الثورة والاختراق

الثورة والاختراق والتجسس حلقة 4

التخلف بقرار…آلية للاخراق

عادل سمارة

الحروب في وعلى الوطن العربي مفتوحة على مصاريعها، ولو كان لسقف أن يُعلَّق كالسماء بلا عمد لقلنا إن هذه الحرب ليست مفتوحة الأبواب وحسب بل قد خلَّعت جدرانها الأربعة، وليس هذا بقول شاعر. هي حرب اقوام وأمم وفي النهاية حرب طبقات على مستوى أممي.

ليست الحرب ظاهرة طبيعية، هي صناعة الإنسان، وهي إما تُؤجَّل بهزيمة طرف والذي يجهز نفسه للمبادئة مجدداً، أو تُقتلع وهذا يفترض سحق الراسمالية وخاصة الأميركية والأوروبية الغربية عامة. أما هذه الكلمات فمُسخَّرةً لحرب الاختراق. اسميها هكذا كي أغطي اسمها الحقيقي حرب التجسس والخيانة والغدر والإيقاع والعمالة والتواطؤ والرخاوة…الخ وفي افضل حالاتها التبعية، فمع سقوط المستوى القِيَمي في مرحلة الهزيمة صار الصدق عبئاً وتطاولاً، والوضوح تهجُّماً، والمواجهة عداوة.  يمكن للمرء أن يخون، ولا يُسأل في ذلك قط، وكذلك قيادات وأنظمة. عليك الاعتذار لفرد، مثلاً عاهل، صاحب فخامة، جارك في الزقاق ولكن ليس لوطن وأمَّة!

ما يجري في الوطن العربي اليوم حالة اختلاط هائلة، جوهرها الثورة ونقيضها الثورة المضادة وفي المعسكرين طبقات وفئات. ولأن الأمر كذلك، فهو من الضبابية بمكان بحيث يصعب التقاط الخير من الشر والصمود من السقوط، والكفاحية من العمالة. ولأن هذه الحرب بكل تلك الشدة والامتداد كما يبدو، صار في غاية الأهمية الحديث في جوانبها المستورة والخفية ومنها الاختراق.

مناخات تفريخ الاختراق

يجري الاختراق عادة في الإجسام الرخوة، وبآليات داخلية وخارجية، تربوية فيما يخص الأفراد، وفئوية مصلحية فيما يخص الجماعات والطبقات. تقاوم الأمم بطبيعتها الاختراق. ومقابل ذلك تعيد قوى الاختراق اصطفافها الطبقي على الصعيدين القومي والمعولم لتكريس سيطرتها أو هيمنتها. هذا ما اكده درس الثورات العربية الحالية، فلم يعد خافياً أن الثورة المضادة تحتل المشهد اليوم سواء باختراق الثورة في تونس ومصر لكبح تجذرها، أو التدخل في مجريات الثورة في اليمن، أو صناعة الأحداث في ليبيا، أو استهداف سوريا باختطاف تحرك الحراك الشعبي كقطر خارج التسوية تحت ذرائع حقوق الإنسان. أو تحرك الكيانات النفطية التي تحولت إلى غُزاة للبحرين وليبيا وربما غدا سوريا لصالح مشروع الشرق الأوسط الجديد.أليس مضحكا حتى الإغماء أن يتوسط أمير قطر بين حزب الله وفريق 14 آذار (أميركا)، بينما شمعون بيرس في ضيافة الشيخة موزة؟

ليس بوسعنا الدخول في تفاصيل تطورات اللحظة والتقاط تفاصيل المؤامرات وحتى العدوان العلني نفسه. ما يمكننا الحديث فيه هو الأرضية، المناخ والطبقات والشخوص التي تجعل للثورة المضادة موقعاً، بل حتى يداً تكاد تكون الطولى.

التخلُّف…اختيار طبقي

يفيدنا درس الثورات العربية الجارية أن التخلُّف وإن كان مبتداه هو تراث الاستعمار سواء في النهب او احتجاز التطور ضمن سياسة مبرمجة تقضي على قطاعات الإنتاج في المستعمرات وخاصة القطاع الصناعي، إلا أن هذه السياسة والإجراءات قد تم توريثها من الاستعمار الذي لم يخرج فعلاً، إلى الطبقات التي تولت الحكم في المستعمرات. يحمل هذا  التوريث بحد ذاته علاقة مشتركة بين الأقدم والجديد، وهذا ما يؤكد خطورة هذه الأنظمة ويكشف اسباب تخارجها الدائم. مواصلة اقتلاع قطاعات الانتاج واعتماد الريع.

لعل التوريث الحقيقي للطبقات الجديدة في المستعمرات لم يكن اساساً وعملياً في المستوى السياسي أي السيادة والاستقلال، بقدر ما هو في توريث التخلف بمختلف آلياته وتجلياته.

إن قراءة دقيقة للسياسات الاقتصادية للعديد من بلدان المحيط وخاصة البلدان العربية تبين ان التخلف في هذه البلدان ليس بفعل الطبيعة ولا بفعل الاستعمار وحده وإنما هو سياسة مقصودة من الأنظمة الحاكمة في الفترة المسماة ما بعد الاستعمار.

والتخلف في سياق هذا الموضوع  مقصود به “تطوير” الإعاقة في قطاعات الإنتاج. لذا لا غرابة أن بلدان المحيط التي كانت شبه متخصصة في الزراعة قبيل وعشية الاستقلال اصبحت في النصف الثاني من القرن العشرين متخلفة من حيث الإنتاج الزراعي والأمن الغذائي ومتخلفة في الإنتاج الصناعي بالطبع.

وهذا يطرح قضية مفصلية وخطيرة على اللحظة والمستقبل. ما هي طبيعة مجتمع لا ينتج ما يكفيه؟ كيف يُعيد مجتمع إنتاج نفسه دون أن يقوم بإنتاج مادي كافٍ له سواء في الزراعة أو الصناعة، وبالتالي في الفكر والثقافة؟ هل يمكن تسمية هذا مجتمعاً بالمألوف التاريخي العالمي/الإنساني؟ هل يفسر هذا العجز جاهزية الكثيرين فيه للإختراق؟ وتحول فئات وأفراد كثر إلى خواصر ضعيفة يخترقها أعداء هذا المجتمع؟

ليس التخلف في الافتقار للموارد والسيولة المالية، لأن هذا فقر، فالتخلف في قطريات الخليج التي لا تُنتج النفط بل تعيش على ريعه كثروة موهوبة،  فالانتاج عمل ودينامية وعلاقات طبقية ومستوى حضاري.

إن مناطق الحكم الذاتي (أوسلو ـ ستان) نموذج مثالي على العديد من الخواصر الضعيفة، سنناقش هذا لاحقاً، ولكن في نطاق التخلف الإنتاجي، فإن سلطة الحكم الذاتي معنية بتخلف مواقع الإنتاج وتضخيم الأجهزة الأمنية (العصا وحماية أمن العدو) والبروقراطية  لمحاصرة المواطن في حالة من العجز مما يغويه ويغريه بالتعامل مع الأجنبي بدءاً من التطبيع فعدم المقاطعة وصولاً إلى عمالة الثقافة والأكاديميا…الخ. وفي النهاية وصول المجتمع إلى العجز عن المقاومة. وكيف تتم المقاومة وإنتاج الذات غير متوفر، بل والاعتماد على الشغل داخل الاحتلال أمنية للقوى العاملة، إضافة إلى الاعتماد الوظيفي على تمويل الغرب الراسمالي الذي يُبدي عداوته وتكبره علانية ومنهجياً.

تستثمر أنظمة المحيط التابعة هذا التخلف، بل العوز في ضرب روح الاحتجاج والمقاومة والثورة في هذه البلدان من خلال تسلل مشاعر بل قناعة الدونية لدى المواطن في هذه البلدان بمعنى أن شعوب هذه البلدان ليست منتجة، عاجزة عن إعالة نفسها، وهو ما اوصل كثيراً من الكتاب اللبراليين إلى القول بأفضلية عودة الاستعمار، بل استدعاء الاستعمار.

في الحالة العربية ساد حتى حين الاعتقاد بصولة وجولة الكيان الصهيوني، واعتباره بنية نادرة لا يمكن للعرب أن يواجهوها، وهذا قائم على تراث هزائم أو أنصاف هزائم/أنصاف انتصارات. هذا الانبهار بالعدو هو الذي دفع كثيرين للوعظ باللاعنف لمواجهة عدو لا يفهم سوى العنف، ودفع كثيرين للاستنامة في حضن العدو سواء بالتفريط، أو الاعتراف بالكيان، أو التطبيع أو عدم المقاطعة وصولاً إلى قيام فلسطينيين من الأرض المحتلة 1948 باعتبار عضوية الكنيست بطولة وباسم الثقافة وسد العوز بتسويق منتجات العدو وخاصة الكيبوتسات والسكنى فيها إلى جانب عُتاة المستوطنين، اي التحول إلى مستوطنين! وفي مناخ سقوط القيم والمعايير يُقبل مثقفون من هذا الطرازكما لو كانوا طبيعيين! هل الاختراق شيئاً غير هذا؟

إن العلاقة بين الإنتاج، وتحديداً التطور الصناعي وبالطبع تطور وتصنيع الزراعة قد لعبت دوراً مركزياً ومقرراً في بدء وتطور الديمقراطية السياسية في البلدان المتقدمة، بل إن الديمقراطية هناك هي وليدة مساومة طبقية بين البرجوازية التي تسيطر مباشرة أو بالإنابة على السلطة السياسية والتشريعية بالطبع وبين الطبقة العاملة. مساومة جوهرها، أنه كي يبقى خط الإنتاج متواصلاً دون تقطعات، اي لكي يستمر تدفق الربح ووصوله إلى أعلى حد ممكن، فلا بد من تخدير الطبقة العاملة سواء بأجور مقبولة من جهة وببعض الحقوق السياسية التي منها حرية الانتخاب والتعبير من جهة ثانية. بمعنى أن الديمقراطية هي ضرورة للبرجوازية كي تضمن السلام الاجتماعي. وهو سلام لا يضمنه سوى تدفق ثروات المحيط إلى المركز.

بدورها فإن أنظمة المحيط، تُعفي نفسها من الالتزام بالحريات وبالديمقراطية عبر تقويض فرص التطور الصناعي الذي يبلور في التحليل الأخير وضعاً طبقيا للعمال يدفعهم للإصرار على حريات معينة مما يضعف القبضة السلطوية للأنظمة الحاكمة.  

وتعوض انظمة المحيط التجاوز عن الحريات والديمقراطية بتقديم فتات لبعض الشرائح المجتمعية عبر خلق أجهزة بيروقراطية ضخمة تتعيش من رواتب وأُعطيات تقدمها السلطة، ليبدو للمجتمع وكأن هذه السلطة وتحديداً الحاكم إنما يشقى/يستجدي ليطعمهم! فمن الذي سيفكر في الثورة إذن؟ 

لكن هذا السناريو لم يكن له ليعيش إلى الأبد لا سيما في ظل تطور ظاهرات مضادة بالطبيعة لهذا السيناريو منها، عدم تقبل الجيل الشاب المتعلم والذي يرى في توفر الشغل حقاً لا يمكن التنازل عنه، وعدم قدرة أجهزة الدولة على استيعاب قوة العمل المتزايدة، او رشوة قطاعات اوسع من المجتمع، وهذه كانت من مقومات الثورة الجديدة وخاصة في مصر وتونس.

نظراً لمصلحة البرجوازية التابعة في التخلف، فإن معظم أنظمة الفترة المسماة ما بعد الاستعمار في المحيط لم تأخذ بالاعتبار أطروحات منظِّري التنمية من مدارس التبعية والنظام العالمي التي بدأت مع راءوول بريبتش في اربعينات القرن العشرين بدعوته بلدان المحيط لتحسين حصتها من التجارة الدولية وصولاً إلى سمير امين وجيوفاني اريغي وغيرهما الداعين إلى فك الارتبط بالنظام الرأسمالي العالمي.

يتم توظيف التخلف لصالح الاختراق عبر آليات عدة منها بدايةً جاهزية الطبقة الحاكمة للاختراق، الجاهزية التطوعية التي ترى في الاختراق الاستعماري حماية لها في مواقع السلطة. لكنها، اي هذه السلطة، وهي لا تمثل الشعب في مختلف مناحي الحياة، فإنها لاتمثله في الاختراق كذلك. من هنا، يصبح الارتخاء والتلذذ بالعلاقة بالأجنبي ميدان تنازلات مفتوح لشرائح عدة من المجتمع. يشعر المثقف اللبرالي بالدونية تجاه الغرب مما يحوله إلى داعية للثقافة الغربية الراسمالية. والداعية هنا هو معجب من مدخل دوني مما يجعله مهيئاً لدور العميل الثقافي، والعمالة في هذه الحالة تكسو نفسها بمعتقد  التميُّز عن أهل البلد مما يبررها في نظر هذا التابع. يحرص الاستعمار على حشو رؤوس البعض بهذا التميُّز والتشبه بالغربي[1]. وفي هذه الحالة يمكن أن يحصل الاختراق في المستويات الأكاديمية والفكرية والبحثية.



[1] في حديث لضابط بريطاني  ممن قادوا الجيش العربي في الأردن إلى ضابط أردني شاب، وذلك في منتصف خمسينات القرن الماضي قال: عليك أن تدخن سجائر بليرز، وأن تحتسي الويسكي في مقصف الضباط وتلبس بذلة السهرة العسكرية السوداء وعلى بنطالها خطا أحمر من الناحيتين والقبعة المناسبة كي تبدو مثل الضباط الإنجليز.