مقدمات في التنمية

مقدمات في التنمية

(الجزء الثاني)

عادل سمارة

مفاتيح ومقدمات لفهم التنمية

ليس المقصود هنا التعرض لمختلف المفاهيم المحتواة مباشرة أو المتعلقة بالتنمية فهذا سيشمل محيطاً من المفاهيم. فالمقصود هنا بعض المفاهيم المفاتيحية التي بالدراية المسبقة بها، يصبح مسار الذهن حين القراءة أو النقاش سهلاً بدون نتوءات تعترضه، إنها من أجل تسليك خط التفكير.

التنمية والاقتصاد السياسي

لم تعد التعريفات السابقة للاقتصاد السياسي كافية للإحاطة بتطورات العصر المتسارعة والمعقدة. ولم تعد معاني الاقتصاد السياسي مقصورة على نطاق اقتصاد البقاء أو النمو ودراسة توزيع الموارد والتحكم في مجموع النشاط الاقتصادي او سياسة توزيع وتراكم الفائض. ولم يعد تعريف الاقتصاد السياسي كنظرية للمجتمع المدني كما رآها آدم سميث بمعزل عن المجتمع السياسي كافياً.

قد تكون المقاربة الأفضل لهذه المسألة كامنة في دخول الاجتماعي على الاقتصادي السياسي، اي قراءة الاقتصاد في علاقته بالسياسة وتاثيره وتأثره بالواقع الاجتماعي عبر المسألة الأكثر حضورا في هذا العصر اي التنمية. وعليه، يصبح الاقتصاد الساسي معنياً أكثر بموضوعة التنمية ومصالح وصراع الطبقات. ومن هنا لم يعد ممكنا لنا أن نقرأ التنمية خارج نطاق الاقتصاد وخارج نطاق السياسة الاقتصادية للدولة. فالاقتصاد كي يكون يتطلب المجتمع والمجتمع يتطلب التنمية والتنمية تتطلب سياسات اقتصادية. وتطبيق أية استراتيجية تنموية لا يتم خارج الاقتصاد. هذا ما أوجب قراءة التنمية بأدوات الاقتصاد السياسي.

إذا كان للاقتصاد، والاقتصاد السياسي ذلك التداخل المفروض والضروري لقراءة التنمية، فلا بد ان يعني هذا تداخلاً بين مكوناتهما، المكونات الأساسية على الأقل. إن اساس الإقتصاد هو العمل محوَّلاً إلى إنتاج وكل ذلك بدافع الضرورة، ضروة حفاظ النوع الإنساني على وجوده واستمراره وتطوره ورفاهه. هذه القاعدة الأساسية من أكثر التجمعات البشرية بدائية وصولا إلى اليوم وبعده. أما التنمية هنا، وهي علم حديث، فتعطي الاقتصاد بجوهره الإنتاجي بعده الاجتماعي بالضرورة متجاوزة محدودية الاقتصاد في نطاق السياسات الاقتصادية المجردة.

وسواء اتفق او اختلف الناس على طبيعة علاقة التنمية بالاقتصاد السياسي فإن الفيصل الذي يفرض تعالقهما معاً هو العمل والإنتاج. فعلى قاعدة عمل/إنتاج تقوم الحياة وتتواصل وترتقي. وهذا يقودنا إلى مكونات المعادلة الاقتصادية.

المعادلة الاقتصادية

تقوم دورة الاقتصاد على مكوناتها الرئيسية التي تترابط إلى درجة اشتراط كل واحد منها الآخر من حيث وجوده وليس فقط من حيث موقعه في العملية الاقتصادية. إلا أن اساس العملية الاقتصادية هو الإنتاج بما هو نتاج العمل الإنساني، الجهد الإنساني المبذول في إنتاج الخيرات المادية. والإنتاج بما هو الأساس هو الذي يحدد الحلقات الأخرى في الاقتصاد، التوزيع والتبادل والاستهلاك والادخار والاستثمار. ورغم أن الإنتاج هو المحرك للمكونات الأخرى، ورغم أن حركتها منوطة به، إلا أنها تشكل التغذية الراجعة للإنتاج بما يؤثر على دوره وفعاليته. فإذا تدنى الاستهلاك مثلا، لا يكون أمام الإنتاج إلا أن يتقلص طبقاً للطلب على المنتجات، وإلا يكون هناك كساداً. وهذا يعني التفاعل والترابط المتبادل بين مكونات الاقتصاد.

وهذه المعادلة هي نفسها التي تحكم العملية التنموية من حيث المبدأ. أما الفارق فيكمن في أن العملية التنموية يجب أن تقوم على أرضية التخطيط الاقتصادي وليس على فوضى الإنتاج كما هو حال الاقتصاد الراسمالي. وعليه، فإن الاقتصاد عموما والتنمية يجمعهما العمل فالإنتاج، لكنهما يفترقان من حيث الدور الإنساني الجماعي والتخطيط في حالة التنمية مقابل الدور الفردي في الاقتصاد.

ورغم حداثة التنمية كعلم إنساني، إلا أن هذا لا يعني أنها لم تكن كامنة في المجتمعات البشرية الأقل تطوراً وتحديداً البدائية المشاعية متخذة شكل التعاون البسيط، بمعنى أن الإنسان مارس التعاون والتنمية قبل أن تصبح علماً. وهو التعاون الذي انحرف إلى الاقتصاد البحت مع هيمنة الملكية الخاصة. كما يمكن ملاحظة أن التعاونيات هي أنوية اولية للتنمية عبر مراحل التطور التاريخي وحتى اليوم.

وبقدر ما أن الاقتصاد بمعناه البسيط هو تدبير حياتي فردي، لكنه تنافسي طبقي يحمل في عملياته اليومية مبررات الصراع على الفائض ليس بين الأفراد والطبقات بل والأمم ايضاً. هذا ما تأسس على وجود الملكية الخاصة، وهو ما أفرز الصراع الطبقي والحروب. وهذه الملاحظات هامة كي لا نقع حين التفكير أو الكتابة أو القراءة في الخلط أو إجراء التماثل بين الاقتصاد والتنمية، وهذا أن نقرا الاقتصاد السياسي من منظور تنموي سياسي اجتماعي وليس اقتصادي بحت. إن آلية الكشف عن العلاقة/التناقض/التصالح/الصراع بين الاقتصاد وبين التنمية بمضمونها التعاوني فالاشتراكي كامنة في الاقتصاد السياسي الذي يُدخل المجتمع في التحليل بما أن الاقتصاد هو إنتاج العاملين من المجتمع الذين هم اساس العملية الإنتاجية وهم الذين يحق لهم اتخاذ القرار السياسي.

العمل الاجتماعي والإنتاج الاجتماعي

يستغرق هذا العنوان ثلاثة مكونات اساسية جميعها مكونات اساسية، بل الأساسية، في التنمية. فالعمل هو الذي خلق الإنسان. والأصل في عمل الإنسان الفرد هو اجتماعي. ومع تقدم البشرية وسيطرة الملكية الخاصة بدا العمل الاجتماعي في الخضوع للمضمون السلعي، للقيمة التبادلية وهنا يصبح العمل او ينتقل من الفردي إلى الجماعي، لكن مضمونه الاجتماعي يتوارى نظراً لخضوعة لقوانين التبادل. أي انه مع التطور الاقتصادي الاجتماعي يصبح العمل جماعياً اي باحتواء مكان العمل على عدد من العمال وهي حالة متقدمة من حيث القدرة الإنتاجية ومن حيث الإنتاج الأكثر والأفضل لعدد من العمال يعملون جماعيا بالمقارنة مع نفس العدد من العمال وفي نفس المهنة حيث يعملون فردياً. فالعمل الجماعي هو غير العمل الاجتماعي. ولا يعود العمل اجتماعياً إلا بعد دخول المجتمعات مرحلة الاشتراكية. ومن هنا تعلُّق العمل الاجتماعي بالتنمية. إن العمل والعمل الاجتماعي هي نشاطات إنسانية اساسية يقوم بها المجتمع ومن أجل ذاته.

التكنولوجيا الوسيطة وكثافة التشغيل

بما هي مقدمة للاشتراكية، فإن التنمية هي معنية بالشغل أو التشغيل لكل من هو في عمر العمل من المجتمع. والتنمية غالباً هي للمجتمعات الأقل تطوراً والتي لا تتوفر فيها فرص عمل تستوعب قوة العمل من الرجال والنساء. لذا، غالباً من تعتمد التنمية تكنولوجيا وسيطة ليست عالية التعقيد لكي تستوعب أكبر عدد ممكن من الناس، وليس ذلك فقط لتوفير دخل للأكثرية بل كذلك كي يساهم أكبر عدد ممكن من الناس في العملية الإنتاجية الإيداعية بعملهم الذهني والعضلي.

وليس المقصود هنا العودة إلى الأدوات البدائية ولكن المقصود هو عدم حلول الآلة محل العامل مما يقود إلى البطالة وتشويه توزيع الدخل. وبالطبع، فإن وصول المجتمع إلى تكنولوجيا ارقى يفتح حلولاً لمسألة التشغيل بمعنى تبلور آفاق لصناعات وتصنيع زراعي وزراعات جديدة ومتطورة. بيت القصيد هو أن التنمية هي للطبقات الشعبية ويجب أن تتكيف حسب ظروف هذه الطبقات كي تنتمي الطبقات إليها وتحميها.

وبدون تكريس التنمية للناس، يتم تهميش قوة العمل إنتاجياً، وبالطبع يتبع هذا تدهور مداخيلها ومستوى معيشتها وينتهي إلى تهميشها اجتماعيا وسياسيا، وهذا يعني وصول الأزمة إلى الاحتقان والثورة كما يجري في تونس ومصر.

في التنمية

التخطيط والتنمية

لا بد من افتتاح هذه المسألة بنقد لما هو دارج. فالمألوف، أو ما درجت عليه معظم ادبيات التنمية، والتي سنعرض لها لاحقاً، هو اقتران التخطيط والتنمية مع بعضهما البعض. وهو عنوان يعني أن التخطيط يجب أن يكون الأساس الذي تُبنى عليه التنمية. والمقصود بالتخطيط هنا التخطيط الرسمي اي الدولاني (من الدولة).

وهذا يعني أن رأس الدولة أي من يُمسكون السلطة هم الذين يجب أن يقوموا بالتخطيط أو إيكال أو توكيل أحد للقيام بذلك. اي أن التخطيط هو مسألة رسمية. وهذا يفترض أمرين:

· أن الدولة معنية بالتخطيط

· وأن تقوم الدولة بالتخطيط ومن ثم التنفيذ تنموياً ليس لزمرة أو طبقة بل للأكثرية الشعبية وخاصة من يعملون.

وهذا في جوهره مقصود به الدول الاشتراكية وخاصة دول الاشتراكية المحققة التي يُفترض من حيث الخلفية الاشتراكية أن تكون الدولة حريصة وناقلة للتخطيط. وهذا الافتراض صحيح من حيث المبدأ لكنه وقع في إشكالات من حيث التطبيق أودت بالمشروع المتحقق نفسه.

ولكن، أما ونحن نتحاور في مسألة التنمية على أرضية نقدية وناقدة، فلا بد ان نشير إلى أن التخطيط نفسه يشترط فريقاً يؤمن بالتنمية والاشتراكية وليس وضع التخطيط بايدي بيروقراطية تختطف التخطيط ليتخذ حالة من اليباس وعدم الحوار مع العمال والفلاحين ومختلف المنتجين والعاملين بأجر أو في أعمال مُنتجة ولا تُحتسب لها أجور كشغل المرأة في المنزل، اي المنتجين، في الميدان وهو ما قاد إلى خلق حالة أمرية لا حوارية.

لن ندخل في التفاصيل هنا، ولكن تجدر الإشارة إلى التجربة التاريخية التي اثبتت انه ليس شرطاً حين تسمي الدولة نفسها اشتراكية أن تقوم بتخطيط وتنمية حقيقيين. وهذا ينطبق علينا نحن كاشخاص، فليس شرطاً أن أزعم أنني اشتراكي بأن اكون حقاً كذلك. بل لقد اثبتت تجربة الاشتراكية المحققة أن الدولة لم تكن ناقلة حقيقية للاشتراكية. فبعد الانحرافات البيروقراطية أصبحت الدولة أداة للنخبة السياسية والعسكرية والحزبية التي اسميت نومنكلاتورا، وهذه الشرائح او الطبقة كانت تحوز دون أن تملك!!.

وهذا يفتح على مدخل مختلف في مسألة العلاقة الجدلية بين التخطيط والتنمية والتي تفترض أمرين:

· أن تكون الدولة وتحديداً السلطة قد رُفعت ومن ثم وُضعت في موقع السلطة بناء على قيام القوى الشعبية العاملة بوضعها هناك ومن ثم مراقبتها وتغذيتها بما يراه من يعملون.

· وفي حالة غياب سلطة شعبية وتنموية واشتراكية يتم الأخذ بالخيار الآخر وهو التخطيط الشعبي ضمن موديل التنمية بالحماية الشعبية.

وهذا يعني أن التخطيط حتمي في التنمية وإن لم يكن رسمياً لا بد ان يكون شعبياً بعيداً عن وبمعزل عن السلطة.

ولكي تكتمل الصورة في نقطة الحوار هذه، لا بد من كلمة بشأن بعض نقائض/بدائل التخطيط.

في النظام الرأسمالي اي الذي يعتمد الملكية الخاصة وحافز الربح اللامحدود، وليس الأقصى فقط ويعتمد العمل المأجور، والأهم من كل هذا في هذا السياق تحديداً، النظام الذي يقوده من يملكون، فإن التخطيط مسألة مرفوضة تبدأ من المدرسة الكلاسيكية في الاقتصاد السياسي التي اسسها آدم سميث بأن تدخُّل الدولة أمر مرفوض في الاقتصاد وأن السوق تعدِّل نفسها. وهي مدرسة تعتمد المقولة الكلاسيكية لمدرسة الفيزيوقراط السابقة لآدم سميث: “دعه يعمل دعه يمر”. اي دعه يربح كيف يشاء وبقدر ما يمكنه فعل ذلك. هذه المدرسة أو هاتين المدرستين يمكن بعد قرائتهما أن توصفا بأنهما تقومان على “فوضى الإنتاج”. ليست فوضى الإنتاج مسألة صُدَفية ولا عابرة بل قانون اساسي في النظام الراسمالي. وهو ما أدى إلى مختلف الأزمات التي أصابت هذا النظام ودفعت ثمنها الطبقات الشعبية في مختلف بلدان العالم وها هي تدفع ذلك اليوم، ويبدو أن ساعة الحساب قد دقت، ولكن هذه المرة على يد الثورة العربية من تونس إلى مصر وستواصل فعلها.

وفي معالجات ترقيعية، أو إدارة الأزمة في النظام الرأسمالي، فقد تم اللجوء إلى إعطاء الدولة دوراً عبر تشكيل القطاع العام. والقطاع العام ليس سياسة تخطيطية بل هو إعطاء الدولة دوراً في عملية التشغيل على اساس رأسمالي. وبالطبع فإن القطاع العام أفضل من بقاء الاقتصاد رهناً للقطاع الخاص المقود بفوضى الإنتاج، كما أن اهميته للدولة كامنة في تخفيض البطالة.

وهناك بدائل أخرى للتخطيط مثل اعتماد سياسة الاقتصاد التأشيري Indicative Economy وهو الذي طبق في الهند وفرنسا، حيث تقوم الدولة بدور في التدخل الجزئي للاقتصاد دون أن يمس ذلك البنية الراسمالية ومصالح القطاع الخاص. ويتم ذلك عبر توفير ديمقراطية سياسية الهدف منها تمييع مطالبة الناس بالديمقراطية الاقتصادية.

ليس دور التأشير دور تخطيطي وإنما إرشادي بمعنى أن تضع الدولة خبرتها في إيجاد قطاع عام وإرشاد القطاع الخاص إلى الاستثمارات الأقل خطراً. ويتضمن هذا دوراً للدولة في حقوق للعمال ولو بالحد الأدنى وضع قوانين للمصارف في عملية الإقراض بمعنى ان تكون القروض لمن يقدم ضمانات السداد…الخ.

لقد اسميت هذه السياسة لاحقاً ب “التضبيط” Regulation اي دور الدولة في تضبيط عمل الاقتصاد بعيداً عن الفلتان غير المحسوب اي فوضى الإنتاج، ولكنه ابعد عن التخطيط.

لكن تفكك بلدان الاشتراكية المحققة، شجع ضواري راس المال على الانتقال من فوضى الإنتاج السلعي والتنافس على الأسواق لتصريف السلع إلى المضاربات المالية وإعطاء قروض بلا تغطية وضمانات…الخ وهو ما اسموه عدم التضبيط de-regulation الأمر الذي أدى إلى الأزمة الاقتصادية الحادة منذ عام 2008 والتي لم يتم تجاوزها بعد.

التنمية

مفهوم التنمية Development ومن ثم مشروع التنمية هو مفهوم جماعي على مستوى الدولة القومية سياسيا وسياديا وعلى مستوى التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية اجتماعياً وطبقياً. نحصره، في حوارنا هذا، في الدولة القومية لأن العالم ما زال مجزءاً على هذا الأساس في حين أن هذا المفهوم هو أممي من حيث فكرته وفكره ومن حيث كونه مقدمة للاشتراكية. وهو مفهوم شمولي بمعنى أن التنمية تكتنف المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والتربوية وعليه فالتنمية شاملة قبل أن تكون مستدامة، ولا تصبح مستدامة إلا إذا كانت بتخطيط وشاملة أيضاً. وهذا أكثر ما يميزها عن النمو Growth.

فالنمو هو حصيلة مجموع نتاج مختلف العمليات الاقتصادية في مجتمع معين، تعمل كل واحدة منها بمعزل عن الأخريات حيث تعمل كل واحدة من أجل الحصول على الربح الخاص وبالتنافس مع نظيراتها وطبعا حسب حجمها وطاقتها. وهذا ما اشرنا إليه ب فوضى الإنتاج. ويتبين مقدار النمو عبر إحصاء الناتج المحلي الإجمالي لبلد معين كمجموع عملية/ات فوضى الإنتاج. وهي عملية يعتورها الربح والخسارة والمنافسة البسيطة والقاتلة…الخ.

وهذا يفتح على أحد الفوارق الجوهرية بين التنمية والنمو. فالنمو هو الحاصل النهائي حسابيا/رقميا/مالياً في فترة زمنية معينة للعملية الاقتصادية، أي الإنتاجية المحلية، بما تحتويه من صراع اجتماعي في مواقع العمل بين العمل وراس المال. أي في سياق الاستغلال الطبقي الذي تمارسه الطبقة الراسمالية على الطبقات الشعبية وحتى مختلف الشرائح والطبقات الأخرى.

وهذا ينقلنا إلى فارق اساسي آخر بينهما وهو العنصر الإنساني، فالتنمية مشروع عام لخدمة الأكثرية وخاصة من يعملون وينتجون، أما النمو فهو شرعنة وحفز الاستغلال الطبقي والإشادة به وتحويل جهد الناس :

· إلى ارقام صماء تخفي الاستغلال

· وإلى قيمة زائدة مستلبة من المنتجين

إن مصطلح أو عنوان النمو هو جوهرياً تغييب للجوانب غير الإنسانية التي يقوم عليها النمو الاقتصادي. كما ان التنمية مشروع لا يجزَّأ مكانياً، بمعنى أن يشمل التخطيط والتنمية كامل الوحدة السياسية/السيادية التي تتبنى استراتيجية تنموية لتصحيح الإعوجاجات والحرمان الذي في الغالب يصيب الأطراف، وبالتالي إحداث توازن اقتصادي في البلد ككل.

والتنمية بما هي تجاوز للجغرافيا، فهي تتجاوز تقسيم النوع الاجتماعي إلى قسمين بمعنى أنها تعتبر الإنسان نوع واحد تحرره من عملية الإجحاف التاريخي في تقسيمه إلى “نوعين” وذلك في مشروع صعب وقاسٍ تاريخياً هدفه التأكيد أن الاستغلال والسيطرة اساسهما طبقي وحافزهما الملكية الخاصة واغتصاب الفائض. هذا مع التأكيد على أن التجربة التاريخية بطولها الثقيل قد أكدت أن المرأة هي المهزومة في هذا الصراع مما قاد لاعتقادات وقناعات أن الصراع هو بين الرجل والمرأة. وهذا الصراع أو التناقض بين الرجل والمرأة هو في الحقيقة أحد تجليات السبب/الأسباب الأساسية للاستغلال والسيطرة، وليس هو السبب الحقيقي أو الأول والمؤسسِّْ.

والتنمية كذلك من القاعدة وإلى القاعدة. فبما هي من أجل الأكثرية فلا بد أن تقوم على عملية حوار متبادل قبيل التخطيط كي تكون الخطة التنموية طبقاً لحاجات الناس ورؤيتهم لما يجب أن يكون عليه حال البلد. إن الحوار المتبادل هو القاعدة الديمقراطية الشعبية للتخطيط ومن ثم التطبيق التنموي. فالحوار المتبادل وحده الذي يُشعر كل مواطن أنه يساهم في بناء المشروع التنموي وهو ما نسميه التنمية بالحماية الشعبية حيث تشتمل الحماية ضمناً على المساهمة فلا يحمي مشروعا معيناً أكثر ممن ساهموا في بنائه بالجهد الذهني والجسدي وبالزمن الشخصي وبالإمكانات مهما تواضعت. وهذه العلاقة الحوارية هي التي تخلق حب العمل ودافع بذل الجهد والنشاط وجاهزية المساهمة في التطبيق لدى المواطنين.

إن التنمية كمشروع إنساني ديمقراطي يقنع المواطن بالمساهمة بجهديه الذهني والعضلي، وبكفاءاته الثلاثة: الجسدية والزمنية والمالية. وتَوفُر هذه المساهمة والرغبة هو أحد اهم شروط نجاح المشروع التنموي. وبمعزل عن مختلف هذه الشروط والمناخات الإنسانية والحافزة لا يمكن للمشروع التنموي أن ينجح، بل سوف يتحول إلى إهدار للموارد العامة والكفاءات الخاصة. وحين يحصل هذا يتحول المواطن من مؤسس وحامي للحماية الشعبية إلى متبرِّم وممرور وداعية نقد سلبي وتيئيس. ومن هنا ضرورة الدقة والحرص والرقابة كي ينجح المشروع كي لا ينقلب من نعيم إلى لعنة.

وإضافة إلى إشراك ديمقراطي للجميع، لا بد من عدم التساهل مع الكسل واللاإبالية. فالمجتمع الذي يعبر إلى التنمية لا يأتي من مناخ مثالي قطعياً، بل من مناخ فيه اختلاطات فكرية وإيديولوجية ونفسية وثقافية ودينية وتراثية مما يضع على كاهل حاملي المشروع :

· التعامل مع هذه الاختلاطات

· ونقضها أو مفصلتها أو صهرها مع ولصالح مفاهيم المشروع الجديد.

وهذا يتطلب درجة من ضبط النفس والقدرة على استيعاب مختلف الخلفيات طالما النوايا حسنة، والحرص على الوقت. ولا يتمتع بهذه الصفات سوى من لديه بالطبيعة ومن ثم بالوعي جاهزية الخدمة والتطوع دون اشتراط ذلك بقيام الآخرين بما يقوم به.