نشأة الرأسمالية الاميركية ومحو الآخر
(قراءة في العدو الرئيسي وما يجب ان يعرفه كل عربي)
الجزء الثاني
مسعد عربيد
الابيض والآخر
اتسمت علاقة الاوروبيين البيض بالهنود الاصلانيين منذ البدء بمبدأ “الإخضاع” الذي فرضه الابيض على اساس الاستغلال الطبقي والفوقية العرقية (التمييز العرقي والعنصري)، وهو ما زال يحكم علاقة الاوروبي الابيض بالآخر، أي بغير الابيض، حتى يومنا هذا. فمنذ ان حط الغزاة الاسبانيون الاوائل اقدامهم على السواحل الاميركية، أبدى البيض الاوروبيون (الانكليز والفرنسيون والهولنديون والبرتغاليون ولاحقاً الاميركيون) كل اشكال العداء للهنود، سكان البلاد الاصليين. وقد انطلق هذا العداء على اساس العرق ولون البشرة وتفوق البيض وأفضليتهم، وانه ليس لهؤلاء الهنود اية حقوق، بل والابعد من ذلك وهو ان الرجل الابيض له الحق، بحكم انحداره من العرق الابيض بالنسل والولادة، في إذلال الهندي وإخضاعة لسيطرته واستغلاله لمصلحته. إلاّ ان هذا العداء، والذي كثيراً ما اتخذ مظاهر العرقية والكراهية المفرطة، يجب ألاّ يخفي الطابع الطبقي (المصالح الطبقية) المتأصل في علاقة الراسمالي الابيض بالآخر.
نخلص الى ان علاقة الاوروبي الابيض (لاحقاً الاميركي) بالهندي الاصلاني والاسود الاميركيين، إتسمت في كل محطة من محطات التاريخ الاميركي ـ منذ قدوم المستوطنين الاوروبيين الاوائل الى يومنا هذا ـ باشكال مختلفة من الفوارق العميقة والتناقضات والصراعات. ففي كل مجالات التقدم والازدهار التي احرزها الابيض في حياته وحرياته ورفاهيته ومستواه المعيشي والاقتصادي، دفع ثمنها الهنود والسود (مع اختلاف الحقبة التاريخية وحيثياتها بين الاثنين) من شغلهم وعرقهم وحريتهم بل ومن ارضهم وحياتهم ووجودهم. وكل إثراء للابيض جاء على حساب إفقار الآخريْن. وكذلك كان الامر في كل سلطة سياسية وقوة اقتصادية واجتماعية حققها الابيض، نجد انها قامت على حساب السود والهنود وخسارتهما للسلطة ومواقع القوة. بكلمة، كل ثراء للقلة في الولايات المتحدة وزيادة في دخلها أتى في الاصل والمصدر، وما زال، من إفقار الاغلبية. [1]
* * *
مناقشة في بعض الادعاءات الاميركية الكاذبة
سأعمد في الصفحات التالية الى مناقشة بعض الادعاءات التي استطاعت “اميركا” ان تروج لها، وقد نجحت في هذا الى حدٍ بعيد. وتكمن اهمية هذه المحاججة في القيمة الاكاديمية او التاريخية المحضة، بل في تعرية التزييف الايديولوجي الراسمالي لحقائق التاريخ والمجتمع في اميركا، وتقديم هذه التجربة “الفريدة” المسماة “اميركا” على انها هبة الخالق لهذا العالم المنكوب، وفي هذه التجربة “المذهلة” ستعثر الشعوب على الحلول لكافة مآسي البشرية وعلى البديل الافضل والأمثل لما انتجه الانسان من حضارات وثقافات ومعرفة.
سأحاجج في بعض القضايا والتي يمكن ايجازها في العناوين الرئيسية التالية:
1) ان هروب الغزاة الاوربيين الى اميركا الشمالية كان بسبب الاضطهاد الديني في اوروبا.
2) الطابع الانساني والحضاري للغزوة الاوروبية لاميركا الشمالية.
3) الطابع السلمي لهذه الغزوة.
4) ولادة “اميركا” كانت طبيعية.
5) الثورة الاميركية: هل كانت ثورة؟
6) اميركا بلد التعددية والديمقراطية.
7) طبيعة التناقض الرئيسي في المجتمع الاميركي: تناقض عِرق ام طبقي؟
* * *
1) لا خلاف على ان القلة من الغزاة الاوروبيين الاوائل قطعوا المحيط الاطلسي هرباً من الاضطهاد الديني وقمع السلطة والكنيسة المسيحية. الا ان الاغلبية الغازية لم تستوطن “العالم الجديد” سعياً وراء حرية التعبد والتدين كما يدعون، بل جاءت وأحلام الإثراء الشخصي تراودها.[2] هذه الدوافع المادية هي التي وقفت وراء قدوم الغزاة الاوروبيين البيض الى اميركا الشمالية حيث حُتم عليهم ان يتصدوا، في مواجهة مباشرة وشاملة، مع اصحاب الارض الاصليين. فقد أتوا غزاة ولصوصاً وقتلة ثم مكثوا على هذه الارض كمستوطنين وتجار ليصبحوا لاحقاً “الاباء المؤسسين” Founding Fathers للدولة الاميركية كما نعرفها اليوم.
2) الطابع الانساني والسلمي للاستيطان الاوروبي ـ الابيض في اميركا الشمالية: يقوم هذا الادعاء على ان اميركا والراسمالية الاميركية لم تقم على الفتح العسكري بل كانت عملية حضارية وسلمية. ومن هنا لا بد لنا من العودة الى التاريخ واستدعاء حقائق ودلالات الابادة الجسدية للهنود الاصلانيين وذلك من اجل تفنيد الادعاء بالطابع الانساني والسلمي للاستيطان الاوروبي ـ الابيض لاميركا الشمالية.
لم يأت المجتمع الاميركي نتيجة مسيرة تطور اجتماعي واقتصادي طبيعي اسوة بغيره من الجتمعات، بل زُرع في اميركا الشمالية، كما ان نظامه الراسمالي بُني على انقاض مجتمع كان قائماً ومتطوراً على مدى آلاف السنين وتدميره تدميراً تاماً في بناه المادية والروحية. لم تكن نشأة المجتمع الاميركي كما يدعون امتداداً سلمياً للمجتمعات الاوروبية بل نتيجة صراع عنيف ودموي أودى بانهار من دماء الهنود الاصلانيين.[3]
اما الحقائق على الارض فهي صارخة لا تقبل التأويل:
ـ لم تكن اميركا الشمالية يوماً خالية من السكان وإن لم تكن مكتظة ديمغرافياً مثل اوروبا او آسيا. لذا فقد توجب على الغزاة الاوائل ان “يفرّغوا” الارض من سكانها الاصليين كي يتمكنوا من السيطرة عليها.
ـ قام المجتمع الاميركي على الفتح العسكري وعلى العنف المسلح والابادة الدموية للشعوب الهندية فضلاً عن حروب المزاحة الكولونيالية التي نشبت بين الاسبانيين والهولنديين والفرنسيين والانكليز من اجل من بسط سيطرتهم على اميركا الشمالية.
3) العنف: الغاية تبرر الوسيلة : لا يخفى ان الاميركي في كل الاتفاقيات والمعاهدات التي أبرمها مع الهنود الاصلانيين على مدى اربعة قرون، عمد الى نقضها والتحايل عليها للوصول الى غايته بقوة السلاح. وفي كل مرة فشل الاوروبي ـ الابيض في الوصول الى مآربه عن طريق المقايضة والخداع والمكر، فانه عمد الى العنف الدموي. هكذا وصلنا الى اميركا اليوم التي قامت على التدمير الشامل لما سبقها من حضارة وثقافة وتشكيلة اجتماعية تمثلت في مجتمعات هندية عريقة تواجدت على هذه الارض لالاف السنين.
4) من هذه الكذبة، توالدت أكاذيب اخرى، منها ان المجتمع البرجوازي (الراسمالي) في اميركا وُلد ولادة طبيعية، مع ان العكس هو الصحيح لكل شاهد على التاريخ وحقائقه: وهو ان البرجوازية الاميركية والمجتمع الاميركي الابيض برمته انحدر من الفاتحين الغزاة الذين استوطنوا القارة الاميركية الشمالية بالعنف والذين إستأثروا بصلاحية الحكم وأهليته وانتحلوا الحق بذلك بالنسل والوراثة.
5) تلقن أميركا ابناءها ان الحدث الفارق والاهم في تاريخها هو الكفاح ضد العرش البريطاني والفوز بالاستقلال الذي دشن ولادة الدولة الاميركية عام 1776. وتضيف الى ذلك “إرثا” من الوثائق الاساسية مثل الدستور الاميركي وإعلان الاستقلال التي شكلت، كما يدّعي مروجو الراسمالية، مساهمة اميركية كبيرة في تقدم البشرية نحو الحرية والإخاء والديمقراطية. هذا هو الخطاب السائد عن اميركا وتاريخها، لا في داخل اميركا وحسب بل وفي العديد من البلدان والمجتمعات وبين جيوش الليبراليين والمرتدين. فالنهج البرجوازي والليبرالي، والعقلية الامريكية التي تستقي اصولها منه، يرتكز دائما على تقطيع اوصال التاريخ سواء الامريكي او العالمي، وفقا لما تتطلبه مصلحة الاوليغارشية والنظام السياسي السائد، فكل فصل تاريخي لا يخدم تلك الاهداف والمصالح يُمحى تلقائيا من الذاكرة الرسمية والشعبية، وفي فقدان الذاكرة التاريخية تكمن احدى نقاط قوة النظام وقدرته على التحكم بسيرورة المجتمع وترسيخ ثقافته السياسية المهيمنة التي تخدم استدامته ولو الى حين.
في هذا الحدث، يكمن، من منظور الخطاب الايديولوجي الراسمالي الذي يروج له منظرو الراسمالية الاميركية، أول فصول التاريخ الاميركي واهمها، أي انه الحدث المركزي في نشأة اميركا، كدولة وكمجتمع ونظام اجتماعي ـ اقتصادي (راسمالي)، وهو ما يتعامى بالكامل عن الوقائع والمراحل الحاسمة التي سبقت ذلك التاريخ. وليس القصد هنا التقليل من أهمية الانتفاضة الاميركية ضد الحكومة الانكليزية، بل فهمها فهماً مادياً وأميناًً، فالاستقلال عن انكلترا ونتائجه امر لا يمكن التقليل من تداعياته وآثاره الماثلة امامنا في تطور السوق البرجوازية المحلية والمجتمع الاميركي ومجمل المسيرة الراسمالية الاميركية.
واللافت ان هؤلاء المنظرين يرون ان تدمير الاوروبي الابيض لبنى الحياة الهندية التي استمرت آلاف السنين على اساس العمل الجماعي والملكية المشاعة، امر طبيعي من اجل اقامة الملكية الخاصة وهو امر لا يعبأون به ولا يتطلب اي شرح او تبرير. وعليه، فان الخطاب الايديولوجي، الذي نجحت في تسويقه اميركا نجاحاً باهراً يقوم، على طمس حقبة كاملة من تاريخها وهي الحقبة الواقعة بين الاستيطان الاوروبي الابيض الذي بدأ برحلات كولومبس الى الشواطىء الاميركية من جهة وصولاً الى الفوز باستقلال اميركا عن الوطن الام ـ انكلترا (1776) (اي ما يسمى بـ”الثورة الاميركية”) من جهة اخرى، ذلك الطمس الذي فرش الارضية للادعاء الكاذب والمجافي لحقائق التاريخ وهو ان “الثورة الاميركية” هي الحدث الفارق والاهم في تاريخ اميركا.
والحقيقة ان ولادة المجتمع والدولة المعاصرين في اميركا، قد شهدت صراعين اجتماعيين عنيفين:
أولا: الصراع بين الاقطاعية والراسمالية الناشئة في العالم القديم (اوروبا من حيث انحدر المستوطنون الاوائل).
ثانيا: الصدام العنيف بين التشكيلة الاجتماعية الهندية والحضارة الاوروبية. وهو الصدام الذي أدى الى تدمير نمط الحياة الهندية ومهّد لنشوء النظام البرجوازي الراسمالي في اميركا الشمالية.
6) ان اميركا بلد ومجتمع يقومان على “التعددية” السياسية (ديمقراطية الحكم والنظام السياسي والحزبي) والعرقية والاثنية والثقافية ـ اي التسامح بين كافة الاعراق والاثنيات والثقافية وقدرتها في التعايش المشترك بل نجاحها في الاندماج في بوتقة واحدة اسمها اميركا حيث تذوب الفروقات في الاصول القومية والعرقية والاثنية والثقافية في مجتمع سعيد وفي ظل دولة الرخاء “والرفاه”.
الا ان حقيقة الامر تتمثل في ان المجتمع الاميركي يواجه اليوم، كما كان عليه الحال عبر تاريخه، ازمات ومشاكل مستعصية ناجمة عن الفوارق الطبقية العميقة والتي تأخذ في الكثير من الاحوال مظاهر التمييز العرقي والعنصري.
7) ان الصراع في المجتمع الاميركي اليوم، وعلى امتداد تاريخه منذ وصول الاروربي الابيض الى شواطئ تلك البلاد، كان في الجوهر والعمق صراعاً طبقياً بامتياز. وان جوهر هذا التناقض، بالرغم من تجلياته العرقية والاثنية والدينية العميقة التي لا مفر من الاقرار بانها تمزق النسيج الاجتماعي في اميركا، يظل طبقياً متمحوراً حول الهيمنة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية للبيض على حساب “الآخر”[4] وتهميشه، واذا استعصى الامر فإبادته (الهنود الاصلانيون) او/و استعباده (السود الافارقة)، او الحد من هجرته وحرمانه من العمل وتحصيل لقمة العيش (قانون إستثناء الصينين لعام 1882 Chinese Exclusion Act).
ان ما يدور اليوم في الحراك الاجتماعي الراهن في اميركا وما يحتدم تحت ما يبدو ساكناً في ظاهره، هي حرب ضروس وإن كانت اقل دموية وعنفاَ، تتمركز في إلاخضاع الطبقي، وبالطبع العرقي والاثني والعنصري والثقافي، لكافة فئات وطبقات المجتمع وخاصة الملونة غير البيضاء ولكن ايضاً الفقراء والمهمشين من البيض، إخضاعها للهيمنة الطبقية الراسمالية الاميركية وتعزيز إستعلاء المركزانية الاوروبية ـ الاميركية وتأبيدها.
الا ان هذا لا يتناقض، في الذهنية الراسمالية الخبيثة، مع إتاحة بعض الحيزٍ من الحريات ومظاهر الديمقراطية والتمظهر بقبول الآخر وتعدديته (في مختلف مستوياتها)، وحتى السماح لبعض من هذا الآخر (غير الابيض) من التفوق والامتياز كما هو حاصل مع السود الاميركيين في ميادين الرياضة والموسيقى والغناء وحتى وصول واحدٍ منهم الى البيت الابيض، طالما انه يضمن “السلام الطبقي” والاجتماعي ويضبط الحراك السياسي والاجتماعي ومحدودياته ويجهض مفاعيل الثورة والتغيير الجذري.[5]
[1] وفي هذه الخلاصة مصداقية للحكم الذي توصل اليه كارل ماركس عندما وصف درجات الجشع الراسمالي بقوله “بنفس المقدار الذي يتضاعف به معدل الربح يتنازل الراسمالي عن جوهره الانساني”، ومصداقية لمقولة الامام علي بن ابي طالب التاريخية بخصوص الفقر والغنى، اللذين يشكلان تجليين طبقيين متزامنيين في سياق اجتماعي واحد، عندما تطرق الى التباين الاجتماعي المتعارض، بقوله “ما اغتنى غني الا بما افتقر به فقير”. يمكن مراجعة “كنعان” الالكترونية، العدد 1884 بتاريخ 6 مايو2009.
[2] وصلت الموجة الاولى من المستوطنين الناطقين بالانكليزية عام 1620 هروباً من الاضطهاد الديني، ثم لحقت بها الموجة الثانية عام 1630 والتي حملت الى اميركا الشمالية مَنْ عرفوا بـ ” البيوريتانيين” (أي الطهوريين) الذين جاءوا طواعية كي يؤسسوا كنائسهم بحرية ويمارسوا شعائر عبادتهم من دون قيود او تدخل من ملك انكلترا او أسقفها. وعلى خلاف هاتين الموجتين من المستوطنين الاوائل الذين تميزوا بالتدين والتعبد، فان مَنْ أتى بعدهم كان مدفوعا بالجشع والربح واقتناء الارض والإثراء أكثر من رغبته في التعبد والتقوى. قبل هذا التاريخ كان كثير من المجرمين الاوروبيين يعاقبون بنفيهم الى امريكا لتاديبهم وتاهيلهم بالاشغال الشاقة وتطهير الارض من اصحابها الاصلانيين.
[3] لاحظ هنا اوجه الشبه العديدة والمذهلة مع الاستيطان الصهيوني في فلسطين المحتلة وفي ممارساته اليومية في تشريد الشعب الفلسطيني والاستيلاء على اراضيه. وكذلك أوجه الشبه في الادعاءات الكاذبة التي قام عليها المشروع الاستيطاني الابيض في اميركا الشمالية من جهة، والآخر الاستيطاني الصهيوني في فلسطين من جهة اخرى، وكون الاول هو الاصل والاقدم والثاني جاء مستفيداً ومتعلماً من الاول. وتشير بعض التقديرات، على الرغم من تعددها واختلافها، الى ان عدد الاصلانيين الذين ابيدوا في عموم القارة 112 مليون وحوالي 50 مليون اسود من اصل 60 مليون صيدوا واقتلعوا من افريقيا.
[4] لهذا الآخر العديد من التسميات، يجمع بينها غياب الاصل الاوروبي الابيض والبشرة البيضاء، أهمها غير الابيض، الملون، الاسود، اللاتينو، الاصفر وغيرها.
[5] يحضرني الآن ما قاله لي صديق حول فوز اوباما بالرئاسة الاميركية ان الاوليغارشية الامريكية لن تتورع في يوم ما، عن ترشيح وتنصيب عربي مسلم ذي لحية وعمامة خضراء لمنصب رئيس الجمهورية، اذا ما توصلت الى قناعة بان ذلك يخدم ويحمي ويديم مصالحها الطبقية داخل امريكا، ومصالحها “القومية” في علاقاتها الدولية. قد يكون في القول بعض التفكه، الا ان هذا لا يخفي المغزى: فرأس المال لا لون له ولا عرق ولا عنصر ولا وطن ولا امة ولا قومية.