حول عسكرة السياسة الخارجية الامريكية في عهدي ادارة جورج بوش (الابن)
الشرق الاوسط والقضية العربية الفلسطينية 2001 ـ 2009
(الجزء الثاني)
نورالدين عواد
عسكرة السياسة الخارجية لادارة جورج بوش الابن.
“ووهج الصواريخ الاحمر ودخان القنابل في الهواء
يقدمان الدليل خلال الليل ان رايتنا لا زالت في السماء”
مقطع من النشيد الوطني الامريكي
على الرغم من ان البيرت اينشتين Albert Einstein دعا الى القضاء على الحروب وتحريم استعمال الطاقة النووية لاهداف عسكرية عندما اكد “ان الحروب لا يمكن انسنتها؛ فقط يمكن الغاؤها”[1]، فان النواة المحافظة في ادارة جورج بوش الابن طبعت السياسة الخارجية الامريكية بسمة عسكرتارية وحربجية انطلاقا من مفاهيم ايديولوجية وسياسية متطرفة وغير واقعية.
ادواردو غاليانوEduardo Galiano، مثقف امريكي لاتيني، قدم بعض التاملات حول العلاقات التاريخية بين الشمال والجنوب ومفارقاتها. بخصوص النزعة الحربجية الامريكية يذكرنا بان “مارك توين Mark Twain، وهو زعيم “عصبة مناهضة الامبريالية”اقترح علما جديدا، مرصعا بالجماجم بدلا من النجوم، بينما تحقق كاتب آخر هو أمبروس بيرس Ambrose Bierce من ان “الحرب هي الطريق الذي اختاره الرب ليعلمنا الجغرافيا”[2].
التلاعب بالراي العام الامريكي من خلال آلة الدعاية لوسائل الاتصال الاجتماعي، حشد الشعب الامريكي خلف الادارة في حملتها الحربية في الشرق الاوسط. على ما يبدو ان جورج بوش الابن اصبح صدى للنظرية النازية التي لخصها هيرمان غورنغ Hermann Goering الرجل الثاني بعد هتلر، لدى اخضاعه لتحليل نفساني، حيث اجاب ” الناس لا يريدون الحرب، لكن القادة يسوقونهم الى مواقع حربجية اذا ما قالوا لهم انهم يتعرضون للهجوم”[3].
ان التغير في نهج الادارة قد وقع بالتزامن تقريبا مع تغيرات داخلية تمس استقطاب الاجتماعي الاقتصادي الامريكي. بالخصوص، يؤكد الكاتب الامريكي هاورد زين Howard Zinn “مجموعة صغيرة من الشاذين استولت على البلاد (…) المجموعة الحاكمة امتصّت ثروات هذا البلد واعطتها للاثرياء وللشركات متعددة الجنسيات”[4].
لا يمكن انكار ان الامبريالية الامريكية تمر بازمة نظامية وبنيوية خطيرة وان احدى صمامات التنفيس تتمثل في تصدير الازمة على شكل حروب عسكرية. الاكاديمي العربي زياد الحافظ، يرى ان هذا الازمة ” تؤدي الى عسكرة المجتمع الامريكي وانتهاك نظام الحريات تحت ذريعة الامن؛ كما ان نشر ثقافة الرعب توطد هذه العسكرة؛ وتركيز الثروات في ايدي الاوليغارشية التي تسيطر على المجمع العسكري ـ الصناعي والسياسة الخارجية”[5]،وهي عوامل تعزز النهج الحربجي للادارة.
“لقد خصصت امريكا 623 مليار دولار لميزانيتها العسكرية لعام 2007 (…) اي اكثر من 50% من انفاقها العام، وهي مسؤولة عن ازدياد النفقات العسكرية العالمية بنسبة 80%”[6]. اعتقد ان هناك احتمال ضئيل في ان يؤدي الانفاق العسكري الجامح الى مزيد من الامان لامريكا. بل على العكس، النفقات العسكرية الكبيرة تراكم مشاكل اقتصادية اجتماعية اكبر، وكميات هائلة من الوسائط الحربية من آخر جيل (صيحة) والتي سوف تستعمل في حروب امريكية او حروب تحت الطلب، مما يترتب عليه عداء عالميا اكبر تجاه امريكا وسياستها الخارجية. هكذا، تتحول ميزتها العسكرية الى تهديد لامنها.
جيفري دي ساش Jeffery de Sach، استاذ العلوم الاقتصادية ومدير معهد الكرة الارضية في جامعة كولومبيا Columbiaالامريكية، يوجز العلاقة بن السياسة الخارجية والعسكرة في امريكا وجوهر موقف جورج بوش الابن بالكلمات التالية: “السياسات الامريكية تسعّر نار الصراعات بدلا من فضّها (…) السياسة الخارجية التي تنتهجها امريكا تعاني من شلل تام لانها تعرضت للاختطاف من قبل المؤسسة العسكرية (…) الميزانية العسكرية تتغلب على كل ما يتعلق بالسياسة الخارجية (…) ستنفق امريكا هذا العام (2007) حوالي 800 مليار دولار على الامن مقابل 20 مليار في التنمية الاقتصادية (…) ان هذا المنحى العسكرتاري لن يجلب السلام. ادارة بوش لا ترى كائنات بشرية حقيقية منخرطة في ازمات طاحنة، بل كاريكاتيرات على شكل ارهابيين في كل زاوية”[7].
منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية ولغاية عام 2008 خاضت امريكا 75 حربا او تدخلا عسكريا او دعما لانقلابات في محتلف انحاء العالم[8]. العواقب البشرية كانت كارثية على الامم والمناطق التي وقعت فيها تلك الاعمال، التي تنتهك حقوق الانسان والشرعية الدولية وادواتها الحقوقية. “هنالك تقدير بان بين 20 و22 مليون كائن بشري فقدوا حياتهم من جرّاء تلك السياسة الابادية”[9].
امريكا تكبدت ايضا عواقب ماساوية ناجمة عن حروبها للسلب والنهب و”الفتوحات”، خاصة في حربي الخليج (1991 و 2003). في اواسط شهر ديسمبر 2007، نشرت ارقام تقشعر لها الابدان حول الخسائر البشرية التي مني بها الجيش الامريكي نتيجة لتينك الحربين: “اصدرت دائرة شؤون قدامى المحاربين الامريكية تقريرا رسميا تؤكد فيه مصرع 73 الف جندي واعاقة 1.6 مليون جندي آخرين في حربي الخليج”[10]. انني اجزم بانه لم تكن ايا من هاتين الحربين دفاعا عن النفس بل من اجل التوسع والسيطرة تحت ذرائع حقوق الانسان والديموقراطية والحرية، بينما كان السبب الحقيقي هو المصلحة القومية “المقدسة”، اي مصلحة الاوليغارشية الحاكمة منذ قرنين.
الاكاديمي الكوبي خورخي ايرنانديس مارتينيس Jorge Hernández Martínez اجرى مقارنة صائبة، في رايي، بين عقيدة ترومان وعقيدة بوش الابن، عندما تلمس وجود ” تطابق في اللهجة المبالغ فيها والمنظور الكارثي في محاولة تبريرهما لسياسة خارجية تدخّليّة وعسكرتارية، على شاكلة افضل نموذج من الحرب الباردة”[11].
في خطابه حول حالة الاتحاد (امريكا) الذي القاه يوم 23 يناير 2007،اكد الرئيس جورج بوش الابن مجددا، على عقيدة الامن القومي الخاصة بادارته وحدد المناطق الجيوستراتيجية التي ستطبق فيها: ” ان هذه الحرب اكبر من صراع؛ انها كفاحا ايديولوجيا حاسما، وامن امتنا في خطر (…) لا شي في هذه اللحظات من تاريخنا اهم من نجاح امريكا في الشرق الاوسط: اي الانتصار في العراق وتجنيب الشعب الامريكي هذا الخطر”[12].
سيمور هيرش SEYMOUR M. HERSH، في كتابه “الحروب القادمة” كشف النقاب عن ان ضابطا رفيع المستوى في الاستخبارات الامريكية شرح له رؤية ادارة بوش بخصوص عسكرة سياسته الخارجية مؤكدا له “هذه حرب ضد الارهاب والعراق ليست الا حملة واحدة. ادارة بوش تنظر اليها على انها حرب هائلة في المنطقة (…) بعدها، سننتقل الى حملة ايران (…) انها آخر نشوة ـ لقد حصلنا على اربعة اعوام اخرى، ونريد ان نخرج منها قائلين باننا كسبنا الحرب على الارهاب”[13]
لقد حاولت ادارة بوش الابن تبرير سلوكها الحربي وعسكرة سياستها الخارجية من خلال مكافحة الارهاب المثيرة للجدل، ومكافحة الطغيان والدفاع عن الحرية والديموقراطية الاكثر جدلا وريبة. بيد ان القوة المحركة المتاصلة في نفس النظام السياسي الامريكي واللحظة التاريخية التي بلغها تطوره واحتمال انتقاله الى مرتبة امبراطورية، في ظل موازين القوى السائدة على مستوى دولي، تقدم لنا مفتاح ذاك السلوك: “عقلية السياسي الامريكي ترى في السياسة الخارجية الامريكية مسافتين: الاولى بين القدرات العسكرية والاقتصادية الذاتية وقدرات بقية العالم؛ والثانية بين القدرات الذاتية ومستوى الطموح السياسي (…) امريكا تتفوق على العالم باسره عسكريا؛ وبشكل فردي امريكا هي الاقتصاد الاقوى (…) المحافظون الجدد يعتقدون بان هذه القوة لم يتم استغلالها في توسيع الهيمنة الامريكية (..) ولهذا فانهم لجاوا الى عسكرة السياسة الخارجية من اجل عسكرة العولمة”[14].
يلاحظ وجود توجه جامح نحو عسكرة المجالات والفضاءات الواقعة في اراض وبحار واجواء خارج نطاق الاختصاص القومي الامريكي، فهناك:
العسكرة التقليدية: يوجد اكثر من 750 قاعدة عسكرية امريكية في العالم[15]؛ 63 منها في 11 بلد في الشرق الادنى تغطي الفضاء الممتد من باكستان الى المغرب[16]. امريكا و”اسرائيل” اقامتا شبكة دفاع جوي تغطي الشرق الاوسط.
عسكرة نووية: بينما تسعى امريكا في سبيل تخفيض او الحد من الترسانات النووية لروسيا وكوريا الشمالية والصين، تقوم باعادة تسليح نفسها بقنابل نووية تكتيكية. “في سبتمبر 2003، احبط مجلس الشيوخ اعادة تبني تعديل سبرات ـ فيرس الذي صودق عليه عام 1994، وكان يحرّم الابحاث التي قد تؤدي الى انتاج اسلحة نووية جديدة تقل قدرتها عن 5 كيلوطن”[17].
من ناحية اخرى امريكا تغض الطرف عن البرنامج النووي الاسرائيلي وعن “بناء مفاعل نووي جديد، يعتبر واحد من اكبر الاسرار الاسرائيلية، بتكلفة قدرها 500 مليون دولار بمساعدة من روسيا وفرنسا، وسيدخل الى الخدمة عام 2009”[18].
ومع ذلك، تعارض امريكا تماما بناء مفاعل نووي ايراني في بوشهر (بمساعدة من روسيا) مخصص لاهداف سلمية ( تكلفته مليار دولار؛ طاقته لتوليد الكهرباء: 1000 ميغاواط) بلغ قدرته القصوى عام 2006. هناك وثيقة خاصة بوكالة الاستخبارات الامريكية تعود لعام 1976، تؤكد انه “في عام 1973 كانت اسرائيل تمتلك 13 سلاحا نوويا (…) الرؤوس النووية الاسرائيلية قد تكون مصنوعة على مقاس صواريخ، اريحا، لانس و أربون؛ القنابل النووية يمكن قذفها من طائرات من طراز ف ـ 4 إيه، كفير ـ سي 2 إس، فيس وحتى سكايهوك آ ـ 4”[19].
بعد شهر من ازالة السرية عن تقرير اسرة الاستخبارات الامريكية حول البرنامج النووي الايراني (11 ديسمبر 2007)، حصل نفس الشيء مع وثيقة “سرية للغاية” موقعة في اغسطس 1974 على يد مدير وكالة الاستخبارات المركزية، ويليام كولبي William Collby، تتحدث عن البرنامج النووي الاسرائيلي المذكور. هذا الكشف يزعج الرئيس بوش ابن الذي يطبق المعايير المزدوجة في نظرته الى البرامج النووية في ايران واسرائيل.
اشارت صحيفة هارتس الاسرائيلية الى انه “عندما كان روبرت غيتس Robert Gates مديرا لوكالة الاستخبارات المركزية، تطرق الى اسرائيل بصفتها واحدة من الدول النووية الكبرى في المنطقة. مع ذلك، الان وهو يشغل منصب وزير البنتاغون، يدّعي بان اسرائيل لا تشكل اي تهديد للمنطقة”[20].
اما الرئيس جورج بوش الابن فانه اكد مؤخرا ان “الهدف المشترك بين امريكا والاوروبيين يتمثل في حرمان ايران من اي سلاح نووي (…) وانه سيعمل مع اسرائيل والاوروبيين من اجل تطوير استراتيجية احتواء فعالة ضد ايران”[21]. بينما ذهب ديك شيني Dick Cheney ابعد من بوش عندما لمح الى “امكانية قيام اسرائيل بتوجيه ضربة عسكرية ضد ايران من اجل القضاء على برنامجها النووي”[22].
عسكرة فضائية: بالاضافة الى مبادرة الدفاع الاستراتيجي المعروفة IDE والدرع المضاد للصواريخ، تقوم امريكا بتطوير برنامج حرب مناخية[23]، بالغة الخطورة من كافة النواحي.
مما سبق يمكن استنتاج ان النزعة العسكرتارية قضية متاصلة في الاقتصاد الامبريالي وتشكل آلية رئيسية للسيطرة على الازمات الدورية، من خلال المجمع العسكري ـ الصناعي. كما ان القوة المحركة المتاصلة في نفس النظام السياسي الامريكي واللحظة التاريخية التي بلغها تطوره واحتمال انتقاله الى مرتبة امبراطورية، في ظل موازين القوى السائدة على مستوى دولي، تشكل مفتاح السلوك الخارجي لادارة بوش الابن.
[1] موقع مركز شبكة المعطيات العالمي (كوبا) بتاريخ 3 يناير 2007. “WDRC-LIST”@mail.etecsa.net,
[2] موقع شبكة فيرتين الاعلامية بتاريخ 17 يناير 2008. Red Informativa Virtin
[3] موقع مركز شبكة المعطيات العالمي (كوبا) بتاريخ 3 يناير 2007. “WDRC-LIST”@mail.etecsa.net,
[4] المصدر السابق.
[5] نشرة بيروت الوفا بتاريخ 5 نوفمبر 2006.
[6] باسكل بونيفاسيو Pascal Bonifacio “الانفاق العسكري الامريكي…ارقام فلكية” منشور بتاريخ 25 فبراير 2007 في
http://www.icaws.org/site//modules.php?name=News&file=article&sid=9379&mode=&order=0&thold=0
[7] جيفري دي ساش، “امريكا وفشل السياسة الخارجية المعسكرة” المنشور بتاريخ 27 نوفمبر 2007 في
http://www.icaws.org/site/modules.php?name=News&file=article&sid=11287
[8] محمد الاحمدي، “امريكا وصنمية المصلحة القومية” المنشور في موقع الجزيرة
http://www.aljazeera-online.net/body.php?tab=k&id=11
[9] موقع الجمل بتاريخ 26 ابريل 2006 http://www.aljaml.com/node/1046
[11] بوليتين انتورنو Entorno الكوبي، العام الخامس، عدد رقم 30، الصادر في 12 ابريل 2007.
[12] المصدر السابق.
[13] صحيفة نيويوركر في عدديها يومي 24 و31 يناير 2005. على الرابط http://www.newyorker.com/printable/?fact/050124fa_fact
[14] عثمان ابو بكر، “مواجهة عسكرية ام حضارية؟” تم توزيعها يوم 16 فبراير 2005 عبر مجموعة يوسف فضل الالكترونية
[15] خليل سعادة، “الامبراطورية الامريكية بجناحيها الديموقراطي والجمهوري” منشور فيموقع دنيا الوطن على الرابط
http://www.alwatanvoice.com/arabic/modules.php?name=news&file=articl&sid=11268
[16] محمد عبد السلام “الوجود العسكري الامريكي في الشرق الاوسط، كبف ولماذا؟” منشور على موقع الجزيرة
http://www.aljazeera.net/NR/exeres/44F524F4-2571-487D-A5A4-4713B3719F46.htm
[17] آرثر شليزنجر، “الحروب ومؤسسة الرئاسة امريكية” وهو كتاب منشور على موقع البيان:
[18] مفاعل نووي صهيوني جديد. موقع مفكرة الاسلام على الرابط
[19] بوليتين انتورنو Entorno الكوبي، العام الثالث، العدد 11 الصادر بتاريخ 7 فبراير 2005.
[20] نقلا عن موقع محيط بتاريخ 11 يناير 2008.
[21] روسيا وايران بحثا عن اتفاق نووي. منشور على موقع الجزيرة
http://www.aljazeera.net/NR/exeres/D6AAA6F1-5468-41B9-8715-E4E10C93E3AE.htm
[22] رايس تؤكد رفض واشنطن لتحديد استراتيجية خروج من العراق. منشور على موقع دنيا الوطن.
http://www.alwatanvoice.com/articles.php?go=articles&id=16796