مقدمات في التنمية

مقدمات في التنمية

(الجزء الرابع والاخير)

عادل سمارة

التنمية تشترط مركزا اقتصادياً

نظراً للسنوات الطويلة من الإلحاق والتبعية للاقتصاد الإسرائيلي على شكل “تبادل لا متكافىء مسلح”، فإن الضفة والقطاع انتهت إلى فقدان تماسكها الداخلي وغدت بدون مركز اقتصادي داخلي حيث ارتبطت كل منطقة بالسوق الصهيوني مباشرة، هذا إضافة إلى تقويض مختلف علاقاتها مع الاقتصادات العربية. وقد استمرت الوضعية نفسها إثر مفاوضات واتفاق مدريد/أوسلو إلى حد أن متاجرة الضفة والقطاع مع الأردن تراجعت لصالح المتاجرة مع الكيان. لقد تنامى خلال الانتفاضة مركزا داخلياً يرتكز على قانون قيمة وطني. ولكن ، ولسوء الحظ، تم خنق ذلك عبر عملية سلام راس المال التي احتجزت المقاطعة الشعبية للسلع الإسرائيلية. وفي سياق عدوانه الوحشي على الانتفاضة الأولى، فقد ركز الاحتلال جهوده على كسر العملية التنموية  بما فيها قانون القيمة المحلي الذي طورته لتقوية استراتيجيات البقاء. ركَّز الاحتلال على تصفية القطاع التعاوني عبر فرض ضرائب باهظة عليه إضافة إلى تخفيض سعر صرف الدينار الأردني بما هو العملة الأكثر استخداماً بين الطبقات الشعبية في الضفة والقطاع، وهو التخفيض الذي استنزف مدخرات هذه الطبقات، وهذا ما قاد إلى ركود وتصفية قطاع الإنتاج لهذه الطبقات وقوض قدرتها الاستهلاكية.

إن الاعتماد على الذات، بل والتمحور على الذات، شديد الأهمية للعملية التنموية، ولذا، لا بد من مركز اقتصادي للبلد الواحد كي لا يتحول الاقتصاد إلى اقتصاد متخارج. وهذا لا يعني ان يكون المركز الاقتصادي احتكاراً للتطور والحوار، بقدر ما هو ضابطة لعدم التمفصل مع الاقتصادات الأجنبية الراسمالية بشكل خاص.

الفئات المستهدفة/اأم الصانعة للتنمية

تُُعتبر الفئة المستهدفة في اي نشاط اقتصادي نقطة ارتكاز اساسية في ذلك النشاط. ولكن هذا الأمر، وإن كان إيجابياً بطبيعته إلا أنه لا يكفي في المسيرة التنموية. فالتنمية تبدأ بمبادرة شعبية من الطبقات الشعبية التي هي صانعة للعملية التنموية، بمعنى ان هذه الطبقات تعمل لنفسها وتستهدف نفسها. وذلك لأن التنمية جماعية وللجميع. التنمية اعتراض ورفض طبقي لواقع طبقي، وبالتالي فهي عملية صنع لموقف واستراتيجيا وليست حالة تلقي وانتظار تلقين من نخبة معينة تتسوَّد عليها بيروقراطياً.

تبدأ التنمية بالحماية الشعبية في القطاع الزراعي طالما المجتمع زراعي بدرجة عالية ولأن الزراعة هي شغل قطاع كبير منه إضافة إلى أن الزراعة اقل تعقيداً وكلفة. وقد يكون أبسطها الإنتاج المنزلي وصولا إلى التعاونيات الإنتاجية وتعاونيات التصنيع الزراعي.

ولكن، كي تتحول التنمية إلى استراتيجية مجتمعية، فلا بد أن تكتنف القطاعات الإنتاجية والخدماتية الأخرى.

استغلال الموارد المحلية

التنمية شغل محلي، أو يبدأ محلياً. هي شغل ينطلق من بيئته ومن أجلها. وهذا يفترض الاستغلال الأمثل لموارد هذه البيئة. وهذا انطلاقا من القاعدة المركزية في التنمية التي تؤكد على الاعتماد على الذات. ويشترط استغلال الموارد كخطوة أولى مسح الموارد في المكان/الموقع وتصنيفها ووضع الأولويات لها.

إن الوحدة الجغرافية الأساسية للتنمية هي الدولة بعمومها. ولكن ليس شرطاً أن يتم مسح مصادر الثروة لعموم البلاد إلا إذا كان ذلك ممكناً. إنما لا بد من مسح دقيق لما هو متوفر في الموقع الذي يتم فيه النشاط التنموي. وتشتمل المصادر على المسح المجتمعي والثقافي والتمهيني والمواد الخام الموجودة والمنتجات المستقدمة من مناطق أخرى أو المستوردة وقدرة مجتمع الموقع على الاستهلاك ومدى تقبله للمنتج/ات المقصود توفيرها…الخ.

إن قراءة جدية للموقع من حيث أمكاناته ومتطلباته هي أمور حاسمة ومفصلية في نجاح النشاط التعاوني بما هو تحدٍّ لما هو قائم وبما أنه منطلق من مصلحة الأكثرية المجتمعية.

إنتاج الأساسيات

على ضوء توفر صورة دقيقة لمصادر الثروة والطاقة الاستهلاكية والمزاج الشعبي من حيث ثقافة الاستهلاك يتحدد أمر رئيسي آخر هو طبيعة المنتجات التي يجب أن يتم التوجه لإنتاجها. وهذه بالطبع هي الحاجات ألأساسية.

إن الشرط الذي يحكم إنتاج الحاجات الأساسية هو مدى ضرورتها الحيوية كمنتجات، ومدى القدرة على توفر المادة الخام اللازمة لها محلياً، ومدى التحكم بالاستفادة من مختلف مكونات هذه المادة الخام سواء المكونات الأساسية او المتبقية بعد مرحلة من التصنيع…الخ.

تكمن ضرورة وأهمية إنتاج الأساسيات في كونها تسد حاجات محلية تتطلبها الأكثرية الشعبية، وتحول دون دفع ثمن استيرادها من الخارج مما يستنزف الفائض المحلي، وتفتح فرصا لتشغيل قوة العمل المحلية في الموقع دون الاضطرار للتنقل بعيدا عن أماكن السكن، وتحقق الاستفادة من الثروات المحلية التي  يمكن في غياب تنمية حقيقية أن تصدر إلى الخارج كمواد خام ويتم استيرادها لاحقا كمواد مصنَّعة وبأسعار مجحفة.

الاعتماد على الذات

الاعتماد على الذات مرتكز أساسي في التنمية، وهي استراتيجيا وثقافة ومن ثم شعار يظل تحقيقه مشروطاً بوجود حركة تنموية واسعة الأفق مرتبطة بالبيئة وعلى معرفة ودراية حقيقيتين بطبيعة البلد وإمكاناته وموارده، والطاقات الممكنة لاستغلال هذه الموارد الاستغلال الأمثل. إن مختلف هذه الحلقات ضرورية لوضع استراتيجية ناجحة للاعتماد على الذات.

ربما يمكننا القول إن المستوى التثقيفي ودرجة القناعة حاسمتان في تبني ونجاح الاعتماد على الذات. فهذه المسألة ليست مسألة فنية أو حسابية  رياضية، ليست مسألة تقنية يمكن للمرء القيام بها نظراً لتخصصه العملي كتجارب المختبرات، بل هي حالة إنسانية، هي إيمان والتزام بالمجتمع ومصالحه وحقوقه. هي ثقة بالنفس والمجتمع والمستقبل، هي مستوى من المقاومة لما هو قائم لتغييره في خدمة الشعب.

الاعتماد على الذات ليس مشروطاً بقوة الذات وحدها، بل هو مشروط بالثقة بالنفس وبالمشروع وبضرورة التغيير. وإذا توفرت هذه العوامل فإنها هي قوة الذات أو تقوية الذات. والذات هنا جمعية لا فردية، الذات هي المجتمع هي فتح آفاق لانطلاق الناس بقناعاتها ورغباتها وإبداعاتها.

الفائض: التحكم به  وإعادة توزيعه

ألمشروع التنموي هو مقدمة موضوعية شعبية للاشتراكية على مستويي التثقيف والتنفيذ العملي. هو بالتعبير الغرامشي كسب “حرب موقع بعد موقع”.

إن التحكم بالفائض ومراكمته واستثماره داخل البلد هو نقطة الانطلاق لكل من النمو والتنمية اي ان هذا التحكم هو حجر الأساس للاقتصادين الراسمالي والاشتراكي على حد سواء من أجل التطور، بغض النظر عن مدخل كل من الراسمالية والاشتراكية وبغض النظر عن هدفهما من التطور  وتسخيره لخدمة اية طبقة. كل مجتمع في حركة، اي في عمل وإنتاج وما يتبع ذلك من توزيع وتبادل واستهلاك وادخار واستثمار…وهكذا.

لكن المشروع التنموي لا يتوقف عند حدود التحكم بالتراكم المالي الناتج عن العملية الاقتصادية في المجتمع، بل يَطال كل ما هو فائض أو ساكن من ثروات المجتمع. ففي القطاع الزراعي مثلا، هناك أراض كثيرة لم تطالها يد المصادرة الصهيونية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وهذه الأراضي لا يتم استغلالها من قبل مالكيها، اي انهم ليسوا معنيين حتى بالريع الذي يمكن تحصيله منها لو استخدمها آخرون. في هذه الحالة، فإن استغلال هذه الأراضي هي مسؤولية تنموية سواء لحمايتها من المصادرة الصهيونية أو لتشغيل من لا يعملون على اساس تعاوني، والمساهمة في تأمين الكفاية أو الأمن الغذائي.

هنا تغدو ثقافة التنمية والتعاون والاشتراكية تحت الاختبار، بمعنى أن هذا الشكل من الملكية الخاصة هو اقل من راسمالي، هو ثقافة تعطيل العملية الاقتصادية وتحويل الأرض إلى مساحات كسولة. وهذا يستدعي تغييراً في الوعي والقناعة لتوظيف هذه المساحات للخدمة العامة. وقد يكون هذا التوجه هو بداية للتثقيف بضرورة التأميم وتوزيع الأرض على الفلاحين على اساس تعاني.

حماية أم قطيعة أم فك الارتباط

تشتمل التنمية على استثمار الموارد المحلية والتحكم بالفائض وهذه مبادىء اساسية في التنمية. ولأنها كذلك فهي على نقيض حقيقي مع الراسمالية اي مع الأنظمة الاقتصادية الراسمالية التي تدعو وتعتمد على نقيض هذه الأطروحات. فالتنمية حماية للاقتصاد المحلي من الاستغلال الأجنبي ونزيف الفائض إلى الخارج، والتنمية تشجيع للإنتاج المحلي وخاصة للأساسيات بدل الاستيراد. وهذا مناقض لمصالح السوق الراسمالي العالمي الذي يعتمد الاستقطاب واحتجاز تطور بلدان المحيط.

وفي دعوات المركز الراسمالية لما يسميه حرية التجارة الدولية، فإنه يدعو ببلاغة مصطنعة إلى تخلي بلدان المحيط عن الحماية الاقتصادية ويتهم الحماية بأنها انغلاق وقطيعة مع العالم. وهذه دعاية وتزييف.

فالتنمية فيما يتعلق بالسوق العالمي تعني  مشروع فك الإرتباط والتبعية لهذا السوق، اي ضبط نزيف الفائض، والإبقاء على المبادلات التي لا غنى عنها، والتوجه قدر الإمكان للتبادل مع الاقتصادات الملاصقة والإقليمية والتي يمكن أن تشتري مقابل ما تبيع وان تبيع باسعار اقرب إلى قانون القيمة المحلي وبعيدة قدر الإمكان عن قانون القيمة العالمي.

صحيح أن الحماية وفك الارتباط هي مقومات استراتيجية عامة على مستوى الدولة. لكن نجاحها هو في حدود نجاح حركة التنمية في تعميق ثقافة الوعي بالاستهلاك أو الاستهلاك الواعي. وهذا يؤكد على أن الحماية الشعبية للمشروع التنموي سواء في بنيته الداخلية على الأرض او علاقاته الخارجية هي أمر مفصلي.

لذا، يمكن القول أن البدء بالوعي بالاستهلاك من اصغر دائرة تنموية هو أمر في غاية الأهمية للتربية على مفاهيم وقناعات واخلاقيات مختلفة ونقيضة لما هو قائم.

الأداة البشرية للتنمية:

من المفيد التمييز هنا بين فهمين للأداة البشرية. فالفهم الراسمالي يعني اهتمام السلطة الطبقية الحاكمة بالقوى البشرية وتهيئتها لما يسمونها التنمية المستدامة، اي المشروع الاقتصادي لراس المال لإعداد المواطنين ليكونوا ممهنين بما يخدم النظام الاقتصادي المسيطر.

أما الفهم الاشتراكي فلا ينطلق من اعتبار البشر أداة للمشروع التنموي بل صانعين لهذا المشروع على أن يُعدوا أنفسهم ليكونوا قيادة وقوة عمل للمشروع التنموي، وهذا ما قصدنا به ب :التنمية بالحماية الشعبية”.

ليس الناس جزءاً من المشروع التنموي بل إن المشروع التنموي لا شيىء بدونهم، إنه من صنعهم ومخصص لهم. وهذا يفتح على مسألة إعداد الناس أنفسهم لمشروعهم، اي بناء المشروع عبر الانتماء  له.

وموضوعة البشر والتنمية تفتح على ما أشرنا إليه سابقاً، في مسألة التخطيط والتنمية بمعنى أن التنمية البشرية ليست مسألة عفوية بل مسألة إعداد وتجهيز وتخطيط كي لا تتعثر العملية التنموية.

وفي حين أن حديثنا هذا عن التنمية على صعيد وطني عام، فإن هذا يجب أن لا يغيِّب أن التخطيط وإعداد القوة البشرية لنفسها لا تنطبق على التعاونيات الصغيرة  وحتى الصغيرة جداً. ليس هناك من فارق مبدئي في هذا الأمر سوى المتعلق بضخامة النطاق ومحدوديته.



[1] The Role of state in socialism to minimize the role of the law of value

“Therefore, with regard to the production of major products in the rural collective economy, the regulating role of decisive importance is still played by the law of planned development of the national economy. The law of value merely plays a secondary role. Only for products which are not important to the state and the people, those not included in the state plan or procured through contracts, are the level of prices and the magnitude of income of greater importance”. ..( Maoist Economics and the Revolutionary Road to Communism: The Shanghai Textbook, Banner Press, New York 1994 p.144-45)

“The state plan plays a primary and decisive role. The law is still useful, but it plays only a secondary and supportive role”( Maoist Economics and the Revolutionary Road to Communism: The Shanghai Textbook, Banner Press, New York 1994 p.p.145).

[2] “Marx, Capital, vol.1, p 169.

[3] Maoist Economics and the Revolutionary Road to Communism: The Shanghai Textbook, Banner Press, New York 1994 p.xix.