العرس ِعند السحر ؟

هم القادمون من البحرِ ِ

قال لي الملح في نظرة ٍ

تنقر الصمت مثل الدجاحة ِ :

( مهلا !

سيستبدلون ملامحهم

في فصول المكان الجديدة ِ

مثل الفراشات ِ

فالأرض لا تعرف الذاكرة

إذا جلسوا في مقاهي الشتاء ِالجديد

لكي يلعبوا النرد َ

في نزهة الشمس صبحا ً

على الأرصفة ،

سينسون كيف أتوا

يرتدون المعاطفَ في الصيف ِ

عند النزول من الطائرة ْ. )

كاذبون َ!

فإن التضاريس رحم الزمان ِ

فلا وجه للدار في زمن الراحلينَ َ

ولا  زمن القادمين من الأزمنة ْ .

لماذا ترنحني النسماتُ

ويهتز ظلى على العشب ِ

هل أنا جسد فارغ كالحقيبةِ ؟

كل الذي ترك الناس بعد انتهاء الحكاية

كل الذي ترك الشاربون من السم في الكأس ِ

كل الذي ترك العاشقون من الهجر ِ

كل الوداع وكل الدموع ِ

وكل المناديل فيّ َ

وكل الوعود التي أخلفوها

فماذا تريدين مني  ؟

أعدت الأمانة للصيف والبحر

أتلو عليهم دمي كل يوم ٍ

كما تتراءى الغزالة للصيد ِ

لكنهم رفضوني قتيلا ً

يريدون قتلي بدون دمي مثل حيفا

فماذا تريدين مني ؟

من اخترع السنديانَ

وعلق هذي الزهورَ

على قبر هذا  القتيل ْ ؟

معلقة ً في فصول التفاتي

إذا ما ارتدى وجهك الحبّ ُ

ألقى مواسمه في يديّ فصحت ُ :

أديروا كؤوس الحكاية ِِ

خمرا على العاشقين َ

إلى مطلع الصبح ِ

إني أراها !

لقد عرفتني  بليمونها فيّ

من قال أن البساتينَ

لا تعرف الذاكرة ْ؟

أديروا الكؤوس إلى مطلع الصبح ِ

ننسى ونذكرُ ،

للميتين صداهم ْ

فمن أين يأتي السراب ُ

ويصدح  في الصمت ِ

هذا الغموض  الجميلُ

على حافة الإنصراف ِ ِ

ليفتح في عتمة الروح نافذة مقمرة ْ ؟

أعيدي إلى اللونِ ثوب الحداد ِ

لأعرف وجهك ِ

تحت ركام الوجوه ِ

وأعرف صوتك تحت ركام اللغاتْ .

َأعيدي إليّ  يدِي

كي ألمّك عن صدر هذا الشتات ِْ،

عناقا بكلتا يديَّ ،

أتكفي يميني لتحضن كل السنابل ِ

في بيدر الذكريات ْ .

ألم يبق منك ِ سواك ِ

ولم يبق مني سواها ؟

كأنا قتيلين في مأتم واحدٍ

أو غريبين في رحلة واحدة ْ!

ولكنني عابر في التفاصيلِ ِ

مثل الرواة ِ

وكل الحكاية ُ أنت ِ

ولا وجه لي غير هذا الترابِ

غدا ً يفتحون نوافذه لدخول الصلاة ِ

وتغلق ألوانها  السوسنة ْ

علينا

وتهمس هيا اذهبوا !