قراءة بأثر رجعي:

قراءة بأثر رجعي:

أنطوان سعادة ومشروع سورية الكبرى

سامح محاريق

كانت الفكرة الأكثر جدلا بين الطروحات التي أسس من خلالها الراحل أنطون سعادة الحزب السوري القومي الإجتماعي، فكرة مؤداها أن أبناء سورية يمثلون أمة تامة، ولرجل كسعادة قدم بحثا مهما في نشوء وتطور الأمم بالإضافة إلى إطلاعه الواسع على التجارب القومية والفاشية التي يبدو أنها كانت ضمن المؤثرات التي صاغت لديه فكرة القومية السورية، عدا الكاريزما الشخصية الطاغية التي يتمتع بها وقدراته الخطابية الفذة التي يمكن مقابلتها ربما بتشرشل أو بمالكوم إكس، لرجل من هذا الطراز الذي يدفع الكثيرين لاعتباره أحد السوريين الكبار على مر التاريخ فإن أفكاره لا يمكن أن تأتي على عواهنها، وإذا أتت أفكار سعادة غامضة عن التفسير، فإننا يجب أن نقوم بتأويلها على مستويات عدة.

بالقفز فوق المغالطة التي ساقها سعادة بتمام الأمة السورية التي يدحضها التاريخ وحركة الهجرات المتواصلة التي كانت سورية الطبيعية في قلبها تماما، بحيث تغيرت التركيبة السكانية بصورة شبه جذرية ربما أكثر من مرة، واستمرار حركة الهجرة من وإلى سورية بصورة كبيرة حتى مرحلة الخمسينيات من القرن العشرين، التي شهدت استقرار الدولة القطرية العربية، لكن ما يحدثه سعادة هو نقلة براجماتية فهو يحدد أن ثمة مشكلة هوية تحيق بسورية في العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين، ومن ثم يقرر عدم الانسياق وراء تفهم هذه الأزمة ويقوم بإجراء قطع تاريخي مع المقدمات التي شرخت الهوية السورية، وهو بذلك ينتهج المبررات  التي ساقتها الدول القطرية للدفاع عن وجودها وتبرير سياساتها، فيقدم من خلال ابتساره للمشروع السوري من مشروعات الوحدة العربية على الأساس اللغوي– الديني “من الخليج إلى المحيط” أو الوحدة على أنقاض الإمبراطورية العثمانية (الشام– العراق– مصر) أجزاء واسعة من الجزيرة وشمال أفريقيا” وبين عبثية الطرح الأول وعدم واقعيته، وتوفر الطرح الثاني شريطة توفر قوة حقيقية تستطيع اقتناصه، يصعد سعادة بمشروع الشخصي ليطرح سورية الطبيعية ويقوم باختراع القومية السورية (التامة).

يوجد مشكلتان حقيقيتان في فكرة سعادة بـ(تمام) الأمة السورية، تتمثل المشكلة الأولى في الملحقات التي ضمها سعادة لمشروعه السوري المتمثلة في العراق وكردستان وسيناء، التي لم تخضع طيلة التاريخ لأي مملكة حكمت سورية عدا الخلافة الأموية، وعلى العكس من ذلك فقد مثلت الشام الخاصرة الهشة في الإمبراطورية الرومانية أمام التوسع والغزو الفارسي و العربي لاحقا، بمعنى أن الشام منطقة رخوة استراتيجيا بحيث من الصعب عليها أن تكون قومية راسخة ومتجذرة على النمط الفارسي أو المصري، كما تفتقد الشام إلى نواة حقيقية يمكنها أن تبني حولها حلقات توسعية تحتفظ بقوميتها، والحديث عن مركزية دمشق في هذه الحالة يبقى حديثا متعلقا بالثقافة وليس بالقومية، فهي مدينة مفتوحة تتأثر وتؤثر بصورة متواصلة.

أما المشكلة الثانية فتتمثل في خطاب سعادة الإنشائي الذي يؤمن بنتائج ميكانيكية لخطوات تعبوية على النمط الفاشي الذي استطاع أن يبعث فكرة الامبراطورية الرومانية في ايطاليا الحديثة، ويبدو هذا النزق في مقولته بإقرار الأمة السورية على النحو التالي: “القول بأن السوريين هم أمة تامة، هو إعلان حقيقة أساسية تقضي على البلبلة والفوضى وتضع المجهود القومي على أساس من الوضوح لا يمكن، بدونه، إنشاء نهضة قومية في سورية. والحقيقة أن قومية السوريين التامة وحصول الوجدان الحي لهذه القومية أمران ضروريان لكون سورية للسوريين، بل هما شرطان أوليان لمبدأ السيادة القومية، سيادة الشعب الشاعر بكيانه على وطنه الذي هو أساس حياته وعامل أساسي في تكوين شخصيته”

يعتقد سعادة بأن الإعلان عن الأمة السورية يمكن أن يمثل خطوة خطابية صرفة، دون أن تحمل مقدمات فعلية، فهو يتجاهل حتى وثيقة إعلان استقلال سورية التي مثلت من خلال أبناء الشام والساحل بما فيه لبنان وفلسطين “الإقليم الجنوبي”، وربما حملت مشروعا قابلا للتطبيق قياسا بمشروع الهلال الخصيب الذي دشنه سعادة، كما أنه يتجاهل في المقابل طبيعة الظروف السياسية والاقتصادية المحيطة به، ليحول مشروع الاستقلال السوري الحقيقي الممثل في الوثيقة المعلنة في 1920 لمجرد أضغاث أحلام ذاتية غارقة في هندسة التخيل.

أزمة الحزب الذي كتب له الاستمرار بعد إعدام أنطون سعادة في 1949 هو أنطون سعادة نفسه، وربما امتداد للأزمة العربية في التعاطي مع الأفكار الكبيرة، فمن يتطلع إلى أدبيات الحزب يجدها توقفت عند مقولات سعادة وأفكاره دون أن تضيف مسألة تراكم الخبرات والتطور الذي شهده العالم متوازيا مع المسيرة النضالية المشرفة للحزب ضمن المقاومة اللبنانية تحديدا أي قيمة حقيقية لفكرة سوريا الطبيعية، علما بأن سعادة لم يكن بحاجة لحبل المشنقة ليتحول إلى بطل ولم تضف عليه أيامه الأخيرة أية شيء يعوزه ليصبح رمزا.

مشروع سورية الكبرى والهلال الخصيب أحد أكثر المشروعات قابلية للتطبيق، ليس بناء على القومية السورية وليس كنتيجة لها، ولكن كانعكاس لطبيعة القوميات الأخرى ومشروعاتها، ومدى تشابك المصالح بين الدول العربية التي تمثل سورية الطبيعية بتقاربها الثقافي وتشابه الظروف الاقتصادية وانفتاحها على فكرة التكامل الذي يحقق الاكتفاء الإيجابي الذي يسمح بالتفاعل من موقف ندية مع الآخر، دون أن يأتي ذلك المشروع على فكرة الدولة القطرية التي تكفل من جهة أخرى التنوع والمرونة، وتقف حائلا دون الشطط القومي.

إن السوق المشتركة والحدود المفتوحة والميزات الخاصة في التبادل بين دول الهلال الخصيب يمكن أن تحقق مشروعا حقيقيا يستغل طاقات الإقليم السوري وفق تصور سعادة، ويشكل رافدا ومنافسا لمجلس التعاون الخليجي بصورة يمكنها أن تصنع هوية لمنطقة بقيت مفتوحة أمام العديد من الهويات الوافدة التي لم تفقد طموحها يوما في الاستحواذ على حصة من النفوذ في المنطقة العربية.

إن الحزب السوري القومي يمكن أن يكون موئل نظرية حديثة للإقليم السوري، وفي تعريف الأمة السورية، وعلى الأقل أن يعمل على الخروج من عباءة سعادة الذي كان يجيد ممارسة الحلم “النبيل بالضرورة” دون أن يمتلك من أدواته سوى الاستعداد المفرط للشهادة.

وفي النهاية فليس بوسع أحد أن يقوض أكثر الأفكار شططا وتطرفا، فجميع الأفكار يمكن مناقشتها من الداخل وإعادة صياغتها بصورة تتماشى مع العصر، فالأفكار لا ترفض كلية ولا تقبل كلية، ولكنها تتطور وتعيش.

:::::

كاتب وباحث أردني

نشر في جريدة الغد الإردنية