حقائق عربية…

حقائق عربية… ومعايير غربية

عبد اللطيف مهنا

يقول وزير الحرب البريطاني فوكس: “إن الرد الدولي على الثورات الشعبية في الشرق الأوسط، يجب أن يكون على قياس الظروف في كل حالة”. إن ترجمة دقيقة لما قاله من شأنها أن تجرد كلماته من لبوسها الديبلوماسي، وبغض النظر عن السياق الذي وردت فيه، سوف تكشف لنا عن حقيقة لطالما اكتوينا بها كعرب، وهي أن الغرب لا تحتكم سياساته إلا لمصالحه، حيث المواقف تتبدل باختلاف أزمنة وأمكنة هذه المصالح، تماماً كما هو حالها الآن حيال ما يجري في مختلف الأقطار العربية التي تشهد راهناً ثوراتها وانتفاضاتها أو احتجاجاتها. فهم عندما يسارعون إلى رفع لواء “الملف الإنساني”، فإن أهدافهم السياسية، هي وحدها ما تشكل دائماً معاييرهم الإنسانية… أمثلتنا العربية لا تحتاج إلى نقاش، الثورات في تونس ومصر واليمن وليبيا، والانتفاضة في البحرين، وأخيراً الاحتجاجات في سوريا…

في تونس ومصر، فوجئووا فارتبكوا وتخبطوا وأخطؤوا، وحيث تأخر لديهم فهم ومن ثم تقدير حجم ما يجري، فاتتهم الفرصة، فشبت الثورتان عن طوقهم فعجزوا عن إيقافهما، ولم يبق لهم إلا اللجوء إلى سياسة محاولة تخفيف الخسائر، والمسارعة إلى حقن ما يتوفر من الثورات المضادة بامصال تآمرهم. وفي اليمن، كانت الحالة أعقد من أن يحسموا أمرهم، فحاروا بين وقوفهم الفعلي إلى جانب النظام وحذرهم من المعاداة الصريحة للثورة التي تلوح حتمية نجاحها، فلجؤوا إلى رعاية مبادرات غيرهم عن بعد، الهادفة إلى احتوائها عبر الحلول الوسط، بحيث لا يموت الذئب ولا تفنى الغنم!

بعد اندلاع شرارة التغيير العربي الجارف، في تونس، واتقاد مشعله الوهاج في مصر، ومن ثم التهابه في اليمن، أدرك الغرب متأخراً، أن الحدث العربي لا راد له، وعليه سارع للإفادة من الدرسين المرين، التونسي والمصري، محاولاً ركوب موجة هذا التغيير أملاً في إجهاضها، أو حرفها لتغدو تغيرهم هم لا تغييرنا نحن… تغييرهم الذي لا يعدو حديث إفك لم يعد خبثه ينطلي على أحد، ولا تخفي شعاراته “الإنسانية” حقيقة كونها محاولة منه لدس السم في دسم تحولنا التاريخي.

في ليبيا نجح الغرب أن يأخذ من الأمم المتحدة والجامعة العربية حق امتياز متعهد التدمير الإنساني لهذا البلد المنكوب وهندسة تقسيمه وتمزيقه. فرعى المأساة الليبية بجدارة وأدارها بمعايير نفطية، فإن تقدمت المعارضة الضعيفة القيادة والتسليح والخبرة والتنظيم تبرع لها بالمستشارين وغض الطرف عن تغول السلطة في قمعها والفتك بها، وإن تقدم النظام أرسل آلته التدمير ية المتفوقة لوقفه عند الحد المسموح به ومن ثم ابتزازه، أما الحسم ففي علم الغيب، أو رهن أدراج غرف العمليات الأطلسية، وموازنة المصالح مع حصيلة الابتزاز وجدوى الذريعة الإنسانية.

لا داعي للحديث عن المثال البحراني، لأن الغرب كان قد اسقطه سلفاً من حسابه، محيلاً إياه للتجاهل، أي أنه، ووفق المعايير ذاتها، لم يخضع ما جرى هناك لإنسانيته الليبية مثلاً. أي تصرف وفق ما قاله لنا وزير الحرب البريطاني. لكن فيما يتعلق بالمثال السوري، اتسمت محاولاته ركوباً لموجة التغيير التي غدت عربياً بمنزلة ضرورة قومية وشكلت منعطفاً تاريخياً، بالتأمر المكشوف، ليس لحرفها فحسب، وإنما لاستغلالها في ضرب بقايا قلاع الرفض والممانعة في الزمن العربي الرديء الذي سبق الانطلاقة البوعزيزية… كل مواقع بؤر ثورة التغيير العربي وساحاته كانت من امتياز دول أنظمة التبعية العربية، فلم لا يتم استغلال موجتها في غير مواضعها؟ أي لدك مواقع أولئك العرب الخوارج على تلك المرحلة العربية المنحدرة البائسة التي غدت تلفظ أنفاسها، أو تدفيعهم ثمن تمسكهم بمواقفهم وثوابتهم الوطنية والقومية، وضريبة احتضانهم لقوى المقاومة العربية في لبنان وفلسطين والعراق، وعلى الأقل إضعافهم لابتزازهم… هنا جرت عملية خلط خبيثة ومدروسة أسهمت فيها آلة إعلامية رهيبة، ورافقها تحرك دبلوماسي غربي متعدد الأشكال جرت فيه عملية تقسيم للأدوار بعناية كبيرة تناغمت معه الامتدادات التابعة إقليمياُ ومحلياً.

في سوريا هناك مطالب إصلاحية مستوجبة متفق على ضرورتها ومشروعيتها شعبياً ورسمياً، وهناك احتجاجات مشروعة تطالب بالتعجيل في تحقيقها، وهذا أمر لا يختلف عليه اثنان في هذا البلد، لكن الغرب المتآمر وامتداداته إقليمياً ومحلياً سارع منذ اللحظة الأولى محاولاً تحويل المسألة إلى حصان طروادة لتصفية حساباته مع سوريا الممانعة والحاضنة التاريخية للمقاومة العربية، ذلك عبر ضخ التحريض وبث التضليل ومواصلة التدجيل الإعلامي غير المسبوق، واستصدار فتاوى الفتنة وبذر بذور الفرقة، وإيقاظ الطائفية وصولاً إلى الأسلحة المهربة عبر الحدود. وحيث فوت الوعي المميز لدى الشعب السوري عليهم تحقيق ما أرادوه، لجؤوا إلى ما يدعونه “المجتمع الدولي” بالتوازي مع التلويح أمريكياً بالعقوبات وأوروبياً بالإجراءات… في هذا ما يذكرنا بالمثال العراقي، أو ما يشير إليه تصريح لوزير الحرب الأمريكي غيتس تزامن مع تصريح زميله البريطاني فوكس المشار إليه، قال: “قبل شن الحملة العسكرية الغربية على ليبيا، كان هناك مسار دبلوماسي أفضى إلى نداءات للتحرك، من قبل الجامعة العربية ومجلس التعاون الخليجي، والأمم المتحدة”… هنا العالم بدوره استفاد أيضاً من دروسه المريرة معهم، ففشلوا في استصدار بيان رئاسي من مجلس الأمن… قال لهم نائب المندوب الروسي: إن “التهديد الفعلي للأمن الإقليمي قد ينبع من التدخل الخارجي”… وهنا تعثرت الحملة “الإنسانية” الغربية على سوريا، فنقلت غرفة عملياتها لاحقاً إلى بروكسل وجينيف، وأسهم “مديرهم” لوكالة الطاقة الدولية فأدلى بدلوه زاعماً أن “المنشأة (السورية) التي دمرتها إسرائيل كانت مفاعلاً نووياً قيد الإنشاء”!!!

… الغرب، الذي تقول له استطلاعاته أن غالبية المصريين في مصر ما بعد 25 يناير تريد إلغاء كامب ديفيد، يخشى بوادر تقارب موضوعي مصري سوري، وبعض مصري إيراني، وهناك احتمالات مستقبلية لإلتقاء تحول تركي مع التحول العربي، وهو اليوم، واستباقاً، يستهدف الحلقة السورية المحورية في هذا الذي يخشاه… هل سينجح؟ إن حالة سوريا الصامدة والتائقة شعباً ونظاماً للإصلاح وحال أمتها المتقد الناهض حتّام يحولان بينه وبين هدفه.