ندوة نقابة الصحفيين العرب الاميركيين
حين تحضر الانظمة ويغيب الوطن
مسعد عربيد[1]
لوس انجلس ـ كنعان
حرصت نقابة الصحفيين العرب الاميركيين منذ سنوات على عقد ندوات شهرية لمناقشة هموم الجالية والوطن واحياء الثقافة العربية والادب والشعر والتراث بكافة اشكاله كي تظل روح المغترب مواكبة لهذه الفعاليات في الوطن الام وعابقة بما تحمله من مخزون الوعي والذاكرة. الا ان الندوة الاخيرة التي خُصصت لمعالجة الاوضاع الراهنة في سوريا، وعلى الرغم من انها سلطت الكثير من الاضواء على الاحداث، كانت الاكثر خلافية من حيث زاوية تناولها للاوضاع في سوريا، واسلوب طرح وجهات النظر وما اعتراه من توتر.
وعلى خلاف ما شهدناه من وحدة الموقف ورص الصفوف في حالتي تونس ومصر، عكست الاوضاع في سوريا انقساماً عميقاً في مواقف المغتربين السوريين والعرب من التطورات في الوطن الاصل.
لقد توخت النقابة من وراء مثل هذه الندوات خدش السطح والتعمق في تحليل الاسباب والجذور من اجل استشراف رؤية مستقبلية لاوضاع الوطن تعين المغترب على فهم ما يحصل في وطنه، وتحديد مهامه في دعم بلاده، وإنارة دروب الغربة الحافلة بمخاطر الاغتراب والمجهول. إلا ان النقاش في هذه الندوة تمحور حول “سوريا ـ النظام” أي انه إنحصر في رؤية اشكاليات الوضع في سوريا من منظورين: الاول يعارض النظام ويطالب بتغييره، والآخر يدعم المطالب الشعبية ويجد في رغبة النظام في اجراء الاصلاحات وتحقيق المطالب الشعبية ما يبرر الترقب ودعم الحراك القائم. وبطبيعة الحال توترت الاجواء خلال الندوة نتيجة التباين الشديد في الاراء فعلا الصراخ بينما تم اهمال القضايا الجوهرية الكبرى التي تواجه هذا الجزء الغالي من الوطن الكبير: سوريا، وطناً وشعباً.
لم يساهم الحوار اذن في محاولة الاجابة على اسئلة المرحلة الصعبة والساخنة، ولم ترقَ الندوة الى هذا المستوى، فضاع المتحاورون في جدلٍ صاخبٍ إفتقر الى الحوار الديمقراطي الحر والقبول بالآخر واحترام التعددية في وجهة النظر رغم تشدق تلامذة “الجزيرة” ب”الرأي والرأي الآخر”، ومناداة بعض آخر بالاقتداء “بالديمقراطية الاميركية المثالية”.
لقد غاب عن النقاش العديد من الهموم والهواجس التي تقض مضجع المغترب أهمها:
1) أنه يتوجب على المغترب العربي ان يميز دوماً، وبغض النظر عن تجربته الذاتية وموقفه من النظام الحاكم، بين الوطن والنظام كي لا يقع بين سندان الاول ومطرقة الثاني.
2) ان الثورات العربية تحمل ضمن توليفتها ثورات مضادة.
3) أن المحاكاة والتعميم بين الثورات والانتفاضات العربية أمر خطير.
وسوف اقدم، كمغترب عربي في المهجر الاميركي، بعض التأملات في هذه القضايا بقدر ما يتيح لي المجال في هذه العجالة.
* * *
الوطن… الى أين؟
دون الدخول في مناقشة الاسباب والدوافع وبايجاز شديد نستطيع القول ان بلاد الشام كانت، منذ اواسط القرن التاسع عشر، اكبر مصدر للهجرة العربية الى المغترب الاميركي (شماله وجنوبه). وقد بدأت هذه الهجرة في حقبة الاحتلال العثماني لبلادنا واستمرت عبر الاستعمار الاوروبي (الانكليزي والفرنسي) لبلاد الشام التي جُزئت منذ اتفاقية سايكس بيكو ( 1916) الى ما يسمى الان: سوريا، لبنان، الاردن وفلسطين الواقعه تحت الاحتلال الصهيوني منذ عام 1948. من هذا الوطن، بلاد الشام، قدمنا كلنا: سوريون، لبنانيون، اردنيون وفلسطينيون (سوريون جنوبيون). لعل هذه الحقيقة، كانت الغائب الاول في تلك الندوة كما هي غائبة في حياة المغترب العربي. فالسوري حين يتكلم فانه يتكلم عن سوريا لا عن بلاد الشام، والفلسطيني عن فلسطين لا عن جنوب سوريا… وهكذا. ولا اقصد هنا التباكي على اطلال الماضي (وهي تهمة يواجهنا بها دوماً مَنْ يعادي واقع امتنا ويجافي تاريخها)، ولا اقصد بكل تأكيد توجيه اللوم الى اي من المغتربين العرب ابناء الجالية لانه لو اردنا ذلك لكنا كلنا ملامين دون استثناء. المقصود هنا وبدقة هو تشخيص واقع سياسي وجغرافي (بامتداداته القومية والاجتماعية) للحالة القُطْرية التي نعيشها منذ ان حلت التجزئة باوطاننا.
ليس غريبا ان ينمو المغترب العربي على هذا النحو وهو القادم من اوطاننا المجزئة حاملاً معه هذه ثقافة (عقلية) القُطْرية العربية ـ الاردن اولاً وفلسطين اولاً ولبنان اولاً… الخ ـ، أما أنظمة الدول القُطْرية العربية فقد عززت هذه الثقافة ورسخت قيمها مفاهيمها ولا أخالني بحاجة الى المزيد من الشرح او سرد الادلة، فهي كثيرة.
نشأ المواطن العربي في الوطن الاصل، واستمر بعد هجرته، حاملاً الولاء للدولة القُطْرية التي حسمت هويته وانتمائه ومصالحه: هوية القطر ومصلحة القطر او حتى الفئة الحاكمة او الزعيم الحاكم. هكذا اخذت اوطاننا ومغترباتنا تغلي على نيران الطائفية والمذهبية والقُطْرية الشوفينية.
إذا، ليس في الامر ما يلفت طالما ان المغترب العربي في المهجر، كما في الوطن الاصل، ليس سوى نتاجا للدولة القُطْرية (وانظمتها الحاكمة) ولعقلية التجزئة التي فككت أوصال الوطن الواحد، وفتتت هويته، ورمت بالمواطن في دهاليز الهويات والانتماءات القُطْرية والشوفينية والطائفية. لهذا، ولغيره من الاسباب، غابت بلاد الشام عن تلك الندوة وعن حياة المغترب، فضاع الوطن الحاضن للهوية العربية القومية الجامعة لابناء الوطن الواحد.[2] وعندما تتزعزع الهوية، تتفكك ركائز الشخصية القومية ومقوماتها، وتهتز أركان المواطنة. وفي هذا المغترب، تعصف رياح الاغتراب وتتلاطم امواج البعاد وتتصادم مع محاولات التكيف والتعايش “والاندماج”. وفي هذا كله، تتشوه هوية المغترب وكثيراً ما تتلاشى.
الا انه، وعلى الرغم من صحة هذا التشخيص في عمومياته، فقد ظلت سوريا شعباً ومجتمعاً ودولة، متمسكة بالهوية القومية العربية عبر عقود القرن العشرين، وخلال الحكومات والانظمة التي تعاقبت عليها منذ الاستقلال عن فرنسا، بما فيها العقود الاخيرة التي شهدت حكم حزب البعث العربي الاشتراكي. وليس في هذا محاباة لهذا النظام او ذاك، بل هو إقرار بواقع موضوعي تشهد عليه يوميات الشعب العربي في سوريا. وقد تجلت هذه الهوية في تربية وثقافة قومية نشأت عليها الاجيال في سوريا جيلاً بعد جيل ابتداءاً من البرامج التدريسية في المدارس والجامعات وفي التربية الوطنية العامة وانتهاءاً بالاعلام وكافة جوانب الثقافة الشعبية السائدة. هكذا نشأ السوري على انه عربي الهوية والانتماء والمصير.
الثورة والثورة المضادة
مهما تعددت الآراء والتفسيرات، فلا شك ان اوطاننا تعيش، كما نعيش نحن معها، لحظة في التاريخ غير عادية، بل هي وقفة عز متميزة، لحظة ثورية بامتياز. إلا ان قراءة الحدث، كما قراءة التاريخ، ليست تغنياً بامجاده وانتصاراته، ولا تباكياً على الضحايا البريئة، على اهمية هذين الامرين، بقدر ما هي استقراء للقوى المتصارعة فيه والمفاعيل التي تقف وراء حركة التاريخ وتدفع به دوماً الى الامام والى الأفضل. ففضلاً عن التقاط اللحظة الثورية للشعوب العربية، ينبغي علينا ان نعي الثورة المضادة وقواها ومكوناتها.
في غمرة النشوة بانتفاضات الشعوب العربية في تونس ومصر واليمن والبحرين وليبيا… وغيرها، وفي حمأة الانشغال بيوميات حراك الشارع العربي والمتابعة التوّاقة على مدار الساعة في زمن الانترنت والفضائيات وعصر “الجزيرة”، يقف المغترب العربي متعطشاً ومشدوداً الى الحدث ومتعلقاً بحذافير تفاصيله وحيثياته. وهنا يتميز المغترب عن المواطن العربي في الوطن الاصل من حيث البعد الجغرافي والحنين للوطن فنراه يزداد التصاقاً بالشاشة، شاشة الانترنت او الفضائيات، منتظراً “الخلاص” كالغارق الذي يتعلق بقشة النجاة.
الا ان الفضائيات وغيرها من وسائل الاعلام ليست مصادر موضوعية ولا موثوقة في مصداقية الخبر او التحليل من حيث انها أدوات للانظمة الحاكمة اينما كانت وآلياتها في التلقين والتسويق الايديولوجي والسياسي. فهي لا تنير درب الخلاص للمغترب العربي، ولا تطلعه على ما يتم طبخه وراء الكواليس من اجندات ومخططات الثورة المضادة.
يخطىء كل من لا ينتبه الى انه في مواجهة كل ثورة، عبر التاريخ البشري، عربية كانت ام غير عربية، وسواء حدثت في الالفية الثالثة او الاولى، هناك ثورة مضادة. هذه الثورة المضادة هي في تيقظ مستمر وتأهب تام وجاهزية كاملة، تراقب بدقة وديناميكية كل ما يدور حولها. والثورة المضادة ليست سراً ولا مؤامرة وإن كانت خفية في بعض تفاصيلها. فالغرب الراسمالي تاريخياً وتحديداً بعد ان تولت زعامته الولايات المتحدة الاميركية في اعقاب الحرب العالمية الثانية، لم يخفي يوماً مصالحه ومواقفه ولم يوارب في انه يعمل بدأب وتخطيط علمي طويل الامد من اجل تحقيق هذه المصالح والحفاظ عليها. اما مصالح هذا الغرب في بلادنا فارجو اعفائي من مهمة التكرار والشرح، فالكل يعرفها: هيمنة تامة على مواردنا ومستقبل شعوبنا والحؤول دون وحدة هذه الامة، مهما طال الزمن، ومنعها من استرداد قوتها وإحتجاز تنميتها وابقاء شعوبها في حالة تخلف وفقر وخضوع لانظمة طاغية ومستأثرة بالحكم.
الثورة المضادة بزعامة الولايات المتحدة، وبامتدادتها المحلية والدولية، وادواتها الداخلية والخارجية، وعلى كافة مستويات حراكها (السياسية والاقتصادية والعسكرية والمخابراتية والامنية والثقافية)، هي دائماً متحفزة لاجهاض حركة الشعب، وإذا ما تعذر عليها الامر، فتطويق ثورته واحتواء حراكه وحرفه عن مسار التغيير الجذري. الثورة المضادة لا تتوقف عن مواجهة الثورة مواجهة شاملة ومستمرة وتتحين اللحظة المناسبة لضربها بكافة الاساليب والوسائل بما فيها زرع الفتنة بين صفوفها واختراقها من خلال اعمال الشغب والتخريب وتحريض المواطنين بعضهم على بعض وترويع الآمنين. إلاّ ان تخريب الوعي يظل من اولويات عملية الاختراق هذه عن طريق نشر الاخبار الملفقة وفبركة الاحداث وبذر الشعارات التي تلهينا عن اهدافنا الوطنية والقومية ـ الوحدة القومية العربية والتنمية الاقتصادية والاجتماعية لشعوبنا والتكامل والديمقراطية الشعبية والحرية والانعتاق من كافة اشكالا الاستغلال والقمع والظلم ـ والتي (الشعارات) تدفع الوجدان العربي لتبني لغة لا تمت بصلة لواقع الشارع ومتطلباته وهواجسه. وقد تكررت مثل هذه الشعارات في مشاهد عدة في الحراك الشعبي الذي ساد بلادنا في الاشهر الاخيرة.
كيف لا وأوطاننا مخترقة على كافة الجهات: الامنية والسياسية وحتى الثقافية!
كيف لا واعداؤنا في الداخل لا يقلون خطراً وغدراً عن العدو الخارجي وهم المندسون بيننا والمزروعون في شوارعنا وبيوتنا وبين أهالينا !
مخاطر المحاكاة والتعميم
عندما نقول ان تجزئة الوطن العربي قد خلقت دولاً وانظمة قُطْرية تابعة للغرب الراسمالي ـ الامبريالي الذي يرعاها ويمولها ويمدها بوسائل الحياة والبقاء، فاننا لا نتحدث من الحدود السياسية بين الاقطار العربية فحسب، بل نشير ايضاً الى حقائق موضوعية وتاريخية تؤكد لنا كل يوم ان هذه التجزئة قد خلقت اوضاعاً وانماط انتاج اقتصادية مادية وملموسة وطرائق عيش وانظمة حكم متمايزة في شتى اجزاء الوطن الكبير. وعلى الرغم من أن يوميات شعوبنا تؤكد ان الخصوصيات والتمايزات بين اجزاء الوطن الكبير لا تنفي المشترك الهائل بين شعوبنا ومقومات وحدتها وهويتها القومية، فان هذا يتطلب منا دراسة هذه الخصوصيات والتمايزات دراسة جدية بمهارة علمية كفيلة بتحليلها وفهمها واستيعاب تداعياتها على حاضرنا ومستقبلنا.
وعليه، فان إسقاط تعميم ما يحصل في بلد عربي ما، مثل تونس ومصر، على البلدان العربية الاخرى، مثل سوريا او الاردن او البحرين وتعميم الاحكام والنتائج التي حققتها ثورة شعب ما يمكن ان تودي بنا الى اخطاء فادحة واستنتاجات مغالطة:
1) قراءة مغلوطة وغير دقيقة ومخالفة للواقع بسبب القفز عن اوضاع وخصوصيات بلد ما ولعل سوريا تمثل نموذجا على هذا.
2) ان الانظمة العربية، وعلى الرغم مما يجمع بينها من مشتركات كثيرة ـ من حيث النشأة والتبعية للغرب الراسمالي، وحروب الظلم والقمع التي تشنها ضد شعوبها، ومن حيث انها سلطت نفسها فوق رقاب شعبنا من دون انتخابات حرة ولا إختيار شعبي، ومن حيث ان بعضها سعى الى توريث الجمهوريات ناهيك عن المملكات والمشيخات التي إبتلينا فيها ـ هذه الانظمة وبالرغم من كل هذا، تتسم بخصوصيات نوعية وهامة يستحيل من دونها فهم النظام وبالتالي التعاطي معه.
إن ظاهرتي الاسقاط والتعميم والتي يقع فيهما الكثيرون في الوطن الاصل وفي المهجر، تدفع بنا الى مناقشة العديد من الحجج و”المسلمات” في الاشهر الاخيرة. فعلى سبيل المثال، ليس صحيحا ان الثورة قد اصبحت “تقليعة” في الوطن العربي على الرغم من انها هزت التاريخ الى غير رجعة واطاحت بانظمة طال حكمها وظلمها. فالثورة، في معايير التاريخ وتجارب الشعوب، ليست عدوى جرثومية، تنتقل من بلد الى بلد وبهذه الوتيرة المذهلة. ومع ذلك، فكلنا متفقون أن الاوضاع في كل البلدان العربية دون استثناء ـ المعيشية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والامنية والاحوال الشخصية وغياب العدالة الاقتصادية والاجتماعية وقمع الحريات واغتصاب الحقوق الشخصية والجمعية والمدنية ـ إنما هي حبلى بما يولد انفجارت وثورات وتغيرات جذرية تقتلع الظلم والفقر الى غير رجعة. فالى متى يظل العربي في كل اجزاء هذا الوطن دون استثناء ضحية الإفقار الاقتصادي والمعيشي والقمع الامني والسياسي ؟
لا يحتاج واقعنا الى اوباما او هيلاري كلينتون او ممثلي الاتحاد الاوروبي لكي يشرحوه لنا او يلقنونا ماذا نفعل، فنحن أدرى باوضاعنا ومصالحنا وحقوقنا. لسنا بحاجة “لنصيجة” او تدخل اية قوة غربية لكي تصلح من شؤون اوطاننا على الاطلاق مهما كانت درجة الانحراف او التخلف فيها. فالاصلاح أمر، اما التدخل الخارجي فهو أمر آخر تماماً لان الاصلاح والتغيير ينبعان من ارادة عربية ويتحققان على ايدٍ عربية من بين صفوف شعبنا وأهلنا وبادوات اصيلة من واقعنا . ومع ذلك، لم نسمع عربياً يخرس هؤلاء ويرد على دجلهم وكذبهم و”حرصهم” على “الاصلاح والديمقراطية” في بلادنا.
خلاصة القول، انه لا يجوز القفز عن خصوصيات الوضع في كل بلد، فلا بديل إذن عن دراسة كل ثورة عربية على ضوء قراءة موضوعية وهادئة لواقعها وظروفها وخصوصياتها. ومن هنا، فان اكبر مخاطر الإسقاط والتعميم، هو تقديم هذا الفهم الجامد والمستنسخ للحدث وتغليفه باغراءات المتابعة المتواصلة واللهاث وراء “خبر عاجل” وبريق التفاصيل “المثيرة” (التي تبعث في الحقيقة على الغثيان في تكرارها الممل وفبركتها المكشوفة، ولعل فضائية الجزيرة خير مثال على ذلك). يكمن خطأ هذا النهج وخطورته في التعميم في انه يعوم فوق سطح الحدث من دون الغوص في عمق الاسباب والجذور، فيلهينا عن التقاط الحقيقة وكثافة اللحظة التاريخية. ولعله من المفيد هنا أن نلتفت الى ان هذا النهج التعميمي انما نجح، خصوصاً بين المغتربين العرب، بفضل عوامل عديدة أهمها:
1) وهن الوعي واختلال المفاهيم الاساسية في فهم التاريخ والسياسة.
2) الكسل في استقصاء الحقيقة والبحث عن الاسباب.
3) عوامل البعد الجغرافي والابتعاد عن الواقع اليومي.
4) تساهم هذه العوامل في سيطرة وسائل الاعلام وفضائياته على عقولنا وصياغة رؤيتنا للحدث وفهم حقيقته وخلفياته.
هكذا، اذن، ننشدّ الى رؤية الحدث وتفسيره من خلال عملية، واعية وغير واعية، تنزع الى المحاكاة والبحث عن اوجه التشابه من اجل إستنتساخ تجارب الثورات المختلفة والتطابق فيما بينها، وهذه رؤية لا تؤدي في الواقع الا الى خلط الاوراق والوصول الى تحليلات مغلوطة وسيئة واستنتاجات خاطئة وواهمة.
في هذا الخلط، تصبح ثورة مصر على سبيل المثال “نسخة” عن سابقتها في تونس، ثم ننتقل الى إستنساخ النموذج ذاته ونسقطه عنوة على الحالة الليبية، فالسورية، فاليمينة…، دون ان نكلف انفسنا عناء التفحص والدراسة وإثارة الاسئلة لفرز الوقائع الموضوعية والخصوصيات والتمايزات مما يوقعنا في الكثير المغالطات.
ألم ترى أغلبيتنا ان الحالة الليبية ضد حكم الطاغية القذافي تحذو حذو “ثورة الشباب” في تونس ومصر؟ ولكن اين نحن من تلك الانطلاقة الآن بعد مضي سبعة اسابيع؟
ألم نطبق “قانون التعميم” ذاته على سوريا منذ انطلاقة الحراك الشعبي في احداث درعا دون ان نرى اصابع الاختراق والتدخل الخارجي (المتعدد الجنسيات إن جاز التعبير) ودون ان نرى سمات الواقع السوري، وهنا اقصد سوريا الشعب والوطن والموقف القومي والدور الاقليمي والرسالة التاريخية؟
كيف سمحنا لانفسنا أن نتنكر لواقع سوريا المتميز من حيث التربية القومية للشعب السوري وذاك الموروث القومي والموقف الصامد على مدى نضال القرن العشرين ضد الكيان الصهيوني والمشروع الاميركي ـ الصهيوني في الهمينة على أوطاننا؟
كيف أغلقنا عيوننا عن واقع سوريا ومواقفها ودروها، وامتدادات هذا الدور على الساحات اللبنانية والفلسطينية (القضية الفلسطينية)، وهي كل ما تبقى لدينا في الحاضر وفي المستقبل المنظور من مساحات المقاومة والصمود؟
وكيف كان لنا ان نغض الطرف عن دور سوريا في الممانعة وفي مناهضة المشروع الامبريالي الاميركي ـ الصهيوني الهادف الى تركيع المنطقة باسرها، وعن رؤية المساعي السورية في التحالف مع ايران والتقارب مع تركيا من المنظور ذاته ومناهضة المشروع ذاته؟
كيف تعامينا عن مخطط الغرب الراسمالي والكيان الصهيوني وتواطؤ انظمة الرجعية العربية في ضرب سوريا، شعباً ووطناً ونظاماً، من اجل بسط الهيمنة الاستعمارية وضمانة أمن الكيان الصهيوني ومشروعه؟
لم نستشرف، بل لم نسأل، ما هي نتائج وتداعيات انهيار سوريا على المنطقة باسرها ومستقبل شعوبنا، وسوريا هنا هي الوطن والشعب والموقف الصامد والارادة في الممانعة والمقاومة ومناهضة المشروع المعادي. وفي هذا كله، لم نسأل السؤال المركزي: كيف ترى اميركا واسرائيل هذا كله؟ وفي حين ترتعش فرائص الكيان الصهيوني من كل ما يهدر به الشارع العربي، فاننا ندير رؤوسنا الى الاتجاه الآخر.
سوريا … الى اين؟ ما البديل؟
تقف سوريا اليوم على عتبة عهد جديد، مرحلة جديدة بكل المقاييس. ليس في هذا تقويلاً للاحداث ولا إسقاطات رغائبية من وحي الحلم والتمني. ليس في هذا رومانسية ثورية ولا افراطاً في التفاؤل، ويقيناً ليس توهماً ببريق الحدث وتكنولوجيا الفضائيات. سوريا لن تعود الى الوراء. لقد خطى الشعب السوري الى الامام، ولن يسمح للتاريخ أن يعود به الى حيث كان. فما هو البديل؟
على الرغم من صعوبة الاجابة وتشابكها، كان حرياً بنا ان نبذل الجهد في إستشراف البديل.
المعارضة السورية؟ تُرى ما هي؟ واين هي؟
هل هي تلك المقيمة في حضن الغرب، تخطيطاً وتمويلاً؟ وهنا يصرخ فينا السؤال: ألم نتعلم من دروس العراق الحبيب؟
هل هي معارضة عبد الحليم خدام واعوانه خارج سوريا وداخلها؟
هل هي الاخوان المسلمون في شتى امتداداتهم في الساحة السورية وخارجها؟
لقد اطلقت الحكومة السورية في الايام الاولى بعد احداث درعا سراح المعتقلين السياسيين وجلهم من المعارضة الشريفة التي ناضلت داخل سوريا من كتاب ومفكرين ونشطاء وقادة سياسيين وحزبيين، وهم الآن أحرار منخرطون في اللحظة التي طالما انتظروها، عملية الاصلاح والتغيير ومستقبل سوريا.
وخلافاً لانظمة الحكم في مصر وتونس وليبيا واليمن، تجاوبت الحكومة السورية لحركة الشارع وأبدت قابلية للتعامل مع مطالب الشعب وتنفيذها ضمن افق زمني معين، فوعدت بالغاء قانون الطوارىء في غضون اسبوع على ابعد تقدير وسن قانون جديد للاحزاب عبر إستفتاء وطني يفتح الباب امام التعددية السياسية والحزبية … وغيرها من المطالب الشعبية.
في وجهة هذه التغييرات وتجاوب النظام السوري مع مطالب الشعب وتعاطيه الفوري معها، ماذا يكون موقفنا؟
هل نغض الطرف عن كل ما يجري لاننا لا نثق بالنظام لانه وعد في السابق ولم يف بوعوده؟
في هذه اللحظات الباكرة من الفجر الجديد ـ فجر التغيير ـ هل نشدد من حراك الشارع الشعبي وندفع به الى التمسك بمطالبه حتى تحقيقها، أم نغرق البلد في فوضى التخريب؟ هل نشد على ايادي اهلنا في سوريا ونآزرهم في نضالهم ام نحرق البلد في نيران الفتنة وترويع الاهالي الآمنين؟ هل نذبح الوطن على مذبح التخريب والبديل ما زال مجهولأ والاصلاحات ما زالت في بدايتها؟
هل نتنازل عن الوطن ونتخلى عنه؟ هل نسلمه ضحية والى مَنْ؟ الى المجهول، أم الى اميركا واسرائيل، ام الى الحريري وبندر؟
الفصل بين الذات والوطن
مهما بلغنا من الموضوعية، فان التجربة الشخصية وتجارب الأهل والاحباء، تبقى جزءاً من تكويننا العقلي والنفسي وتشكل عاملاً هاماً في مواقفنا في الحياة والمجتمع والسياسة.
ربما تلك هي الطبيعة البشرية. ولكن ان تصبح التجارب الشخصية او مصلحة الفرد او الاسرة معياراً للموقف من الوطن والهوية، او للحكم على نظام سياسي او اجتماعي ما، فان هذا سيؤدي حتما الى دروب متعرجة واستنتاجات خاطئة. فحين يعجز المرء عن الفصل بين الذات والوطن، وبين المصلحة الفردية ومصلحة الشعب، تضيع المصالح والهموم العامة وتتغلب المصالح الشخصية على مصالح الوطن والشعب، فتكون الكارثة.
لقد كانت هذه الظاهرة جلية في هذه الندوة حيث أسقط البعض تجاربهم ومعاناتهم الشخصية قبل رحيلهم عن سوريا، وهي معاناة لا يستخف بها احد، أسقطوها على المرحلة التي تمر بها سوريا اليوم وعلى مجمل الحراك الشعبي في ذلك البلد.
تكرار المسلمات… لماذا؟
هدرت الندوة الكثير من الوقت في تكرار المسلمات. فالكل متفق ان الانظمة العربية، دون استثناء، انظمة قمعية. فالنظام السوري لم يلد ديمقراطيا من رحم انتخابات شعبية حرة، وكذلك الامر مع الانظمة العربية الاخرى، بل وفي اغلب بلدان العالم الثالث في آسيا وافريقيا واميركا اللاتينية التي رأت نور استقلالها وتحررها في النصف الثاني من القرن العشرين. وهنا لا استخدم التاريخ للتبرير بمقدار ما اقصد تجليس المسألة في سياقها التاريخي والموضوعي، وللتأكيد على ان مطالب الشعب السوري في الاصلاح والتغيير ليست موضوع خلاف او نقاش. لذلك لم يكن هناك حاجة لتكرار هذه المسلمات وكان الاجدى بنا ان نصرف الوقت في مناقشة الاشكاليات الاكثر اهمية وتعقيداً. فليس بيننا من يعارض مطالب الشعب السوري والكل متمسك بها ومدافع عن تنفيذها.
الاصلاح … الممانعة والمقاومة.. هل من تناقض؟
هل يتناقض الموقف القومي لسوريا، موقف الممانعة ودعم المقاومة ومناهضة المشروع الاميركي ـ الصهيوني في المنطقة، مع مطالب الشعب السوري في الاصلاح والتغيير؟ وكيف؟ هذا هو لب المسألة.
صحيح ان الانظمة الحاكمة كثيراً ما تستخدم حجة تماسك الجبهة الداخلية والوحدة الوطنية في مواجهة المخاطر والتهديدات الخارجية، كذريعة لقمع الشعب وخاصة الطبقات الشعبية الفقيرة والكادحة ومن أجل كبت حرياتها واغتصاب حقوقها. إلا ان تاريخ الصراع العربي ـ الصهيوني ينبأنا بالعكس. فكلما اقترب النظام من الشعب وعبر عن مصالحه وعمل على تحقيق مطالبه في الحرية والعيش الكريم والعدالة الاجتماعية والاقتصادية، كلما وقف الشعب بكل قواه داعما للنظام في صراعه مع الكيان الصهيوني والمشاريع والمؤامرات الاميركية ـ الصهيونية التي تحاك ضد امتنا.
ألم يكن وقوف الشعب المصري بكل قواه مع النظام الناصري في العدوان الثلاثي عام 1956 مثالاً على ذلك؟
وبالمثل، ألم يقف الشعب السوري طيلة العقود الاخيرة داعماً لموقف بلده من الكيان الصهيوني ومن المقاومة العربية في فلسطين ولبنان؟
المطلوب اذن هو ربط النضال من اجل مطالب الشعب السوري العادلة والتي طال انتظاره لتحقيقها، بموقف سوريا القومي في الممانعة والمقاومة ومناهضة المشروع الامبريالي ـ الصهيوني، وفي تدعيم وإسناد الموقف السوري ضد العدو الخارجي والتدخل الغربي. واذا كان الاصلاح والتغيير هو انجاز لمطالب الشعب فانهما ايضاً، ومن المنطلق ذاته، ضمانه لصمود الموقف السوري ووحدة سوريا الوطنية وتماسك لحمة شعبها.
[1] كَتبتُ هذه المقالة من وحي حوار دار في ندوة لنقابة الصحفيين العرب الاميركيين عقدت في اواسط نيسان 2011 لمناقشة الاوضاع الراهنة في سوريا. وقد توخيت من كتابتها تقديم إضاءات على هموم وإشكاليات المغترب العربي في المهجر الاميركي وبعض القضايا الهامة والتي لم تحظى بما تستحقه من اهتمام في تلك الندوة.
[2] اخص بلاد الشام هنا لسبب واحدٍ وهو ان سوريا هي موضوع هذه المقالة، مع حرصي على تأكيد إيماني بوحدة الوطن العربي الكبير من المحيط الى الخليج ووحدة شعوبه في قومية وأمة عربية واحدة.