ثورة 14 جانفي

ثورة 14 جانفي : تحديات الانتقال ورهانات الحماية

حسين بالي

في خضم النقاش الدائر اليوم في تونس حول المرحلة الانتقالية، جادل البعض بأن ثمة أوالية محددة وثابتة تؤمن الانتقال إلى الديمقراطية. لذلك، لا مفر من التقيد بها توصلا إلى بناء نظام ديمقراطي مستقر. في التحليل، لا يقتصر الأمر فقط على المستوى التجريبي الذي تعكسه مجموعة الانتقالات إلى الديمقراطية التي شهدتها مناطق مختلفة من العالم بدءا من سبعينات القرن الماضي، وإنما يتعداه إلى المحاججة أيضا بمجلوبات مدرسة علم التحول (Transitology) وترسيماتها؛ فالديمقراطية في منطوق خطاب هذه المدرسة التي تعنى بدراسة الانتقالات الديمقراطية عبر العالم والتي أرسى معالمها ـ باعتبارها حقلا معرفيا ـ الأمريكي ” Dankwart Rustow ” (1924ـ 1996 )، إنما هي صناعة، ومن ثم لتبرز إلى حيز الوجود بوصفها نظاما متكاملا راسخ الأركان، لا مناص من أن تجري المجموعات المتصارعة ( القديم والجديد) مساومة، لتتوصل في نهاية المطاف إلى الاعتراف بحتمية تقاسم السلطة. وهكذا فالجماعات التي تعترف باستحالة احتكار السلطة ( القديم )، تمنح الفرصة أخيرا من أجل الفوز عبر الانتخابات… عدا الفوضى أو سيطرة العسكر ( المثال المصري ) بما تنطوي على كليهما من احتمالات عودة التسلطية، لا يبدو في الإمكان اجتراح بديل من هذه الأوالية لتأمين انتقال إلى الديمقراطية. والأدلة التجريبية التي استند إليها ” الجديد ” الذي كان ممثلا في ما يسمى بحكومة الوحدة الوطنية المؤقتة قاطعة بشكل لا يدحض. فالبرتغال ـ مثلا ـ التي عرفت دكتاتورية طويلة نسبيا ( من العام 1948 إلى العام 1974 ) تمكنت في النهاية من الانتقال سلميا إلى الديمقراطية وذلك بعد أن اقتنع العسكر الذين كانوا قد أطاحوا بـ”مارسيللو كايتانو ” خليفة الدكتاتور سالازار عام 1974 بضرورة خوض غمار الانتخابات التي أوصلت في أفريل 1976 الحزب الاشتراكي بقيادة “ماريو سواريز” المدعوم بعدد مهم من أجهزة المخابرات بدءا من الألمانية وانتهاء بالسي ـ أي ـ أي الأمريكية إلى سدة الحكم…والانتقال الإسباني نحو الديمقراطية في السنة التي تلت سنة ” ثورة القرنفل ” بالبرتغال، يقدم مثلا جيدا آخر على ذلك؛ فعندما مات فرانكو في نوفمبر 1975 كانت قطاعات مهمة من نظامه مهيأة للقبول بحل كل المؤسسات الفرانكية المهمة وتشريع المعارضة بما في ذلك الحزب الشيوعي والسماح بإجراء الانتخابات لتكوين جمعية تأسيسية تكلف بإعداد دستور ديمقراطي كليا ( دستور 1978 الذي أشرف على إعداده ألفونسوغيرا مهندس الانتقال الديمقراطي في إسبانيا ).. لاشيء من ذلك كان ممكن الحدوث ـ يقول فوكوياما ـ لو لم تكن عناصر مهمة من النظام القديم بما في ذلك الملك خوان كارلوس ـ الذي كان أميرا ويحظى برعاية شخصية من فرانكو نفسه ـ مقتنعة بأن الفرانكية كانت خطأ تاريخيا في أوروبا التي كانت إسبانيا تشبهها أكثر فأكثر على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي..وكما في البرتغال، آلت الأمور في النهاية إلى انتخابات في جوان 1977، وجرى تسلم السلطة بشكل هادئ لحزب يمين الوسط ” اتحاد الوسط الديمقراطي ” الذي تزعمه حينها ” أدولفو سواريز غونزاليس “…على أن الانتقال الديمقراطي في جنوب إفريقيا يظل المثال الأكثر بروزا. فبفضل نضالات السود التاريخية بالتضافر مع الجهود المؤثرة لحركة المقاطعة الدولية الأوسع نطاقا المعروفة بـ”حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات ” أو اختصارا بـالـ ( BDS)، أمكن حوالي نهاية الثمانينات حدوث ما يشبه الثورة في فكر حكام جنوب إفريقيا بقيادة ” دوكليرك “، انعكس في قبول أكثرية البيض فكرة بناء نظام جديد يتقاسمون فيه السلطة مع السود الذين يشكلون أكثرية السكان عدديا. طبعا لا يقتصر الجدول على هذه الانتقالات وإنما يمتد ليشمل مجموعة طويلة أخرى أبصرت تحولات مماثلة، إنما من دكتاتوريات عسكرية بما في ذلك في اليونان عندما ترك العسكر المكان ـ بعد حركات الاحتجاج الشديدة ضدهم ـ لنظام ” قسطنطين كرامنليس ” عام 1974. وفي أمريكا اللاتينية التي هندس جهاز المخابرات السي ـ أي ـ أي ـ معظم انقلاباتها العسكرية بما في ذلك على سبيل المثال الأوروغواي عام 1980 بعد انقلاب العسكر فيها عام 1973 للقضاء على حركة ” ألتوباماروس ” للتحرير الوطني اليسارية التي كانت تخوض حرب عصابات مدمرة ( يذكر أن القائد التاريخي لهذا الحركة :” خوسيه موهيكا ” هو الرئيس الحالي للأوروغواي ) وقبولهم في النهاية بعد مواجهتهم على الأرجح سلسلة من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية الحادة غير القابلة للحل فكرة خوض غمار الانتخابات؛ حيث خسروا وانسحبوا إراديا من السلطة…هذا الاستطراد ـ المكثف مع ذلك ـ يبتغي الوصول إلى الاستنتاجات التالية :

أ ـ بأدلته التجريبية التي استند إليها ذلك ” الجديد ” ينحصر خطاب التحول بالانتقالات السلمية بما هي صناعة من قبل السياسيين في حركتهم من التسلطية إلى الديمقراطية، لذلك يضرب خطاب التحول صفحا عن الانتقالات الراديكالية بما في ذلك على وجه الخصوص انتقال نيكاراغوا عام 1979 ؛ حيث تمكنت الجبهة الساندينية بقيادة ” دانيال أورتيغا ” من الإطاحة بالدكتاتور ” أناستازيو سوموزا ” حليف واشنطن القوي الأمر الذي كلفها حربا ضروسا على مدى عقد الثمانينات كله ضد عصابات الكونترا المدعومة أمريكيا، وهي الحرب التي أفضت في النهاية إلى انتخابات 1990 التي انهزم فيها ” أورتيغا ” أمام ” فيوليتا شامورو ” ( سيعود مع ذلك أورتيغا لرئاسة نيكاراغوا بعد انتخابات 2006 وسيكون نائبه أحد قادة الكونترا السابقين )… ولعل حصر الاهتمام ـ فكريا ـ بالتكتيكات المباشرة لعملية الانتقال وإهمال الشروط الكامنة للديمقراطية الحقيقية إنما يعزى إلى نهوض خطاب التحول في مستوياته المختلفة المنهجية و المفاهيمية  والتحليلية على أقنوم أقانيم خطاب النهايات ” العتيد ” : الديمقراطية الليبرالية.

ب ـ إن نجاح الديمقراطية كما تعكسه الانتقالات المومإ إليها إنما يندرج في كونها الخيار الثاني لكل طرف؛ إنها غير مفضلة لأحد وفي الوقت ذاته مقبولة لدى كل طرف…

ج ـ ما كان ممكنا لهذا النجاح أن يتحقق لولا الدور المركزي الذي لعبته النخب السياسية ـ وهذا أحد أهم الاكتشافات التي توصلت إليها نظرية ” Rustow ” في علم التحول ـ في عملية الانتقال؛ فلئن كانت الديمقراطية مصنوعة من أجل الناس، فإنها نادرا ما تكون مصنوعة على أيديهم ـ هكذا يقولون ـ الأمر الذي يعني بالتالي أن الديمقراطية تفرض من أعلى  ولا يشكل الضغط من أسفل شرطا حاكما في عملية الدمقرطة إلا في ما ندر…

د ـ يعزى هذا النجاح ـ أخيرا ـ في جانب كبير منه إلى العامل الخارجي ولاسيما الدور الحاسم الذي لعبته أجهزة الاستخبارات الغربية في عملية الانتقال…

1 ـ أحداث 14 جانفي: ثورة أم انتفاضة ؟

هي بالقطع ثورة قياسا بالنمط المستحدث الذي تمت به، بيد أن البعض جادل مع ذلك بأنها انتفاضة لكون ما قام به الشباب حينئذ لم يتعد الإطاحة برأس النظام فيما حافظ النظام ذاته على بقائه. وهذا صحيح تماما، إنما في حدود الترسيمات السوسيولوجية المتداولة؛ ذلك لأن أحد مفاعيل ثورة 17 ديسمبر/ 14 جانفي إنما يتمثل في الإطاحة بالنظرية التقليدية في الثورة بما هي عقيدة ( أيديولوجيا ) و قيادة و تنظيم وبرامج واستراتجيات إلخ..بل أكاد أجزم ـ وهنا أتحدث بأثر رجعي طبعا ـ أن غياب هذه المقومات تحديدا هو ما منح ثورة 14 جانفي مقومات النجاح كلها. ومع ذلك فما اعتبر ـ مثلا ـ ضعفا فكريا في الثورة ـ بحسب ما ذهب إليه أحد علماء الاجتماع في تونس ـ هو القوة عينها؛ فليس معنى اليوم أن تصنع ثورة أن تعيد حكما إنتاج المسار الفكري الذي مهد لثورة 1789 الفرنسية التي كثيرا ما تقارن بها ثورة 14 جانفي بالرغم من اختلاف السياقات التاريخية والتي بوصفها تراثا بالغ الخصوبة تظل مع ذلك ملهمة للجميع في أي زمان، ولاشك في أن شبابنا الرائعين الذين صنعوا ثورة 14 جانفي بوصفها ثورة الحرية حتى الأخير: سياسيا واقتصاديا ( ضد الاستغلال والفساد ) واجتماعيا، لاشك في أنهم يستبطنون قيمها ومبادئها وأفكارها الأساسية مثلما يستبطنون نضالات أجدادهم عبر التاريخ ومن يسبقونهم في النضال ضد الاستبداد والتسلطية..كثيرا ما نوصف ـ نحن العرب ـ بأننا لا نزال غارقين في عالم الموجة الأولى أو الموجة الثانية في أفضل الأحوال، أما عالم الموجة الثالثة ـ مجتمع المعرفة ـ فبالكاد نعيش على حافاته كمستهلكين طبعا. ومع ذلك فلعل التاريخ يسجل أن ثورة 14 جانفي ـ الأقل كلفة في تاريخ الثورات ـ هي على الأرجح الأولى التي تقوم محمولة فكرا وتنظيما على كاهل الموجة الثالثة الأمر الذي جعل البعض يصفها بالثورة المعرفية أو الذكية ( وصفها الألمان بكونها أول ثورة إلكترونية في العالم ) واستطرادا يمكن القول أن الاستحقاق الفكري لهذه الثورة الموسوم بـ ” الضعف ” أمنته بالأساس أغاني الراب التي ازدهرت في السنوات الأخيرة في تونس على نحو لافت، والتي أظهرت قدرة على التعبئة والحشد أكبر بما لا يقاس من كل النظريات الثورية. ولعلني أخص بالذكر أغنية ” رايس البلاد ” للجنرال ( 21 سنة ) التي اختار أن يبثها أول مرة على شبكة التواصل الاجتماعي ” الفايسبوك ” يوم 7 نوفمبر بالذات كهدية ـ كما قال ـ لـ”صانع التحول ” في ذكرى ” التحول المبارك ” الأخير. طبعا تم القبض عليه فجر يوم 8 نوفمبر، ولكن المذهل هو أنه في خلال ساعتين فقط، انتشر خبر اعتقاله على ” الفايسبوك ” والهواتف النقالة كانتشار النار في الهشيم، فشنت حملات إعلامية مكثفة واسعة النطاق إلى أن تم إطلاق سراحه بعد ثلاثة أيام.. أغنية ” رايس البلاد ” تحديدا ـ ولاسيما بسبب رمزية التوقيت ـ مثلت في اعتقادي المنعطف الحاسم في التعبئة والحشد للثورة. ولا تقل عنها أهمية ربما في هذا الدور أغاني ” بندرمان ” ـ الذي كان مع ذلك من بين المنظمين الأوائل للمظاهرات في العاصمة والتي توجت بالمظاهرة الأكبر في شارع بورقيبة يوم 14 جانفي ـ، و” نزار العبيدي ” والرائعة ” بديعة ” وغيرهم مما لا يتسع المجال لذكرهم…يقولون بأنهم لا يعيرون أهمية للسياسة ولكنهم” يغنون في السياسة “!! مفارقة بلا ريب، ولكنها قد تنطوي على دلالات ترتبط بالخصوص بموقفهم المعروف من النخب والأفكار السائدة..على أي حال، فمما لاشك فيه هو أن هؤلاء جميعا يعدون بلا جدال من أبطال ثورة 14 جانفي المجيدة…

2 ـ انتقال ديمقراطي أم محاولة احتواء ثورة ؟

فوجئت الولايات المتحدة باندلاع ثورة 14 جانفي فيما كانت بصدد تأهيل ستين ( 60 ) شخصية تونسية للعب دور سياسي محتمل لاحقا بعد غياب ” بن علي ” الذي أقصى بعناية جميع منافسيه المحتملين بحيث لم تعد تتوفر على بديل مقبول. كل شخصية من هؤلاء ـ بحسب الشهادات المباشرة التي جمعها خبير الاستخبارات الفرنسي المعروف ( Thierry Meyssan) ـ كانت تخضع لتكوين بثلاثة أشهر في ” فوربراغ ” ( Fort Bragg ) يتبعه التمتع بمنحة شهرية مجزية.. بيد أن الولايات المتحدة تنبذ الانتفاضات التي لا تخضع لتوجيهها بما في ذلك انتفاضة شباب تونس التي انزلقت من بين يديها، الأمر الذي وضعها أمام حتمية التصرف السريع، فبادرت إلى محاولة احتوائها، إنما وفقا لما تتمنى. وكان ذلك لما أدركت واشنطن بوضوح أن عميلها ” بن علي ” فقد السيطرة تماما على الأمور ومن ثم اعتبر ساقطا لا محالة طبقا للتقييم الذي توصل إليه مجلس أمني ضم كل من ” جفري فيلتمان ” مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى و ” كولن كال ” نائب مساعد وزير الدفاع للشرق الأدنى، والإسراع بالتالي إلى تدبير آلية لانتقال سلس يحافظ على النظام ( Le système ) قبل أن تتحول الانتفاضة إلى ثورة. فكانت فكرة ” الثورة الملونة ” أو ما يعرف بالثورة المخملية.. وهكذا في اللحظة ذاتها التي أعلن فيها عن هروب ” بن علي ” ظهر على وسائل الإعلام الكبرى الخاضعة للهيمنة الأمريكية ” اللوقو ” ( Le logo) الشهير ( لوقو الثورات الملونة ) حاملا هذه المرة تعبير ” ثورة الياسمين ” إنما باللغة الانقليزية ( Jasmine Revolution ) وفقا لتأكيدات ” ميسان ” الذي لم يشر مع ذلك في مقالته ” Washington face à la colère du peuple tunisien ” ( واشنطن في مواجهة غضب الشعب التونسي ) إلى حقيقة كون هذا التعبير أوحى به في الواقع جهاز المخابرات الأمريكية ” السي ـ أي ـ أي ـ ” ـ أياما فقط قبل هروب بن علي ـ إلى بعض ” عملائه ” في تونس الناشطين في المجموعة المسماة ” Anonymous ” ـ وهذه إحدى الواجهات الناعمة لجهاز “السي ـ أي ـ أي” ـ ليتم تسريبه إلى بعض الشباب بحيث بدا وكأنه إبداع تونسي، فيما هو في الأصل من بنات أفكار جهاز الاستخبارات الأمريكية الذي استحدثه لوصف انقلاب 7 نوفمبر 1987 الذي جرى تدبيره بتعاون أمريكي، إيطالي وجزائري وفقا للتصريحات التي أدلى بها الأدميرال ” Fulvio Martini ” رئيس جهاز الاستخبارات الايطالية الأسبق والتي نقلها ” ميسان ” في مقالته المومإ إليها…بموازاة ذلك سوف يتم إيفاد خبراء في هندسة الثورات الملونة إلى تونس من الولايات المتحدة وصربيا وألمانيا وذلك في محاولة لاحتواء الانتفاضة المتصاعدة، فكان أن فرضت شعارات عديدة بالفرنسية والانقليزية بما في ذلك الشعار الشهير ” Ben Ali dégage! “.. حسنا ما أهمية تحويل الثورة التونسية إلى مجرد ” ثورة ملونة ” بالنسبة للولايات المتحدة؟ الرغبة أو التمني بالأحرى أن يتم تنزيلها ضمن سياق ديناميكية ليبرالية عالمية على نحو يقصي بالخصوص أي نقاش حول المستقبل السياسي للبلاد ومن ثم ضمان أن يكون التغيير في نطاق الاستمرارية.. وهكذا كانت الحكومة الأولى المسماة حكومة ” الوحدة الوطنية ” التي شكلها محمد الغنوشي، والتي يؤكد ” ميسان ” على أنها تشكلت بتدخل أمريكي صريح ( قبل اتحاد الشغل المشاركة فيها في البداية قبل أن يخير الانسحاب منها لاحقا بعد الانتقادات الحادة التي وجهت إليه ). يكفي أن نذكر ـ على سبيل المثال ـ المدون الشاب ” سليم عمامو ” الذي كان أياما قبل الثورة مغمورا، غير أنه بات يحظى بشهرة واسعة بعدما تم القبض عليه على خلفية تمكنه بمعية المدون ” ياسين العياري ” من اختراق الموقع الرسمي للوزير الأول لإيصال رسالة تهديد في شكل مأثور أمريكي مفاده ( إنها عاهرة، ستدفع أليس كذلك ؟ ) ” Pay back is a bitch.isn’t it ? “. هذا الشاب ستدفع به السفارة الأمريكية إلى حكومة الغنوشي في خطة كاتب دولة للشباب والرياضة ولا يزال يشغل هذه الخطة في حكومة الباجي قائد السبسي. ولكننا مع ذلك ننوه إلى أهمية الدور الذي باتت تلعبه التقنيات الجديدة في التجنيد التي تنضوي ضمن ما يسمى بالسوبرنيطيقا (La cybernétique ) والتي لم تعد تتطلب من المجند أن يعلم بحقيقة كونه مجندا… على أي حال منيت مؤامرة التلوين بفشل ذريع؛ ذلك لأنه سرعان ما تم رفع شعار ( RCD dégage! ) ” ليرحل الحزب الحاكم ” بالتوازي مع الدعوة إلى إسقاط حكومة الغنوشي التي جسدها اعتصام القصبة الأول، ما يعني أن مطلب التغيير الجذري بات أمرا لا مشاحة  فيه. ولعل هذا ما يفسر ـ جزئيا في الأقل ـ مسارعة الولايات المتحدة إلى محاولة توجيه الثورة المصرية لتكون هي الأخرى ” ثورة ملونة “، وذلك ما إن لاحت النذر الأولى لاندلاعها، فكان أن سربت كتيبا استعمل في ثورات ملونة عديدة وجرى ـ على الأرجح ـ ترجمته مبكرا إلى اللغة العربية، يشرح بالتفصيل لعملائها  في مصر من الناشطين في مجموعة  ” Anonymous ” كيفية قيادة ” ثورة ملونة “.”  يمكن الرجوع إلى : Le manuel états – unien pour une révoluton colorée en Egypte : http //www. Voltaire net. Org/ article 168673.html “. نقول مبكرا وذلك استنادا إلى مواقع إلكترونية عديدة نقلت ما جاء على لسان ” أحمد ماهر ” مؤسس حركة 6 أبريل المصرية من أنه وزميله الشاب ” عمر عادل ” كانا قد تلقيا تدريبات في صربيا وفي مقرات عديدة لمؤسسة ” فريدوم هاوس ” المنتشرة في بلدان عديدة عبر العالم على ما يسمى حرب اللاعنف. يذكر أن حركة 6 أبريل اتخذت من ” لوقو ” حركة ” أدابور ” الصربية التي قامت بثورة ملونة في الصرب لإسقاط ” ميلوزوفيتش ” شعارا لها…

اعتصام القصبة الأول الذي تم فضه بالقوة أدى مع ذلك إلى إسقاط حكومة الغنوشي الأولى، وجرى تشكيل حكومة جديدة إنما بتدخل فرنسي هذه المرة. و”قصة ” حكيم القروي الفرنسي/ التونسي باتت معلومة للجميع، ومع ذلك نرى من الأهمية بمكان التذكير بملامحها الأساسية؛ فهذا الأخير هو ابن أخي حامد القروي ( الوزير الأول الأسبق والنائب الأول لرئيس التجمع من العام 1999 إلى العام 2008 ) وأحد أبرز الشخصيات المالية المؤثرة جدا في الأوساط السياسية والاقتصادية الفرنسية. اختاره ” جان بيار رافاران ” مستشارا له لما كان وزيرا أولا ( من 2002 إلى 2005 ) في عهد الرئيس الفرنسي ” جاك شيراك “. أهمية الرجل لا تكمن فقط في أنه كان جزءا من جهد فرنسي لإنقاذ محمد الغنوشي، عبر مده بمجموعة من الشبان من ذوي الجنسية المزدوجة الناجحين في مجال الأعمال في فرنسا ليكونوا وزراء في حكومته الثانية المسماة هذه المرة حكومة انتقالية مؤقتة، وإنما في أنه كان أيضا جزءا من جهد فرنسي سابق لإنقاذ بن علي نفسه في الأيام الأخيرة من حكمه وهو ما تعكسه المذكرات السرية الثلاث التي وجهها له والتي تتضمن سيناريوهات محددة للخروج من الأزمة. للأسف، لم يعرف من هذه سوى اثنتان ( بحسب موقع Media part )، الأولى وردت بتاريخ 12/01/2011 والثانية بتاريخ 14/01/2011، نشرتهما أيضا صحيفة ” La presse ” التونسية بتاريخ 12/02/2011. ما يعنينا هنا هو المذكرة الأولى ( فالثانية التي اهتمت بالمعالجة الإعلامية للأزمة وردت بعد فوات الأوان )؛ ذلك لأن خطاب بن علي الأخير المذاع يوم 13/01/2011، فضلا عن كونه عكس مطالب اتحاد الشغل وقوى المعارضة الثلاث : الحزب الديمقراطي التقدمي والتجديد والتكتل من أجل العمل والحريات التي قابلت الغنوشي يوم 13/01/2011 ( راجع على موقعها على شبكة الانترنيت: Les derniers jours d’un régime à l’agonie : Jeune Afrique، 31/01/2011)، فإنه اتبع حرفيا أغلب التوصيات الواردة بتلك المذكرة… على أي حال سقط محمد الغنوشي أخيرا بفضل الضغط الهائل الذي شكله اعتصام القصبة الثاني الأكثر إحكاما وتنظيما والذي أفضى مع ذلك إلى تحقيق أغلب مطالب الثوار بما في ذلك على وجه الخصوص وقف العمل بدستور 1959 والتوجه لانتخاب جمعية تأسيسية في 24 جويلية المقبل..من الواضح إذن أننا إزاء محاولات محمومة تتضافر فيها جهود الداخل والخارج لإجهاض الثورة، واستطرادا، لا تقتصر قوى الثورة المضادة على بقايا الحزب الحاكم ومجموعات المصالح المرتبطة به، وإنما تمتد لتشمل قوى دولية على رأسها الولايات المتحدة وبعض القوى الإقليمية حتى…ولعل في رفض شباب الثورة مقابلة وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون خلال زيارتها الأخيرة إلى تونس ما يعكس هذا الوعي بجلاء..

3 ـ عن ” مجلس حماية الثورة ” والطريق إليها

بغض النظر عن كونه ” مجلسا لحماية الثورة ” أو ” هيئة عليا لتحقيق أهداف الثورة ” أو أيا ما كان الاسم، وبعيدا عن قضية الشرعية والمشروعية، فإنه لم يكن هناك بد ـ أو هكذا كنت أعتقد ـ من قيام ظهير تنظيمي ما لكفالة ممارسة رقابة مستمرة في الأقل على الأداء الحكومي خلال هذه المرحلة الانتقالية، لاسيما وأن الأشكال التنظيمية والنضالية ( تبادل المعلومات، التقصي والتحري والتنادي عبر الفايسبوك للتظاهر والاعتصام إلخ..) التي استحدثها الشباب لاستكمال أهداف الثورة التي انتدبوا أنفسهم لتحقيقها، تبدو قاصرة مع ذلك عن تأمين تلك الاستمرارية بالنجاعة المرغوبة، ناهيك عن كلفتها الفادحة في الجهد و التوقيت ـ أو هكذا كنت أعتقد ـ. بيد أن المعضلة الأساسية التي واجهت ” المجلس ” منذ اللحظة الأولى لتأسيسه، إنما تكمن في تركيبته التي جمعت إلى جانب الشرفاء من السياسيين والحقوقيين والنقابيين ممن لم تمسهم يوما ريح الفساد مجموعة هامة من رموزه. والغريب أن يتباكى البعض ويعلو سخطه على تركيبة ” الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة ” التي شملت ” مناشدين ” للرئيس السابق ورموزا من نظامه، جرت دعوتهم تحت غطاء شخصيات مستقلة، وهمشت بالمقابل الجهات وممثليها. فيما تناسى هذا البعض أن الهيئة شملت أيضا رموزا بما في ذلك من قيادة اتحاد الشغل الذين ما إن تمت دعوتهم حتى قفزوا إلى الصفوف الأمامية فيها وهم من كانوا بالأمس القريب من أشد المنافحين عن ” المجلس ” وعن سلطته التقريرية. كان الأحرى بالشرفاء ـ ولي منهم أصدقاء أعزاء ـ أن يتحروا منذ البداية تركيبة المجلس، فلا يسمحوا ـ مثلا ـ لقيادة اتحاد الشغل الفاسدة التي لعبت قبل الثورة من الأدوار أقذرها واتخذت أثناءها من المواقف أخزاها. كذلك كان الأجدر بهم ـ مثلا آخر ـ أن يلفظوا صاحب التصريح ” الشهير ” ( أوفى حر بما وعد ) الذي أدلى به فيما كان ناطقا رسميا باسم حزب سياسي بعد لقائه ببن علي قبل نحو ثلاث سنوات والذي تحوم حوله مع ذلك شبهات قوية بالفساد المالي، فضلا عن أشياء أخرى قد لا يتسع المجال لذكرها.. وأخيرا كان الأولى ـ أو هكذا كنت أعتقد ـ أن يصرفوا الجهد المناسب إلى محاولة تنظيم شباب الثورة ولاسيما منهم غير الناشطين حزبيا والدفع بهم لقيادة المجلس ذاته أو في الأقل المساهمة ـ  بموازاة ذلك ـ في تنظيمهم نسجا على المنوال المصري ضمانا حقيقيا لحماية الثورة وصونا لها ضد محاولات الالتفاف عليها.. طبعا لا يجدي التحجج هنا بالبراغماتية ولا بالضرورة العملانية؛ فاللحظة ثورية بامتياز ومن ثم، لا تحتمل ما قد تحتمله اللحظات العادية. وبمنطق موازين القوى، لم تكونوا يوما ـ بموجب هذه اللحظة ـ أقوى مما أنتم عليه الآن.. لذلك تبدو الشكوى من تهميش الحكومة ” للمجلس ” مثيرة للشفقة لاسيما بعد أن ترسخت أقدام هيئتها العليا إذ باتت مفتوحة للجميع، إنما بشروطها، فيما عكست محاولات تعويم مطلبكم ” التمسك بمجلس حماية الثورة ودوره التقريري ” ضمن مطالب الثوار لدى سعيهم الأخير ” للقصبة 3 ” غيابا فادحا للوعي بحيثيات اللحظة التاريخية واستحقاقاتها الحقيقية؛ ذلك لأن شباب الثورة إنما لزموا سمتهم الأول، فالأداة التي اجترحوها لحماية الثورة كانت ـ بحسب عبارة عادل سمارة الجميلة ـ من جنس الأداة التي صنعتها : ” توليد تنظيمات ميدانية بالإشارة “…

:::::

حسين بالي، كاتب وباحث من تونس houcinebali@yahoo.fr