الثورة والاختراق والتجسس

الثورة والاختراق والتجسس (الحلقة الثانية)

البُعد الطبقي للثورة المضادة:

قراءة طبقية في الاختراق والتجسس

عادل سمارة

ملاحظة: خلُصت الحلقة السابقة إلى أن الغرب الراسمالي كعدو يخترق مجتمعاتنا بالديمقراطية التي فقدت محتواها التقدمي وغدت هي نفسها محتجزة بعدوانيتها. نناقش بعد هذا آليات الاختراق المحلية الداخلية العربية التي ينفذ منها العدو بل تستدعيه. إن ما يلي دخول في البُنى المضروبة سواء الطبقية والدولانية وحتى الفردية، حين يغدو الصراع بين وطني ولا وطني، تغدو كافة الأسلحة مشروع إشهارها.

لم تتمهل الثورة المضادة طويلاً لتقفز إلى الاشتباك. وهو أمر بهر الكثيرين فلووا أعناقهم احتراماً لها وانبهاراً بها وخلطوا بين الحراك الشعبي وبين حراك الاختراق بالوعي أو السذاجة. ما اكثر وأخطر عديمي الوزن في السياسة والصراع القومي والطبقي، وحدهم يمشون على الماء بلا غرق، ويطيرون في الهواء بلا اجنحة. هؤلاء جزء من السوق، فإما أن يبيع  وإما أن يُباع، وفي السياسة لا فرق. وأخطرهم من يضع المقاومة والممانعة في صف أنظمة الاعتراف بالكيان وصالات النفط ليُري الناس بأنه “جذري بالمطلق”.

لا يمكنك أن تكون محايداً في قطار متحرك“-(هاوارد زِن) المؤرخ الراحل الأبيض الذي وقف حياته لصالح السود والهنود في بطن معقل الإمبريالية فالعولمة. كيف تُحايد في وطن يُستباح استباحة معولمة! من الخارج المدفع والدولار اي الاختراق،  ومن الداخل النفط والأعراب !

ليس حقيقياً الزعم أن كل ثورة في قُطر عربي مختلفة عن الأخرى ولا متطابقة مع الأخرى، وهذا يستدعي قراءة دقيقة وحذرة. وهو ما تدركه الثورة المضادة ايضاً فتعمل على صعيد الوطن بأسره من جهة وتخصص لكل قُطرية أدوات تخريب من جهة ثانيةً. ولكن، يصح القول أن الطبقات الشعبية العربية والوسطى كذلك لا تختلف دوافعها وأهدافها في تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا والبحرين والآتيات الصالحات كذلك، بمعنى أنها متقاربة إن لم نقل متشابهة الأوضاع من حيث موقعها في العملية الإنتاجية، وفي التهميش عن العملية الإنتاجية وعن السياسة، ومتشابهة متقاربة من حيث الفقر والمعاناة من الفساد وسرقة جهدها. وفي الوقت نفسه، فإن تحركها دليل درجة من الوعي السياسي الاجتماعي الذي يقارب أن يغدو وعياً طبقياً. حين نقول بهذا، نفهم لماذا تتحرك وتتقارب، نفهم ما يجمعها وما يدفعها. ولكن علينا أن نفهم كذلك، اختلافاً معيناً في مساراتها، فقيادة الجيش المصري لم تخرج على النظام (وخاصة راس المال الطفيلي والمافيوي) ولا عن علاقته بالولايات المتحدة ولكن أدركت في الوقت نفسه أن التصدي المباشر للشعب لن يُسعفها، والأمر نفسه في حالة قيادة الجيش التونسي. أما الجيش اليمني فانشق بين النظام والحراك الشعبي، وربما كانت البنى القبائلية وراء ذلك، وكان الانشقاق في الجيش الليبي ضعيفاً في حين لم ينشق الجيش السوري. لماذا ذكرنا الجيش وهو ليس الخصوصية الوحيدة بين قُطْرية وأخرى، لأن الجيش بعد التجويف والتجريف على مستوى كافة القُطريات العربية هو إحدى القوتين المنظمتين الوحيدتين المسوح بهما والمسموح لهما.

ولكن، ما هو التشابه، بالمفاهيم الطبقية والاجتماعية لقوى الثورة المضادة التي تشن على الأمة هجمة قاتل أو قتيل؟

ما الذي يجمع الشيخ يوسف القرضاوي[1] (إسلامي سُني وهابي ورئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين) مع هنري برنار ليفي (يهودي ماوي سابقاً، وصهيوني فرنسي اليوم) مع برهان غليون العلماني في فرنسا، مع أردوغان الإسلامي المتغربن الذي يمثل مصالح برجوازية قومية طورانية صاعدة تحلم بمشاركة الغرب في إستعمار الوطن العربي في تقاسُمٍ صاغه المركز والصهيونية ويتمسك بالعلاقة مع الكيان الصهيوني الإشكنازي، مع قيادة الإخوان المسلمين الذين يرفعون راية الإسلام وينسقون خطاهم مع الولايات المتحدة موئل الصهيونية والمحافظية الجديدة التي تجهز لمعركة مجدو، مع حزب التحرير الإسلامي الذي لم يرمِ على الكيان وردة منذ عام 1948، ويطالب بإعادة الخلافة لتركيا رغم أن الرسول الأكرم أكد الخلافة للعرب ولقريش تحديداً، إلا إذا كان أرطغرل من أحفاد هشم بن عبد مناف، مع عزمي بشارة وأدواته السرية والعلنية في أرض الاحتلال الأول 1948 والثاني 1967[2] عضو الكنيست الشيوعي سابقاً والقومي لاحقاً والذي خرج في بعثة تبشير تطبيعي إلى قطر، مع الجناح المدرَّب أميركياً من شباب الفيس بوك[3] للمطالبة ب “الديمقراطية” الغربية، مع صفوت الزيات الذي يفبرك الصراع العسكري على الأرض طبقاً للمبلغ المدفوع دون حَمِية قومية،  مع الأمير تركي[4] بن عبد العزيز وبندر بن سلطان، مع عبد الحليم خدام مع خليفة حنتر قائد متمردي ليبيا وعميل أل سي. آي إيه كما تقول أميركا نفسها، مع المجموعات الرثة التي تجندت للتخريب والاغتيال في ليبيا وسوريا وربما لبنان، مع ماركسيين كانوا يسمون هذه المجموعات بروليتاريا ثورية وإذا بهم ينسبون الحراك الشعبي في سوريا لهؤلاء، مع  فقراء الطوائف الذين تمتطيهم برجوازياتها كل عمرهم فيَقتلون ويُقتلون ليأكلوا، مع اللبراليين واليساريين سابقاً من موائد منظمات الأنجزة وخاصة النسويات  اللواتي يزعمن التحرر والعلمانية وحتى الإلحاد؟ من يجمع كل هؤلاء مع قناة الجزيرة[5] التي بنت سمعتها على النقد المالح/الفاضح لأنظمة تشترك هي معها في سيدها الأميركي البريطاني، وما يجمعها مع جامعة الدول العربية التي استنجدت التدخل الغربي لتدمير ليبيا؟

ما الذي يجمع هؤلاء؟

لا يمكن وصفهم ب طبقة لأن تنوعاتهم ترفض ذلك سواء من حيث طبيعة العمل فمنهم من هو عاطل عن العمل بالمطلق ومنهم من يعيش على ريع بالمليارات، ومنهم الفيلسوف ومنهم من يُلقي بكتب بغداد الرشيد في النهر ويحرق مكتبة الإسكندرية، ومنهم من يؤكد أن الله طلب من المسلمين مقاتلة اليهود إلى يوم الدين ومن يتعايش مع المستوطنين في الكيبوتسات، ومنهم من يخطب علانية ضد التطبيع ويتغزل سراً بالمطبعين. قد يجمعهم أنهم جميعاً يتعيشون على المال السياسي، على ريع دورهم المضاد للأمة العربية وبالطبع للاشتراكية، لكن السيولة المالية وتشابه مصدرها لا تخلقان حالة طبقية؟ فماذا نسمي هؤلاء؟ صحيح أن هؤلاء ناقلات للاختراق الغربي الراسمالي، وصحيح أن درجات وعيهم لذلك متفاوتة، ولكنهم جميعاً يعلمون ما يفعلون ولا يندمون. وصحيح انهم أفراد وحتى مجموعات مبعثرة، ولكن دورهم في التخريب وخدمة العدو يمكن ان يهدم أنظمة وطبقات ويودي إلى ضياع.

بهذا المعنى، فإن التحليل الطبقي بالمعنى الكلاسيكي لا ينطبق على هذه الحالات. فهم ليسوا نتاج نمط إنتاج واحد ولا حاملين ولا محمولين على نمط إنتاج، ولا حتى نمط الإنتاج الراسمالي الحالي. كما انهم ليسوا توليد تشكيلة اجتماعية اقتصادية واحدة، فهم إما من بلد راسمالي متقدم في التطور والنهب (فرنسا بريطانيا والولايات المتحدة)  “ومتطورة جداً بشأن المرأة لدرجة عرض جسدها “لحماً” على الفضائيات وإما من بلد كالسعودية أو قطر تعيش على ريع النفط والغاز، لا تقلق في الأمن الغذائي ولا الأمن الوطني ولا السيطرة على السوق المحلي كما هو شان الأنظمة البرجوازية، تحكمها عائلة وبسيطرة ابوية /بطريركية تغتصب النساء أكثر مما تتزوجهنَّ وفي الحالتين لا تتحرك المراة خارج غرف المخادع!.

وإذا كانت الطبقات تُفهم عبر علاقات الإنتاج، دور الناس في هذه العلاقات، اي باكثر حتى من دورهم (كما يرى البعض) في ملكية أدوات الإنتاج، فإن هؤلاء جميعاً طفيليون، بدءاً من الشيخ القرضاوي وصولاً إلى أي مرتزق منهم يعيش بدوره في خدمة نظام حكم أو مخابرات وحتى “سِمانْ الخليج” الذين جعلوا تلك القُطريات بلا إنتاج ومن ثم بلا علاقات إنتاج، وحصروا الأمر في الوقوف على باب بئر النفط، ليأخذوا دولاراً ويعطوا الشركات الأجنبيةعشرة! أما الريع الذي يحصله هؤلاء الحكام في الخليج، فيُعاد غالباً إلى المركز الراسمالي، ليُنفق بعضه على شريحة جديدة في العالم والوطن العربي منها موظفي الأنجزة على شكل عائدات غير منظورة، لا علاقة لها بالإنتاج  بل بخدمات تزعم التنمية وتولد التبعية الممنهجة وخاصة للديمقراطية الرأسمالية الغربية. تحقق هذه الجماعات واولئك الأفراد من البلطجي حتى الفيلسوف ومن الشيخ السلفي حتى الشيوعي التابع الذي يكره القومية العربية دون ان يفهمها، يحقق هؤلاء دخلاً لم يتأتى من إنتاج مادي ملموس قام به هؤلاء، وهذا ما لا يخلق بينهم اي مستوى من التماسُك ويجعلهم أدوات لمن يدفع لهم، وهذا سر تماسكهم.

وإذا صح زعمنا أن ليس لهؤلاء اصلا طبقياً، كالعجين من الطحين السيىء (ملوش عِرِقْ كما تقول نساء ريف فلسطين)، فإن هناك ما يجعل منهم صفاً واحداً كما نرى اليوم!

ليس هؤلاء فئة طبقية من مدخل علاقات الإنتاج، حتى وإن كان مصدر الدخل ريع علاقتهم بالأجنبي أو وكيل الأجنبي، عائدات غير منظورة، لا يقومون او يرتكزون على نمط إنتاج. كما لا ينطبق عليهم وصف جيش، لأن للجيش في النهاية عقيدة واحدة غالباً هي وطنية، وهؤلاء ليسوا كذلك. كما أن الجيش مؤسسة متواصلة الوجود، أما هم فتجميع مؤقت لإنجاز مهمة محددة زمنيا ومكاناً.



[1] هل يصح تسمية كل شيخٍ عالماً؟ ربما كان يصح هذا في عصور لم تكن فيها القراءة والكتابة معممة للجمهور. هل تحتاج الناس اليوم إلى رجل المؤسسة الرسمية الذي تستخدمه الانظمة الحاكمة ليفسر للناس الدين كما يفعل القرضاوي؟ ومع ذلك، إذا صحت تسمية الرجل عالماً، فهل يمكن أن يكون خادماً للسلطان، واي سلطان، سلطان دويلة مثل قطر، خلع الرجل اباه! وابعد، كيف يقبل هذا العالم بأن تكون قطر بيتاً مفتوحاً للقيادات الصهيونية شمعون بيرس وتسيفي ليفني وغيرهما  والشيخ نفسه هناك؟ ترى، لو طلب منه الأمير لقاء بيرس سراً، هل كان سيرفض؟ أما الأهم: أليس الشيخ ممن يعتبرون فلسطين “وقفاً إسلامياً” فكيف يعيش في كنف ذلك الأمير الذي يعتبرها “وقفاً يهودياً بل صهيونياً”

[2] ما زلت على موقفي بأن د. عزمي بشارة الذي خرج طوعاً من فلسطين وزعم انه منفي، ولم يُكذِبه من يعرفون!، خرج في مخطط تطبيعي. و د. بشارة ليس سهلاً، له امتدادات وتمفصلات في الأرض المحتلة 1967 ايضاً على مستوى قيادات يسارية وأوجد تمفصلات في الوطن العربي لاستكمال مشروعه لإقامة حركة ديمقراطية عربية على النهج الأميركي، أليس هذا موسمها العالي. نشرنا لأحد تمفصلاته قبل أن نكتشفه  في كنعان كاتب صغير هو أحمد اشقر، لنكتشف بعد سنين أنه كان يعيش في كيبوتس! كان قد كتب في كتابه ضد محمود درويش ان درويش مطبع (التوراتيات في شعر محمود درويش، قدمس 2005 ص 25 وغيرها) هذه كتابته العلنية. أما حقيقة معتقده فقد دأب على إرسال رسائل لي في منتهى البذاءة ضد كنعان وفريقها من  نيسان 2010 إلى اكتوبر 2010 بأسماء سرية. وقد توقفت رسائله بعد أن افتضح أمره. بدوري لا أعرف انه تزوج حينها، بل اعرف ان له صديقة إسرائيلية كتبت لي  بالإنجليزية تؤكد أن أحمد اشقر هو الذي كان يكتب باسماء مستعارة وكان أخبرها بهذه الرسائل، كما أكد أهل قريته أنه عاش في الكيبوتسات خوفاً من “الفقر”! حتى إلى كنعان هناك مندسين، فأي دور!

[3] من اللافت أن الجزء الأميركي من الحراك الشبابي يلعب لعبة خطرة مفادها: “نحن الشباب لم نعد نطيق أن نبقى بلا دور… لا نريد ان يتحكم بنا احد…” لكنهم يتجاهلون أن من يتحكم بهم هي الماكينة الإعلامية والمالية الأميركية! من هنا، فالحراك الشبابي دون رؤية ومشروع  سيأخذه أولاد هيلاري إلى حضن هيلاري!

[4] عام 1986 كنت اعمل في صحيفة العرب في  لندن لأنفق على دراستي، حينها كتب عني إميل حبيبي، قومجي هارب من فلسطين. ذات يوم دخل رجل بلباس عربي مهيب، فقفز الصحفيون بين من يقبل يديه أو ينحني له. بقيت جالساً. سألتني الزميله منى غباشي (متزوجة الان من الكرتونيست سعيد فرماوي)، لن تنهض ؟ قلت لا، قالت سيرفضك (صاحب الجريدة فهذا من ممولي الجريدة ) قلت ليكن. لم يرفصلني الرجل. أما الضيف فهو الشيخ الفاسي رئيس الطائفة الشاذلية في العالم الإسلامي، سُجن في عهد الملك فيصل ثمانية سنوات في بئر لعلاقته بالراحل عبد الناصر. خلال زيارات ابنته هند له تعرف إليها الأمير تركي وتزوجها فطردته العائلة السعودية إلى مصر. بعدها تصالح مع النظام واقام منتدى “الجنادرية” للإيقاع بالكتاب والشعراء عبر الأعطيات. مؤخراً قال السيد وئام وهاب على فضائية المنار أن تركي قتل هنداً! ما الفرق بين الجنادرية وبين المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات لِ د. عزمي بشارة في الدوحة؟

[5] تفاوتنا في اكتشاف قناة الجزيرة، وكان الكثيرون “يتشرفون” بالظهور على شاشتها. قبل ثلاث سنوات اتصل بي شخص اسمه (كما اذكر) خالد اليشرطي وقال أنا مساعد د. فيصل القاسم في برنامج الاتجاه المعاكس ندعوك غلى الدوحة مع شخص آخر لنفس البرنامج حول التنمية في الوطن العربي. قلت، ولكن ان ارفض الظهور على هذه الشاشة. تلكا الرجل لبضع ثوانٍ وقال: لماذا؟ قلت لأنها استضافت شمعون بيرس وتسيفي ليفني. قال هذا آخر ما عندك؟ قلت نعم. رغم ذلك، ما زال كثيرون يلومون من يرفض الجزيرة لأنها منبر يشاهده الكثيرون. نعم، ويلاه على وعيهم!