في حضرة الإنفعال الموضوعي

في حضرة الإنفعال الموضوعي

أحمد حسين

تنابلة أمريكا في العالم العربي، من أنظمة، وأحزاب دينية وليبرالية، وأفراد، ومؤسسات حقوق إنسان ومجتمع مدني، ووسائل إعلام، حزموا أمرهم على الإنغماس في دم ووعي الشعوب العربية، في أكبر حملة عرفتها الجريمة السياسية المنظمة، لإرغامها على التسليم بمصيرها الأمريكي، والخضوع لأقدار التبعية، واغتيال حريتها وإنسانيتها. ليس أقل من هذا ! ومن لا يحس ذلك أو يدركه باليقين الموضوعي، وقرائن الفعل والسلوك، فهو ناقص الإدراك، أو ناقص النزاهة. فأين الإنسان العربي مما يحدث، وأين الشعوب العربية !!

إن نقص الوعي والمعنى في حياة الشعوب، ليس أقل أهمية من نقص الخبز في الحياة الإنسانية. فالحياة البشرية كلها أعراض وتفاصيل لتجربة واحدة متكافلة جدليا بالحركة الشاملة داخل سياقها الموحد. ولا حقيقة في الحياة الإنسانية، لفصل المادة عن المعنى الذي هو تولد للجدل المادي، أو المعنى عن المادة لأنه أساس الجدل المادي الخاص بالتطور البشري. إذن لا يمكن لحركة البشر على الأرض أن تكتمل بدون الجدل الموحد للمادة والمعنى في التجربة الإنسانية. وحينما يثور البشر ويعرضون وجودهم المادي للخطر، فإن الدافع لا يمكن أن يكون ماديا فقط، لأن المعادلة المنطقية للثورة هنا لا تبدو مكتملة إنسانيا. فليس بالخبز وحده تكتمل حياة الناس، ولا بالحرية بدون الخبز. فهما مستدعى جدلي واحد.

ويقال أن لكل شيء حدوده المادية والمعنوية الأخيرة. حتى الفضاء الكوني والزمن والعقل والخيال والقوة والضعف والجريمة لها حدودها الموضوعية التي يصبح كل شيء بعدها خللا نوعيا. فمتى وأين حدود إهمال المعنى في الشخصية العربية الفردية والشعبية؟ ما الذي ظل من أشياء تحدث للعرب، يمكن السكوت عليها، والبقاء على قيد الإنسانية وقيد الشرف وقيد الوجود وقيد الحياة؟

أليس لخداع العقل وخداع الواقع وخداع الذات حدود؟ فأين العقل العربي والشرف العربي والوجود العربي والحيوية العربية. هل هناك شعوب بدون هذه الأشياء؟ إذا كان التزام الآخر بباطله أقوى من التزامك بحقك فأنت لست موجودا. ألا يبدو حتى الآن أن التزام الغرب وتنابلته العرب بجريمتهم، أكبر من التزام العربي بحماية حقه في الحياة الحرة والكريمة في وطنه وفي هذا الكون، من هؤلاء السفلة؟ أليس هذا خلل مؤكد يجب تداركه؟

أمريكا لا تريد النفط العربي وحده، تريده بدون أصحاب يحمونه. لذلك لا تريد أوطانا عربية بشعوب، تريد أوطانا عربية بعبيد. هل تخفي ذلك أمريكا. هل سمعتم مرة سياسيا أو إعلاميا أمريكيا أو غربيا يتحدث عن العرب باحترام كما يتحدث عن غيرهم؟ أليس صحيحا أن السياسة الغربية في العالم العربي هي شكل من أشكال الزعرنة، والهبوط بالإنسان إلى الصفر البشري، واستباحة المادة والمعنى في الوجود العربي، وبدون حدود؟ في هذه الحالة لا يمكن تجاهل المعنى في مواجهة وجدانية العدوان اللاعربية، إلا على حساب النتيجة. فعلى صعيد التكافؤ مع وجدانية النفي الموجه نحونا من الأخر، هناك حاجة لمحفز وجداني مقابل يؤكد على الذات، أي على الدور الوجودي للهوية الإجتماعية. إن خسارة دينامية الذات والمعنى في المواجهة، لا تمت إلى الموضوعية التحررية بصلة. فالفصل بين تحرير موضوعة الذات وتحررها سخف عملي ومعنوي أبله.

ألا يُستدعى الدم العربي مجانا في السياسة الأمريكية والصهيونية والغربية، لمجرد تمرير نوايا سياسية أو قمعية أو سيكيولوجية محددة. ألا يشمل ذلك التركيز على الأطفال بوجه خاص أحيانا، لأنهم لوجستية المستقبل، ولأن قتلهم يتضمن إثارة معنوية خاصة؟ هل وضعت لهم كونداليسا الأم تسعيرة إنسانية متدنية، وتبعتها كونداليسا الإبنة، فطلبت من مجلس الأمن شطب ملفات الفوسفور الأبيض الذي حرقهم لانعدام إلأهمية؟ هكذا تماما لانعدام الأهمية واهتمام الرأي العام ! هل يمكن اعتبار غولدستون شيئا له قيمة عل الإطلاق، بعد أن ارتكبوه قردا خسيسا ً؟ فكيف بالعرب وهم يُستأنف على دمهم، ويُعاقب من يعتبرهم بشرا، ويسكتون؟ هل يكفي توفر الخبز وماء الشرب لتعويض هذا المَسخ الأوفيدي؟ إذا كان ذلك يكفي من وجهة نظرنا، فلماذا لا ينتهكون إذن وجودنا الناقص، وذاتنا المشروخة ؟

أليس هذا الإستدعاء الغولدستوني للدم العربي، هو بالضبط ما تفعله أمريكا بتدخلاتها على ساحة الثورات العربية، التي أهملت أو تجاهلت جزءا مهما من المعنى، فأعطت لأمريكا وتنابلتها من عسكريين ومدنيين وليبراليين وعجول، فرصة للتلاعب بدمهم، لصالح أجندات سياسية خالصة تتعلق بوضع أمريكا الحواجز أمام تسلل الجندب الفرنسي المريض إلى ليبيا، وكأن الشعوب العربية مزارع بشرية لها ولأوروبا؟ هذا كلام مؤلم ولكنه صحيح. وقد آن الأوان لوضع حد له وإلى الأبد. أمريكا دولة مافيوية عالمية، تهزأ بالإنسانية وقيمها المعنوية، ولا يصدها سوى وضعها كخيار واحد مع الموت، من جانب جميع شعوب العالم الثالث، وعلى الخصوص العربية منها. وإلا فلتذهب هذه الشعوب إلى جهنم ! وسوف تذهب إذا لم ترفض ترفض علاقة التبعية لأمريكا كجوهر تحرري، وبند أول لأية ثورة تحررية. فواقع التبعية لهذا الجسد الإمبريالي لم يأت من فراغ، بل من هدف مقاومة إمكانات التحرر، وخطر انسلاخ الشعوب التابعة عن هيمنة امريكا، ومحاولة حماية ثرواتها ومستقبلها الياسي والإجتماعي منها.

أمريكا والصهيونية لو استطاعتا أن تبيدا الأمة العربية لفعلتا. هل ظل هناك من يشك في ذلك؟ يحصل المواطن الأمريكي والإسرائيلي على نصيبه من عائدات النفط العربي المباشرة خاوة، وضعف أمثالها استثمارا، بينما تتمثل حصة المواطن العربي من هذه العائدات، بالمذابح وآل ثاني وآل سعود وزنادقة ” بطن العجل ” وأمثاله من الإخوان النفطيين، الذين يشاركون في ذبح العرب مع أمريكا. فماذا تريد أمريكا والصهيونية أكثر من هذا؟ تريد أيضا دم العرب وشرفهم الإنساني لأخر ذرة، لأن هذه هي أمريكا والصهيونية، السيد العنصري الذي لا يطمئن إلى ولاء عبيده إلا بالإمعان في إذلالهم. فهل نفعنا سكوتنا على هذا الوضع عقودا طويلة بشيء؟ هل توقفت أمريكا عن تصعيد استبدادها بالشعوب العربية. إذا كانت أمريكا لا ترحم عملاءها السياديين عندما تنتهي منهم، فتغتالهم أو تركلهم كالكلاب السائبة، فهل سترحم من ترى في وجودهم عبئا وخطرا عليها؟ فما معنى استمرار السكوت عن أمريكا وقد حزمت أمرها على طحن الوجود العربي طحنا، مادة ومعنى؟ عندما يريد العربي التبجح بذاته يدعي انه لا يخاف أحدا سوى الله. لماذا إذن يخاف من أمريكا وتنابلتها؟ أم أنه الأمل في بعض الحرية الممنوحة من أمريكا؟ أليس الحرية الممنوحة هي العبودية الممنوحة؟

حينما نكل الإسلام السياسي الأمريكي بوعي العرب، لم ينتبهوا إلى حقيقة أن صعوده تزامن مع وصول العرب حضيضهم الأسفل في كل شيء. بدأ الهبوط ” الإضافي ” العجيب في الإنسان العربي. في الوعي، في السياسة، في الأخلاق، في العلاقات الإجتماعية، في الكرامة، في الحرية، في الإمتهان العالمي الشامل لهم. كان المفروض أنهم جاءوا ليستأنفوا على الأوضاع السيئة في هذه المجالات. فلماذا حدث العكس؟ ألم يأتوا ليصلحوا ما أفسده عبد الناصر، الذي لم يترك من المال العام ما يمكن أن يسرقه هو أو أعوانه فماتوا فقراء، رغم ” استبدادهم “؟ لماذا كثر المال العام أمام عائلة السادات ومبارك وأعوانهم فأضطروا إلى سرقته لمنع التضخم في الإنفاق الشعبي الذي بلغ مستويات غير مسبوقة؟ هل هي بركة القسيس، أم بركة الخصخصة، أم ذهاب شؤم الإشتراكية وشؤم الإسراف في نفقات التنمية الإقتصادية؟ ومع ذلك فلا يبدو أن الكثيرين فهموا التجربة، حتى حينما فرت عجول السماء بأموال الصدقة والزكاة إلى امريكا وأوروبا. وحتى حينما كثر الإغنياء الذين يدفعون الزكاة، ومع ذلك تضاعف عدد الفقراء. وحتى الحجاب الذي صار من أركان الإسلام الستة أعطى – سبحان الله – نتيجة عكسية. فقد ظهرت ظاهرة الزناطم والزناعم، وانتقل الفجور من البارات والملاهي الليلية إلى الشوارع والحياة العامة. وأصبحت الأحوال أمريكية بالكامل في كل البلاد العربية، رغم أن الإحزاب الإخوانية “المعادية” لأمريكا والغرب، احتلت مكان الصدارة في الحياة السياسية في جميع البلدان العربية. لماذا تجاهلت الشعوب العربية كل هذه الإنكفاءات الإنحدارية، وواصلت إحالتها إلى عهد عبد الناصر؟ حثالات من الزنادقة، ترتع في أموال نفطكم لتقتلكم به، وتستحل أعراضكم، وتشتري ذمم سفهائكم، وتغتال عقولكم، وتؤمرك وعيكم بنصوصهم الفقهية، لأن أمريكا أبوهم، وقطر أمهم، والسعودية خالتهم والصهيونية عقيدتهم. يرتدون زي الكهنة وهم أبعد خلق الله عن الله، ليستغلوا غفلتكم. ماذا حدث لعقولكم؟ هل سمعتم بشيء في الإسلام اسمه كنيسة، أو رجل دين؟ إذا كانوا يريدون السياسة فليسعوا لها سعيا ويتركوا الدين، وإذا أرادوا الحصول على قوتهم بالتطفل على الدين، كما فعلوا في كل العصور، فليسعوا له سعيه وليتركوا السياسة. أما أن يقيموا مؤسسة كنسية وكهنة مدفوعي الأجر، وشركات للنهب والسرقة، ويعملوا عسكرا لأمريكا، يغزون ليبيا باسمها، ويقتسمون دماء الجريمة في كل قطر عربي معها، ويقتلون الناس في سوريا ليمزقوا شعبها، ويقدموا مستقبلكم هدية لأمريكا وإسرائيل وأنتم تنظرون، فهذا لا يصدقه عقل ولا يقبله خيال.

هل يوجد في العالم، عدا العرب، من لا يعرف، أن الأمم المتحدة ومؤسساتها الدولية، وجمعيات العمل المدني وحقوق الإنسان، وحرية التعبير، في أكثريتها الساحقة، هي آليات أمريكية، رغم أنهم أكثر شعوب الأرض معاناة من هذه المؤسسات الشيطانية؟ الكل يعرف أنه لا يوجد دولة أو مرقص أو مبغى ليس فيه إصبع لأمريكا عدا المثقفين العرب؟ من لا يعرف أن أمريكا تستخدم في إعلامها ومؤامراتها كل وسائل الرذيلة من الدينسياسيين والدياييث وحتى الشهاقات والغناجات وصاحبات الرايات، فهو لا يريد أن يعرف. حتى تنابلة امريكا العرب لم يعودوا يقيمون وزنا لمواطنيهم، ويعتبرونهم آذانا تسمع وجوارح تستجيب، فيقولون ولا يستحون، ويدجلون ولا يستحون، ويتبذلون ولا يستحون.

العرب يبدون أقل الناس معرفة بمن يسفك دمهم، ويقتحم عقولهم، ويدوس مصالحهم، ويسرق ثرواتهم، ويجيع أطفالهم، ويدمر مستقبلهم، وينتهك حقوقهم. هكذا أرادت أمريكا بهم، فبثت كل دجالي الشر بينهم، حتى امتلكت زمام وعيهم، وسلطت عليهم أنفسهم. والعرب اليوم أكثر تورطا في المجهول أكثر من أي وقت مضى. خيرة الشباب العربي، والجماهير الشعبية المنهكة بالإستبداد، تثور لتغيير وجهة المستقبل، فتجد نفسها في فضاء مسحور تتحكم فيه العفاريت. كانت تدري ما أرادت عندما انتفضت، ولكنها الآن في قبضة واقع يشبه الضياع، كسفينة في العاصفة لا يدري أحد إلى أي شاطيء تقودها الرياح. لا يوجد من حولها قوى مجهولة الهوية، فالقوى ذات القوى، ولكنها ترتدي كلها زيا واحدا هو تأييد الثورة، ولكن على أجساد عميلة، تتحرك في العلن، وتتحرك في الخفاء في آن واحد. ترفع شعارات ” تشبه ” شعارات الثورة، لتقودها بعيدا عن أهدافها بمطلبيات صغيرة، تجعل منها مجرد عرض حال. أين اختفى عنفوان الثورة وكيف؟ من سحب خيوطها من أيدي الثوار ووضعها في أيدي القوى العلنية – الخفية، فوقفت الثورة حائرة، لا تدري من معها ومن عليها، ولا ما تريده هي فعلا؟ تـحولت كل الثورات، ما عدا المصرية والتونسية ( حتى الأن فقط )، إلى ثورات مضادة مقنعة، ستغير حال الشعوب إلى الأسوأ بأيدي الشعوب نفسها. هكذا الأمر في ليبيا وهكذا الأمر في اليمن وهكذا سيحدث في سوريا. ثورات أصبح عنوانها ” إرحل ” !! و” نريد تغيير النظام “. لا يوجد ثورات بشعارات غامضة تحتمل التأويل. ولكن هذه شعارات سياسية فضفاضة، وراءها نوايا استبدالية لأ شخاص وأنظمة، بأشخاص وأنظمة آخرين، دون الإشارة إلى اختلاف في المضمون. ولم يقم في التاريخ ثورات شعبية لمجرد تغيير “سحنة ” الحاكم أو “سحنة” النظام. فوسيلة هذا، هي الإنقلاب أو التمرد أو الديموقراطية الشكلية. فمن كان وراء هذا العبث المأساوي بالثورة المصرية أو التونسية؟ الجواب على ذلك قائم في سؤال الوعي التلقائي. من هم المتضررون من الثورة وتغيير جوهر النظام؟ من هم المتضررون من تحرر الإرادة الوطنية والقومية؟ ومن هم المتضررون من نظام الوعي التاريخي والعلمي؟ الإجابة تسبق إعلان السؤال؟ أمريكا والدينسياسيين وطفيليات العمالة والإرتزاق السياسي؟ فلماذا الحيرة إذن؟ العدو معرووف ومكشوف بالكامل. فليتخذ الوعي الثوري قراره. إما العودة إلى المبادرة الثورية، أو الإنكفاء إلى زمن لاحق. أما الإستمرار في الحيرة، فليس له من معنى سوى منح الفرصة للقوي المضادة لتعمل تحت مظلة الثورة لتحقيق انقلاب في الوعي الشعبي ينهي الثورة بالعفوية الموضوعية لواقع الإلتزام، إلى عقود طويلة من الشخير. فمن بقي مع الثورة إذن من قوى على الساحة سوى الغضب الشعبي الذي أخذ يفتر تحت وطأة الإنتظار؟ من بقي على ساحة الفعل في مصر وتونس، سوى ضباط بلاك ووتر،الذين يرتبون لإعادة البلدين إلى أمريكا ديموقراطيا؟

معظم المثقفين العرب هم مع واقع الحال بتلقائية السطحية أو بتلقائية التكسب. بعضهم عاجز عن الفهم، وبعضهم عاجز عن الموقف، وبعضهم ( مع المختار ). ومعظم الإعلاميين جواسيس وعملاء مباشرين لآمريكا. أما جماعات حقوق الإنسان، فمهمتهم تبرير تدمير العالم العربي بأيدي الغرب؟ يقولون لشعوبهم أن أنظمتهم فاسدة وغير ديموقراطية ولا تراعي حقوق الناس، ولكن دون أن يخبروهم من أين جاءت هذه الأنظمة، وماهي مهمتها، ومن الذي يحميها. كان هؤلاء الثعالب في قمة الموضوعية والمهنية، عندما دمرت أمريكا أعرق بلد في العالم تدميرا جذريا، لتنشر فيه الديموقراطية وتحفظ حقوق الإنسان. فقد أدانوا المارينز وسفاحي بلاك ووتر بلطف، ولكن دائما على خلفية استبداد صدام حسين. هؤلاء هم الليبراليون العرب، أي حثالات المرتزقين بما تيسر. فأين الإنسان العربي من هؤلاء؟ أين المثقف الملتزم بجدل الحرية والعقل الموضوعي في مرحلة تمايز الوعي التي ستسهم في ترسيم المستقبل العربي؟

ألمثقف الملتزم ظاهرة نادرة في الوعي العربي. فلم يحدث في التاريخ البشري اعتداء على الوعي والعقل وصرفهما عن الإنشغال بإشكاليات الوجود الإجتماعي والحرية، كما حدث للأنسان الهجري. لذلك فإن المثقف الهجري منافق معرفي، مهلهل الوعي ضعيف الشخصية الفكرية، حتى الماركسيين منهم. وقد اطلعت على مقال لأحدهم هو سمير أمين، فلم يلفت نظري فيه، سوى أنه إنشاء حزبي متهالك، لا يقبله حتى الترفع السياسي المباشر. المقال بعنوان ” ما بعد ثورة مصر “. ويدور المقال كله في فضاء المصراوية الخالصة متجاهلا تواشجات الموقع الجغرافي والتاريخي لمصر، ومبادلات التأثير الحميمة مع ما يسمى محيطها العربي. فحتى بحكم كون مصر متورطة بالصدفة في هذا الموقع الجيوسياسي، فلا يمكن تناول الشباب والثورة في مصر، بمعزل تام عن حركة الجوارالأجتماعي والسياسي، إلا بافتراض تفكيكي مغرض في أنها كذلك. لذلك لن أناقش سوداوية الكاتب في فكره الإقليمي المتازم حزبيا، ولكني سأستعرض بعض حيله المكشوفة للترويج لموقفه السياسي الموروث عن اليسار الصهيوني العالمي، والعربي بوجه خاص، الذي رأى في ثورة يوليو القومية في مصر نعيه المحقق ونعشه الفئوي على الساحات العربية كلها.

هذا الكلام أعلاه مطابق انفعاليا في درجة الوصف، لواقع الحال، ولكنه لا يلائم القص النظري لكاتب عدمي يساري من نوع سمير أمين. فهو كلام ناقص التعمق والحفر النظري واليسارية، ولا يتفق مع تقاليد السرد النظري الذي يخفي انفعاله الذاتي وراء تطويل الجمل، ومواربات اللغة، بالضبط كما تخفي أمريكا انفعالها وراء القناع الديموقراطي. ولكن من قال أن الإنفعال الموضوعي ليس هو الوعي النظري الأرقى للثورة الشعبية؟ هل ولد ماركس داخل السرد النظري الجاهز، أي في النظرية مباشرة، أم انفعل بواقع الحال من حوله أولا، قبل أن يكتشف نظريته العلمية؟ لو ولد ماركس في السرد النظري الجاهز، مثل المفكرين ” العرب ” ( أعتذر عن الوصف التعريضي ) لربما تحول بالمصلحة الحزبية أو الذاتية، إلى سمير أمين ما، أو إميل حبيبي ما، أو شيخ ما من طراز “بطن العجل”. الصدق الموضوعي أي الأنفعال بوعي الخلل هو الذي يقود إلى النظرية وليس العكس حسب قانون التجربة. لذلك لا يمكن للتظاهر النظري أن يخدع الوعي أي الإنفعال الموضوعي. هذه هي نظرية التطور، وليس العداء الذاتي للقومية العربية، الذي يتخفى وراء اليسارية، كما يتخفى الإخوان المسلمون في عدائهم للعروبة وراء الدين. ومن أسخف الناس هو ذاك الذي يدافع عن القومية أو يهاجمها، لأن القومية واقع مادي جدلي، ولكنه لا يناقش بذاته الإسمية، لأنه ليس إشكالا تحرريا أو اجتماعيا مباشرا في النشاة، وإنما شكل من السكون الإفتراضي تناقش داخله مضامين النشأة الإجتماعية وجدلها العام. فالوجود القومي انتماءا، يحتوي جدلا “خاصا ” بالظرفية، وليس جدلا مختلفا للتطورالذاتي. وفي افتراض ظروف التماثل المادي والموضوعية التام في الحياة، يفترض أن تتعرض التجربة البشرية، على مختلف انتماءاتها القومية، إلى ذات الضغوط الجدلية بتماثل تام. وعندما تنتقل القومية من إسميتها العرقية إلى إسميتها الإجتماعية، وتصبح تسمية للحركة الإجتماعية، تظل سكونا غير قابل للتقييم، والذي يقيم هومضمون الحركة وتوجهاتها الإجتماسية فقط. وبما أن الكاتب ولد في النظرية الحزبية، فقد أتعب نفسه في محاربة طواحين الهواء بدون داع.

هل العروبة في مصر أو غيرها من دول الجوار خيار ثقافي، أم إلزام معرفي تاريخي؟ إذا كانت خيارا ثقافيا فقط، فالتحول عنه إلى القطرية يصبح خيارا ديموقراطيا لحامله. أما إذا كانت امرا معرفيا يوافق الموضوعية التاريخية، فالتحول عنه يحتاج إلى كم هائل من الإنفعال غير الموضوعي، يشبه انفعال بعض اليساريين الشيوعيين بالصهيونية، كحركة تحرر قومي يهودي فالموضوعية لم تحرك ساكنا لديهم، حينما اعتبروا اليهودية قومية، بينما اعتبروا العروبة فاشية تكوينية، وتحايلا تاريخيا على التحرر. هذا هو معقول ووعي سمير أمين وأمثاله في هجاء القومية العربية حصرا.

لم تستخدم القومية بعد كآلية تحرر لدى الشعوب المسحوقة. إنها مجرد ما تزال شكلا اجتماعيا عفويا، تقترحه الظروف الموضوعية كوجدان جماعي لآليات التحرر الإجتماعي، في عصر الأمبريالية الذهبي التي اصبحت ترتكب كل جرائمها ضد الأخر، على إيقاع مارشات الأمن القومي والمصلحة القومية ورسالة حضارتها القومية. ومقاربة القومية لا يمكن أن تقبل كمقاربة تحزبية فئوية لدي أي ماركسي حقيقي، وإنما كمقاربة موضوعية لاعتداء الأخر المتمترس في القومية، حول دورها كلوجستية تعبوية مقابلة للحركة التحررية، في مواجهة استخدام الأخر شعارا قوميا عدوانيا. والمقاربة المشروعة هنا تحرريا، هي في كون الشعار القومي يستخدم مع التحرر أو ضده. وأية مقاربة من نوع مقاربة سمير أمين الإستنكافية، هى شيطنة طفولية تبرز تأثره بالصهيوني أميل حبيبي أكثر من تأثره بالماركسية.

ومن ذات المنطلق الحزبي التديني، فإن الإلمامات التي يقترفها سمير أمين بعبد الناصر وثورة يوليو الإنقلابية، تتطابق تماما مع السياق “التحرري” للإخوان المسلمين. لقد حاولوا اغتيال الثورة في شخص عبد الناصر، كعدو للغرب والصهيونية، ولأن توجهه القومي التحرري، وانحيازه للفقراء، أرعب تحرريتهم وديموقراطيتهم، كما يعترف سمير أمين مرغما. عبد الناصر ليس صاحب نظرية اجتماعية أكاديمية. عبد الناصر ثائر قومي إنساني يساري مثل جيفارا، فُرض عليه العداء الدولي الإمبريالي موضوعيا كقائد قومي تحرري، وفرضت عليه عداوات محلية متأثرة مباشرة بالغرب والصهيونية ممثلة في الإخوان المسلمين والشيوعيين. وكان دافع هذه العداوة ذاتيا وتبعيا معا من الطرفين. الإخوان فصيل طبقي يستخدم الدين، وجد مصلحته الفئوية في مقاربة الثورة المصرية من خلال مشروعه التخريبي المعادي للتحرر القومي وللتحرر عموما، والشيوعيون اعتبروا مشروعه القومي الإشتراكي خطرا إسميا على انتشار الشيوعية في البلاد العربية، وخطرا على علاقتهم الخاصة بالحركة الصهيونية، أي حركة “التحرر القومي اليهودي” ممثلة في إسرائيل، التي كانوا يعقدون الأمال العريضة على ديموقراطيتها واشتراكيتها وانفتاحها التحرري، في تنشيط مشاريعهم الحزبية في المنطقة. وبينما كانت مصر تعتبر نفسها في حالة حرب مع إسرائيل، كانوا يقيمون العلاقات، ويعقدون الإجتماعات السرية مع الحزب الشيوعي الإسرائيلي في دول أوروبا الشرقية. ماذا كان على عبد الناصر أن يفعل في هذه الحالة؟ هل يواجه هذا العداء اللدود بحل أجهزة أمن الثورة، وإغلاق السجون أمام السياسيين وقصرها على الجوعى في مصر، أم كان عليه أن يحاول حماية الثورة على أساس ردة الفعل على الخيانة الصريحة من جانب الإخوان والشيوعيين. لقد حرص لينين في نظريته الحزبية على التأكيد الطوباوي أن الشيوعي لا يخون وطنه مع عدو خارجي، تحت أية ظروف. فلماذا يجوز لشيوعيي الساحات العربية خيانة أوطانهم، ويعتبرون محاسبة النظام لهم جريمة ضد التحرر؟ أليس هذا هو ذات ما تطلبه أمريكا والغرب من امتياز استثنائي لعملائهما في ليبيا؟ لماذا تحالف شيوعيو العراق مع المخابرات البريطانية ضد القوميين في العراق؟ هل تجيز الصراعات الوطنية الطبقية مثل هذا السلوك العدمي؟ لماذا تجمعت كل الأحزاب الشيوعية العربية ما عدا الحزب السوداني في تنظيم إقليمي حزبي مشترك مع الحزب الشيوعي الإسرائيلي بقيادة صموئيل ميكونس وخالد بكداش، هدفه الأول المحافظة على التفتت الإقليمي العربي؟ الا تؤكد محاولة سمير أمين، تحميل المسؤولية الجنائية للخيانة على عاتق استبداد النظام وليس الخونة، كونه مجرد ناشط حزبي متحيز، وليس باحثا كما يدعي البعض؟

إن مصراوية سميرهي حقه الديموقراطي بشرط ألا تكون غطاء للنوايا وليست التزاما حقيقيا. الموضوعية تقول أننا يجب أن نحترم خيار الشعب المصري، وأي شعب عربي آخر، بهذا الشأن ونباركه إذا كان تعبيرا عن قناعة شعبية حتى ولو تحفظنا عليها. هذا هو المهم في هذه القضية، لأن شعبية القرار هي إلزام فوق ديموقراطي، ومن لم يعجبه ذلك فليشرب البحر. ولن نشرب البحر لأننا لسنا ناشطين حزبيين، بل ناشطين تحرريين، وما يخدم ويعبر عن قناعات الوعي الشعبي التحرري، فولاؤنا الموضوعي له، حتى ولو كانت لنا قناعات مختلفة. فهذه القناعات لا يمكن أن تصلح لتخطي القرار الشعبي من الناحية العملية، ومصداقيتها الوحيدة في الوجود هي مجرد الإختلاف التكتيكي مع المشروع. فلتتحرر مصر بأية إسمية تختارها. وكذلك أي شعب عربي آخر.

ألقومية ليست شكلية مضمون سياسي. إنها شكلية وعي حركة اجتماعية تاريخية. وكما قيل سابقا هي مجرد شعار جمعي قائم يصلح مرحليا، أو لا يصلح مرحليا، أو يحتم موضوعيا كونه شعار التحرر المطلوب أو الأفضل أو الوحيد. فاختلاف الوعي الجمعي تطوريا مع المرحلة، هو الذي يجعل من الخيار القومي الجمعي للشعوب المقهورة حركة تقدمية ملزمة تحرريا، وليس سلاليته العرقية. وجمعية الوعي والوجدان الثقافي والإجتماعي الخاص، هي الديناميات المحركة للإلتزام الشعبي الذي هو بيت القصيد في الحركة. وفي قناعتي الوعيوية أن الظروف الذاتية والخارجية تحتم موضوعيا على الشعوب العربية مواجهة تحررية قومية. وأهم أسباب هذا الحتم هي طبيعة علاقات القوة مع الخصم الإمبريالي، ثم التكامل الجيوقتصادي، والجيوستراتيجي، والمكثف الوجداني والثقافي التعبوي للحركة التحررية. وهي أمور لا يمكن التضحية بها ميدانيا لسواد عيون الدين، أو لمشروع الحزبية الذاتي. وحينما نصبح على أبواب الأممية والثورة العالمية، فسوف تتنحى القومية للشكل الإجتماعي الأكثر تطورا وتصبح المنافسة بين التجمعات ليس على التحزب السياسي أو القومي، بل على الإندماج في حركة تحقيق الوفرة الإنتاجية في المجتمع الواحد. وحتى ذلك الحين على كل الشعوب أن تتلمس وعيها في تجارب الماضي والحاضر، لحماية وعيها من ” الماشطات والماشطين السياسيين، والماشطات والماشطين الحزبيين ” الذين يتغذون على دماء الوعي.

أمثال سمير أمين هم امتداد لتاريخهم الذاتي والفئوي، الذي أنتجته علاقة اليسار العالمي بالصهيونية. وموقفهم من التحرر القومي العربي، يرتبط بالسياسة والحزب والإلتزام الذاتي الإنتهازي، وليس بالإلتزام الإيديولوجي. ولا يمكن حماية اليسار العربي من الإنحراف، إلا بالتنازل عن عدائه للتحرر القومي العربي، والتحالف الميداني معه، وشده باستمرار نحو اليسار وليس نحو الليبرالية والتصهين، كما يفعل سمير أمين وأمثاله من العدميين. أما شعوب المنطقة العربية، فعليها الإلتزام بالهوية السياسية الموحدة للمنطقة، وليس بالضرورة بالهوية القومية، لأن التحرر، ومواجهة العدوان الموحد ضدهم، من جانب الحكومة العالمية للإمبريالية، تلزم بسياق موحد للتحرر على الأقل. وثنائية الصراع القطرية مع أمريكا، لن توصل إلى شيء سوى المكاسب الهزيلة الزائلة.