يوري جاجارين

يوري جاجارين

ذات صباح منذ خمسين عاما

د. أحمد الخميسي

ذات صباح، منذ خمسين عاما بالتمام والكمال، هتف شاب روسي في السابعة والعشرين من عمره ” فلننطلق “! كان ذلك في السابعة والدقيقة الأربعين من صباح يوم الأربعاء 12 أبريل 1961. وربما لم تسمع البشرية بعد صيحة أجمل من هذه أل ” فلننطلق “، ففي تلك الكلمة القاطعة احتشدت كل أحلام الإنسانية المتحفزة للطيران، ليس في السماء، بل إلي ما هو أبعد من السماء. وكانت الكلمة إشارة، انطلقت بعدها المركبة الفضائية ” فوستوك -1 ” حاملة الشاب الروسي يوري جاجارين في دورة حول الأرض أشبه بالمعجزة. وفي مارس 1968 توفي جاجارين عن أربعة وثلاثين عاما فقط، بينما كان يجرب طائرة ” ميج -15 ” تحطمت به، ومع أن لجنة حكومية تشكلت للتحقيق في أسباب الكارثة، إلا أن السلطات فرضت السرية على تقرير اللجنة، فلم تعرف حتى الآن الأسباب والظروف الحقيقية التي أدت لوفاته.

رحل يوري جاجارين، مثلما يرحل كل كائن بشري، ولكن بقيت كلمته ” فلننطلق “، وعلى حد قول عالم الصواريخ الشهير سيرجي كرولوف فإن: ” جاجارين فتح لسكان الأرض الطريق إلي العالم المجهول، لكن الأهم أنه منح البشرية الثقة في قدراتها وطاقاتها “! وعلى حد تعبير رائد الفضاء الأمريكي آرمسترونج فإن جاجارين” دعانا جميعا إلي الفضاء” أي أنه دعانا إلي استجلاء كل مجهول، وكشف كل لغز، والثقة في أنه ما من مستحيل أمام إرادة العقل البشري.

ولم يكن يوري جاجارين سوى ابن لأسرة فقيرة تحيا غرب موسكو، ولم يكن والده سوى نجار متواضع، ومنذ طفولته كان جاجارين يعشق الطائرات، وكان يحتفظ تحت وسادته وهو صبي برواية جول فيرن ” من الأرض إلي القمر “، وفي مطلع شبابه عمل بمصنع للحديد والصلب، وهناك التحق بنادي طيران وتدرب فيه على التحليق بالطائرات الخفيفة، ثم التحق بكلية الطيران الحربي عام 1955. وفي عام 1957 نجح السوفيت في إرسال الكلبة ” لايكا ” إلي الفضاء، وشرعوا يعدون العدة لإرسال أول بشري إلي هناك. وعام 1960 انتهى بهم البحث إلي عشرين شخصا صالحا للطيران كان يوري جاجارين واحدا منهم، وعند تصفية المرشحين تبقى اسمان فقط على اللائحة: جاجارين، وجيرمان تيتوف. وهنا حسم العامل الشخصي اختيار جاجارين، لأنه كان يتسم بالبساطة، لا تفارقه البسمة، ينقل الشعور بالدفء لمحدثيه. ولم يكن السوفيت على يقين من عودة يوري جاجارين سالما، لذلك لم يعلنوا عن الرحلة إلا بعد نجاحها وعودة المركبة ” فوستوك -1 ” سالمة إلي الأرض. الرحلة كانت حينذاك أشبه بالأسطورة، وكنت أنا في ذلك الوقت في الثالثة عشرة من عمري، ومع ذلك ما زلت أذكر ذلك الذهول الذي حط على الناس وعلى شوارع القاهرة ما بين مصدق ومكذب. الرحلة التي استمرت حول الأرض لمدة مئة وثماني دقائق كانت شيئا يتجاوز حدود قدرة العقل على التصديق، في وقت لم تكن فيه الاختراعات العلمية قد شهدت الطفرة التي نعرفها الآن. وحينذاك أعلن الزعيم الفرنسي شارل ديجول تعليقا على النبأ: ” إن إن نجاح العلماء السوفيت في تلك الخطوة شرف لأوروبا وللبشرية كلها “، بينما كرر هارولد ماكميليان رئيس وزراء بريطانيا بذهول: ” إنه حدث تاريخي.. حدث تاريخي “، وأعلن الرئيس الأمريكي كيندي في مؤتمر صحفي 13 أبريل إن ماجرى هو ” أكثر الإنجازات العلمية إبهارا “.

حين عاد يوري جاجارين إلي الأرض، أخذت الوكالات تتناقل صوره، فأحبه الناس وعشقوا فيه بساطة الفلاح الروسي، وبسمته الدافئة. ومنح لقب بطل الاتحاد السوفيتي، ثم تقرر أن يقوم بجولة خارج روسيا، وزار بالفعل ثلاثين دولة عام 1962 وكانت مصر إحدى المحطات التي توقف فيها، وكانت أيضا الدولة العربية الوحيدة التي زارها، واستقبله في مطار ألماظة زكريا محيي الدين، والتقي خلال الزيارة بجمال عبد الناصر، ووضع على صدر إبنه عبد الحكيم شارة رواد الفضاء، وركب الجمال في منطقة الأهرام. وفي ذلك الوقت كتب الكثيرون في الصحافة المصرية بإعجاب وتقدير عن تلك الرحلة، والتقي جاجارين بعدد كبير من الكتاب والشعراء كان من بينهم والدي الكاتب الراحل عبد الرحمن الخميسي، ومازالت ذاكرتي تحتفظ بقصيدة كتبها والدي ونشرت حينذاك بجريدة الجمهورية هي ” جاجارين في قريتي ” ويصور فيها ذهول الناس مما جرى قائلا:

ججارينُ فى قريتى يسألونَ:

وكيف نبلِّغهُ حُبَّنا..؟

وكيفَ نَزُفُّ إليه التَّهانى؟

ونحمله فوق أعناقِنا؟

نُريد نراهُ… نُقَبِّله..

نُهدْهدُه بين أحضانِنَا

ونعقدُ من زَهراتِ الربيع

على رأسهِ تاجَ إعجابِنَا

* * *

وطفلٌ تساءل: هل مثلُنا

ججارين يمشى على قدَمينْ؟

وفى وجههِ يا تُرى مُقلتان

وأنفٌ، ويسمعُ بالأذُنينْ؟

وقهقه كلٌّ، فقال الصغيرُ:

وهل شفْتمو جاجرينَ؟ وأينْ؟

وقيل له: مِثْلُنَا.. غيرَ أنَّ

بطولتَه حَدَثُ العالمَين

* * *

وأطرقَ فى صمتِه شيخُنا،

وأومأ لى، ثم قال بأذْنِى:

“أتعرفُ أنَّ لدىَّ جِوالاً

من القمح؟ قلت: وما أنت تَعنى؟”

فقال: “سأرْسِله فى غدٍ

إليه هدَّيةَ شيخ مُسنَّ”

وأطرقَ فى صِمته، ثم قال:

“أُحِسُّ كأن ججارين إبنى!”

في الرابعة والثلاثين من عمره رحل يوري جاجارين عن عالمنا، ودفن رماد رفاته عند سور الكرملين، وبعد خمسين عاما تتبنى الأمم المتحدة يوم رحلته 12 أبريل يوما عالميا لارتياد الفضاء، يوما عالميا للاحتفال بالصيحة الأجمل: ” فلننطلق ” لنفض مغاليق الأسرار كلها، فلننطلق.

الآن يحضرني خلاف صغير بين الأديبين الروسيين العملاقين: ليف تولستوي وأنطون تشيخوف، فقد كان تولستوي كثيرا ما يكرر إن الإنسان لا يحتاج لأكثر من متر من الأرض يدفن فيه، أما تشيخوف فقد رد على ذلك بقوله: متر من الأرض تحتاجه جثة، أما الإنسان فيلزمه الكون كله!

ججارين هو كل إنسان لا ينفعه لا متر واحد ولا حتى الأرض كلها، فيحلق أعلى، وأعلى، أبعد، وأبعد، سابحا في الكون اللانهائي. لهذا أصبح اسم ذلك الشاب الروسي اسما لكل البشر، وصيحته الجميلة ” فلننطلق ” صيحة للبشرية كلها.

***

أحمد الخميسي. كاتب مصري

Ahmad_alkhamisi@yahoo.com