مقدمات في التنمية
(الجزء الاول)
عادل سمارة
دفتر المفاهيم
عندما نرى المزيدَ من النساءِ يكملن تحصيلهن الجامعيّ ويقتنين الصحف اليومية والكتب الثقافية وَيَرْتَدْنَ المسرح ويذهبن وحدَهُنَّ إلى المدن، ليس فقط لتلقي العلاج لدى الطبيب/ طبيبة، ويُصْبِحْنَ عضوات وقياديات في الأحزاب السياسية، وليس فقط في النقابات والمنظمات العمالية، عندها يمكن القول إنَّ تغييراً ما يلوحُ في الأُفُق. أن تُعطى النساء قروضاً، هو رسملة للنساء! فلكي تُقَوِّي وضع النساء فإنك تحتاج إلى تعاونيات نسائية هي منظمات قاعدية اشتراكية. هنا بوسعنا الحديث عن مجتمع يُقرُّ أن النوع واحد.
التفكير النقدي/ الموقف المشتبك
لا بد من كلمة توضيح تأتي قبل البداية. فهذه الكتابة ليست مسائل مُطلقة ولا ثابتة ولا تبتغي الأمر أو التسليم بها. هي مفاتيح، أو مشاكسات للذهن تستفزَّه كي يتحفز ويناقش ويحاور لأن النقاش والحوار بوابات الإبداع الفكري والعملي. هناك متعة في الشقاوة الفكرية وخاصة في مبتداها، فهي تشبه شقاوة الأطفال في مبتداهم وهي الشقاوة التي تهمس في آذاننا بأن المستقبل لهم.
تبدا هذه المحاورات المفتوحة بضرورة تفكيك مختلف المسلَّمات التي جرى حقن العقول بها، تلقيمنا بها. بالطبع لن نناقش كل شيء، بل على الأقل ما يتعلق بمحاوراتنا. والكلمة هنا عن التفريق أو اكتشاف الفارق وحتى التناقض بين مسألتين تبدوان ظاهريا غير مختلفتين:
· التفكير الحر
· وحرية التفكير
الأصل في الانسان أن يكون مفكراً حُراً بطبعه، هي حرية خُلقت معه منذ البدء، لم يمنحه إياها أحد. التفكير الحر هو شأن العقل بل جوهره بمعنى أنه منطلق بلا حدود ليرى العالم بحريته الخاصة. وحرية التفكير هي الحرية الوحيدة ربما التي لم يتم ولن يتم انتزاعها من بني البشر منذ أن وُجدت الدولة والسلطة والملكية الخاصة والشرطة…الخ. ولأنها الحرية الأولى، بمعنى انها اسبق من العمل الحر، لأن العمل احتكاك واستجابة خلاَّقة للوسط المحيط وبالتالي يمكن ان يواجه اعترضات أو قيوداً، ولأنها الحرية الأولى فهي تختلف عن “حرية التفكير”، لأن حرية التفكير تشترط قطبين او طرفين:
· طرف خُلق حراً في التفكير بطبيعته ولكن حريته مقيدة لأنها تُعطى
· وطرف لديه سلطة منح أو منع الطرف الأول من حرية التفكير، اي طرف له طابع التحكُّم والاضطهاد.
وهذا معنى السلطة ومعنى القيد.
كل إنسان مفكر، كل إنسان مثقف في مجال أو مجالات، وهذا يقود إلى المساواة. وتعني المساواة أن يعتقد المرء ويقتنع أنه صاحب حق كغيره، اي أن ينتمي إلى إنسانيته. وهنا يتضح بلا مواربة أن الإنسان الحر هو الذي يفتح الطريق لحريات الاخرين ويشجعهم، ولا نقصد هنا ان يمنحهم حق التفكير والعمل، بل أن لا يقف في طريقهم. ولكي تُثبت لغيرك سواء كنت انت الأب أو الأم أو الشيخ أو المُريد، يجب أن تحرك في الاخرين ما يشير إلى خبراتهم وقدراتهم ليكتشفوا أنهم متساوين معك. وفقط في هذه اللحظة يصبح الحوار حلالاً والفهم متبادلاً. لا يوجد معلم على الأرض الناس تعلم المعلمين.
وإذا أردنا أن نقارب مشروعنا هذا ومن لحظة البداية هذه، على المُحاورين والميسرين وخاصة المتقدمين في العمر والتجربة أن يقولوا بوضوح للجميع:
· أنتم الأفضل مهما رأيتم فينا لأنكم تحملون ما سبقنا وما لدينا وتضيفوا عليه إبداعكم/ن. مهما استحكمت وتحكمت القوى المضادة للتاريخ، فالقادم افضل.
لماذا بدأنا بالتفكير؟
ربما لأنه الرد الإيجابي الأول على تحدي الطبيعة. هو النشاط الأول للعقل لابتداع ما يوفر الحفاظ على البقاء. لهذا يجوز لنا القول إن التفكير سابق على الكتابة والقراءة وحتى سابق عن التواصل بين شخص وآخر، فلا يتم التواصل كاحتكاك فيزيائي أو بالرموز والإشارات…الخ إلا بعد أمر من العقل بما هو آلة التفكير، لجزء آخر من الجسم كي يقوم بحركة أو علاقة ما.
لكن أسبقية الفكر على الكتابة والقراءة لا تنفي أنه يتطور بها وهذا منطق التحدي والتناقض والجدل.
والتفكير الحر لا يمكن ان يكون بلا هدف وبلا ضوابط. بل هو نتاج تاثير وشروط البيئة أو الوسط الاجتماعي والطبيعي، ولذا، فالتفكير الحر والنقدي هو تفكيرهادف. ولكي يكون كذلك حقا لا بد أن يأخذ الشروط التي وُجد فيها بالاعتبار. وهذا يعيدنا إلى القوانين الأولية للجدل أي التطور الشامل للحياة وقوانينها والترابط الشامل بين هذه القوانين وهذه تعني بدورها فهم الواقع فهماً عميقا. ولا يفهم الواقع سوى من يعيشه وينتمي والمعني به. والانتماء إلى الواقع لا بد أن يقوم على الثقة بالنفس وبالحقوق من الفرد إلى الجماعة، والانتماء يعني بالضرورة علاقة حب بين الفرد والجماعة، وهذه معاً تشكل قوة رفض للقمع والاستغلال والاحتلال وأية شروط قسرية على الإنسان.
من مبدأ التفكير كحرية إنسانية إلى التفكير النقدي
يدور نقاش وجدل طويلان حول مسألة التفكير النقدي، وبالطبع تتم قرائتها بأشكال مختلفة تُفضي إلى استنتاجات متباينة. وقد يكون من المناسب هنا النظر في أمرين يساعدان على تحرير هذا المصطلح من كثير من سوء التفسير الناجم عن خلل التفكير الذي يرى الجانب الرمادي للواقع وليس المضاء، وهذه إن حصلت تقود بالطبع إلى تضييع وتمييع المواقف، وهذا مكمن الخطر.
الأفكار إنتاج إنساني ناجم عن العلاقة الجدلية/التحدي بين الإنسان والطبيعة التي بمقدار ما تحتضنه فإنها تتحدى وجوده واستمرارية هذا الوجود مما يرغمه مستخدماً عقله، اي قيامه بالتفكير، لكي يواجه هذا التحدي وحتى لكي يكتشف ويقهر جوانب أخرى من الطبيعة العمياء القاسية.
وبقدر ما أن الطبيعة وجود مادي، والتفكير نتاج متطور لتحدي هذا الوجود، فإن الأفكار والنظريات والثقافة ومختلف منتجات الفكر الإنساني هي قِيَم إستعمالية وليست قيماً تبادلية ويجب أن لا تُحوَّل إلى قيمٍ تبادلية.
وابعد من هذا، فكلما جرى تحويل أو اغتصاب الأفكار والثقافة إلى قيم تبادلية كلما كان ذلك انحرافاً بالإنسانية عن مسارها الطبيعي وهذا بالطبع ما أنتجته المجتمعات الطبقية المُفعمة والمشحونة والمقودة والمشوهة بالملْكية الخاصة.
إن أعلى حرية للإنسان هي حريته في التفكير، وهي الحرية التي لا يمكن وصول القمع إليها. حرية التفكير هي الفرضية الابتدائية الأساسية للإنسان. هي فضاء حر دون تحديد حيِّزٍ له. لا تحده حدود. فأنت تفكر كما تشاء، ولكن المشكلة كامنة في طرح الأفكار وتنفيذها.
ولأن الأفكار كذلك حرة ومتحررة ومجانية من حيث المنشأ، فهي ليست سلعة للتداول، وبما أنها حرة إلى هذا الحد، فيجب أن تُقدم للناس مجاناً.
نعم التفكير حر، وهو النشاط الإنساني الوحيد الذي لا يمكن منعه. لا أحد بوسعه ضبط ذهنك عن التفكير، ولا مراقبته.
وعليه، فإن تواصل أفكار الناس مع بعضهم البعض هي المقدمة الموضوعية للتفكير النقدي. اي حرية طرح الأفكار على أن يُصار إلى حق الناس في التعاطي معها. وبما ان كل إنسان هو مفكر، فمن الطبيعي ان يترتب على ذلك أمران:
الأول: طالما الكل يفكر فيجب أن تكون الثقافة شائعة أي شيوعية لأنها من نتاج كل الناس، وما كان لمفكر أن يبدأ دوما من الصفرأو أن يفكر في فراغ من الناس أو الوجود البشري.
والثاني: حق الناس في تحديد موقف من هذه الفكرة أو تلك.
وهذا يقود إلى المواقف، وهي ميدان الاختبار لمنتج/جي الفكرة ولمن تُعرض عليهم وإليهم.
أمَّا والفكرة هي من جهد الإنسان وإنتاجه، فهو لا شك معني ببقائها وازدهارها، ومن هنا يكون تفاعل وتجاذب واستقطاب وصراع الأفكار. وهو صراع مختلف. فهو نقل الوليد الطري الغض من عالم المُثُل إلى عالم التحقُّق والتجسيد. وعليه يعيدنا صراع الأفكار إلى نقطة البدء اي معايرتها ومقايستها مع الواقع المادي. وبمقدار كونها انعكاساً خلاقا وخصبا للواقع المادي بمقدار ما تحوز على فرصتها للتحقق في صراعها مع الأفكار والمواقف الأخرى.
يكون الإنسان نقدياً في تفكيره بمقدار ما يكون اصيلاً في إنتاج الأفكار وتمثلها، أو بقول آخر تعبيرها عن مصالحه بدءاً من وجوده الفيزيائي وصولاً إلى أعلى رفاه يحلم به. ومن هنا إشكالية الفكر النقدي المشتبك أي في بنيته الديالكتيكية من جهة وفي انتقاله أو قدرته على تحمل كلفة الانتقال من جدل الأفكار إلى الصراع الاجتماعي الطبقي. وهذا يتجلى في مستويين على الأقل:
· وجود طبقة تحمل الأفكار وتناضل من أجلها
· وانتقال المثقف أو المفكر من عالم التفكير إلى عالم الصراع من أجل ما توصل إليه وآمن به.
فكلما كان المفكر أو المثقف بعيداً عن الاشتباك لأفكاره كلما خلق لنفسه وضعاً نخبوياً/طبقياً يفصله عن الواقع وبالتالي يحاول من خلال ذلك التسوُّد على الآخرين. وهذا تماماً كما بدأت الملكية الخاصة في الفرز الطبقي، فإن الأفكار تبدأ بالفرز الطبقي الفكري، اي فئة من “يفكر/يكتب” ولا يناضل اشبه بمن “يملك” ولا يعمل.
والفكر المشتبك ليس عدوانياً بل دفاعياً، هو حالة مقاومة بهدف التغيير، فهو حق كل إنسان في ترويج أفكاره والدفاع عنها، وبما أن كل إنسان يفكر فمن المفترض أن يُربى كل إنسان او يُسمح لكل إنسان بممارسة النقد ودفع هذه الممارسة إلى مستوى الحق في الاشتباك.
تُغمر وقد تموت الأفكار إن لم يتم الاشتباك لأجلها، وكما اشرنا، الاشتباك هو حالة تربوية، حالة تفاعل مع الآخرين وليس فقط حالة صراع. فطالما يفكر الإنسان بشكل حر، فمن حقه النقد الحر والترويج الحر والاشتباك الحر كذلك. إن تطويع وتليين وتكويع افكار الناس هو مبتدأ القمع.
ولتحدي هذا المبتدأ، نستذكر العبارة المألوفة: “أنا أفكرإذن أنا موجود” لترتفع العبارة إلى ” كي يكون لوجودي معنىً، أنا أفكر، أنا اعمل، وأنا اشتبك دفاعاً عن إنتاجي الفكري والعملي المادي. هنا يكون معنى الإنسان الحر.
التفكير النقدي/المشتبك والتاريخ
عِبْر التاريخ يُثبِت ويؤكد الإنسان إنسانيته مقارنة مع الحيوات الأخرى. وبقدر ما للتاريخ من قوانين وقوة وحضور، وبقدر ما لحركته من بطء يصل حد اللؤم الذي تشكو منه مشاعرنا كبني الإنسان، إلا أن التاريخ في التحليل الأخير هو سجل العمل والصنع البشريين.
وعبر وجود الإنسان وعمله ليبقى واستقباله الإيجابي لتحديات الواقع المادي طور أفكاره وعبر هذا التطور نشأت المناهج والمدارس الفكرية وتصارعت ولا تزال حتى يومنا هذا.
فما معنى هذا القول؟
يعني هذا القول أن اختلاف وتباين وتصارع الأفكار مثابة تأكيد لا جدال فيه بأن التفكير النقدي حالة إنسانية تاريخية دائمة. وهذا التفكير النقدي هو مهماز تفتُّح الأفكار وتجددها وتوليد أفكار جديدة. وبدون التفكير النقدي ما كان للإنسان أن يرتقي. بل لأن الإنسان نقدي بطبيعته ولا يمكن أن تعيش البشرية دون تفكير نقدي، اي لا يمكن أن تدور جميعها على اتفاق تام لأن هذا معاكس لقانون جدل الأفكار وجدلها مع الواقع وتطور الإنسانية.
والدرس المستفاد هنا، هو أن لا نخشى الجدل والنقد وصراع الأفكار، وأن لا نميل إلى الاستقرار والراحة الذهنية أو العمل بالقول السلبي: “ليس بالإمكان ابدع مما كان”. لأن ما كان هو من صنع الإنسان وهذا يعني أن ما كان يمكن بل يجب أن يتغير. وفي النهاية هذا حديث للتأسيس دوماً لعالم مختلف لتطور لا حدود ولا حادَّ له.
المحاورات
يفتح هذا الحديث على تسمية ما نقوم به محاورات. فالمحاورات ذات فائدة معممة، يستفيد منها ويتطور كل مشارك، ليس فقط لأنه شارك، بل اساساً لأن كل إنسان بحاجة إلى مساهمة الإنسان الآخر، وهذا هو الثراء المعرفي. لا أحد مكتمل، وما من أحد عاجز عن إضافة شيء هام إلى معارفك مهما بلغت من المعرفة وحسن التفكير.
فالمحاورات هي علاقة ديمقراطية جدلية بين الناس مهما تعددت زوايا تناولهم للأمور. وهذا نعتمد فيه على ما ورد أعلاه بأن كل إنسان مثقف. إن المحاورات عملية تربوية مشتركة وهي عصف ذهني في الذات ينتج عنه عصف فكري في الوسط الاجتماعي الذي يدور فيه الحوار وصولا إلى اوسع مديات اجتماعية. والمحاورات تؤكد، كي لا يصيبنا الغرور، أن معارفنا نسبية.
في الحوار يتم كذلك تعرُّف الناس على بعضها وهذا يخلق علاقة حميمة بينهم مما يجعل التفاعل اسهل وبلا معيقات، إن المحاورة هي الوصول والتواصل السريعانن للأفكار بين الناس. فالتواصل والوصل ضروريان لأننا دوما بحاجة للمعرفة لأن وجودنا ومعارفنا نسبية مهما بلغت.
لكن الحوار رغم ديمقراطيته وحريته، يشترط أمراً هاماً، سواء قبل المشاركة في الحوار أو خلالها أو من حوار إلى آخر. إنه يشترط العمل الفكري، المعرفة الاطلاع. فلا يمكن للعقل المستريح أن يتمتع ويكتشف الشقاوة الممتعة للحوار. ولا يمكن للفهلوة أن تساهم في حوار حقيقي. لذا، لا بد أن نُعطي للقراءة أكثر وأطول وقت ممكن.
هذا إضافة إلى ما يمكن تسميته “خطة” و “تكتيك” القراءة. فخطة القراءة هي واجبنا في وصول المعرفة. ولكن عالم اليوم الزاخر بالمعلومات المكتوبة والمرئية والمسموعة قد يُدخلنا في ضياع بحيث نقرأ في مجال ما ونهمل الأخريات، أو نقرأ في ما لا يتعلق بواقعنا ألسياسي والمُلِّح. إن الخطة هي توفير خلفية كي تؤسس لقاعدة اجتماعية ملتزمة، خلفية ثقافية ثورية نقدية، قاعدة وعي. أما التكتيك هنا فهو دقة اختيار المجال الفكري وبالطبع المعركة الفكرية التي نرغب دخولها وكسبها. لا بد أن تكون قراءتنا دقيقة كي نستغرق الوقت الضئيل في حياتنا لتوفير أعلى وعي وإضاءة ممكنة لعقولنا ونفوسنا. فما اخطر هدر الوقت.