في ذكرى استشهاده

في ذكرى استشهاده

مقالة لمهدي عامل

هو التناقض، نسغ الأحداث، به تكون الحركة. وبه الأشياء جميعا تتماسك في وحدتها، وتصير. حكمة أطلقها قدماء الإغريق، و أكدها أصحاب الفكر المادي الحديث. في ضوئها نقرأ الراهن: إنه زمن الإحتلال. لكنه زمن المقاومة الوطنية، في آن. بالضد يقوم الضد، ومن صراع الضدين ينبلج الزمن الآخر. هكذا يتكون لبنان في وطن: ضديا. ككل الأوطان.هكذا يتوحد ضد المحتل وأعوانه.

1

ما كان من قبل وطنا. كان ما أرادته البرجوازية أن يكون: تسوية بين الطوائف. لواحدة منها حق الهيمنة، وللأخرى حق المشاركة في خضوع. على قاعدة هذا التوازن الهيمني قامت دولة البرجوازية، إطارا مؤسسيا فيه تتجدد الطوائف، فيفتقد الشعب وحدته، ويظل الوطن قابلا للتفتيت. يتأمن شرط أساسي لتجدد سيطرة البرجوازية: ألاّ يتكون نقيضها الطبقي في قوة سياسية مستقلة. وهذا شرط وجود الديمقراطية الطائفية و ديمومتها. هكذا كانت البرجوازية تسيطر و تحكم: تعيق، بدولتها الطائفية إياها، سيرورة توحيد الشعب و تكوين الوطن. وهي، حتى عشية الحرب الأهلية، سيرورة موضوعية من التطور الديمقراطي. وهي سيرورة نضج الصراعات الطبيقية، فيها أخذت تتصدع دعائم البناء الطائفي، فدب الهلع في قلب البرجوازية: كيف يقوم نظام سيطرتها الطبقية إذا تصدعت دعائمه الطائفية؟ كيف يدوم لها ملك إذا توحدت جماهير الطبقات الكادحة ضدها؟ كيف تسود على “طوائف” إذا اكتشفت هذه الطوائف” في ممارستها النضالية، هويتها الطبقية.

2

وحسمت البرجوازية أمرها. أو قل للدقة إن فئة منها حسمت. وهي المهيمنة بالمطلق، الناطقة باسم الكيان والنظام، وباسم الزمان أيضا. ربما ليست كذلك. وهي، بالطبع، ليست كذلك، لكنها طرحت نفسها كذلك، بأدوات الفكر و القهر و السياسة، و بقوة السلاح أيضا، وما خالفها أحد من أطراف البرجوازية، ما تجرأ منها أحد على مخالفتها، أو الوقوف ضدها، فتقدمت الجميع، وفرضت على الجميع قيادتها، في صفاء طائفي و طبقي كلي. رسمت للمستقبل أفقا. قالت: يكون لبنان على نموذجه الأمثل، أو لا يكون. ونموذجه اسرائيل. يكون، إذن، فئويا طائفيا صرفا. ولشيء من الديمقراطية، يكون وطنا قوميا لمسيحيي الشرق، كإسرائيل ليهود العالم. ويكون حليفا لإسرائيل، مطيعا لسيده، وسيد الإثنين أمريكا. ولن يكون إلا ما كان، من آلاف السنين، واحدا لا يشبه أحد، فهو الذي هو، لايشبه إلا ذاته. و هويته ألا يكون عربيا. بل ضد العرب يكون، لا سيما إذا كان العرب ضد اسرائيل، وضد أمريكا. هكذا يتوحد في هويته، فمن قبل بها، كان منه، وإلا فليرحل.

3

و اكتمل الرسم مشروعا كانت الحرب الأهلية، في وجه رئيسي منها، محاولة لتحقيقه. أسلمت البرجوازية طوعا أو قسرا، لتلك الفئة قيادة مصالحها، علّها تنقذ من الإنهيار نظامها. رفضت طريق التطور الديمقراطي، واحتكمت إلى الحرب، تخوض فيها عملية إنقاذ. ما طاق نظامها وجود نقيضها الطبقي فيه كطرف من تناقض سياسي هي طرفه الآخر. ما طاق الإختلاف و حركة التناقض في وحدة الإختلاف. كأن شرط وجوده أن يكون الواحد بالمطلق، لا شريك له في الحكم و السطوة، لا نقيض له في الملك والسلطان. و الواحد دوما يستبد، في الفكر كما في السياسة. يستعبد، أو يستتبع. يلغي الآخر، إن كان الآخر مختلفا. فإذا وجد المختلف- كما في ذاك النظام، عشية الحرب الأهلية- نزع النظام إلى فاشيته، يؤكد فيها واحديته، واستحالت طائفيته عنصرية تستبدل التسوية بحق الهي. وفي هذا عين فشله. كأن الإنقاذ يكون بالإنهيار. وبالتناقض تكون الحركة، ساخرة بمن يضن أنه سيد الحركة.

4

و انتهت الحرب إلى حرب كانت البرجوازية فيها، كلما اصطدمت بمأزقها، تستدعي دوما قوة خارجية، لتساعدها على اخراج قوة خارجية أخرى كانت قد استدعتها من قبل. وما كانت البرجوازية يوما حريصة على استقلال الوطن و سيادته. وما كانت يوما حريصة على وحدته. هكذا استقوت بغزو اسرائيلي أسهمت في استقدامه، و شاركت في توجيه ضرباته، واستعانت به على من ترى بهم أعداءها الطبقيين، في الداخل والخارج، فوصل من وصل، وراحت الدولة تأخذ وجه الغالب.

5

لكن، هل انتصر من وصل؟ هل انهزم المهزوم حقا؟ وبمن كان النصر؟ لمن كان؟ وهل كان نصر؟

6

غلب الغالب. لم ينتصر. لإسرائيل انتصر. ضد لبنان وأرضه. ضد لبنان و شعبه. ووفيا كان في هذا لماضيه: ينحاز دوما للأجنبي، و يسمي مثل هذا الإنحياز و طنية. ثم يعلن أن لبنان قوي بضعفة، سيد بتبعيته، مستقل باحتلاله. فهو البارع في الجدل، الشاطر في قلب الأشياء نقائضها. يتذاكى ويسرّ. غلب الغالب باسرائيل، فوصل. واكتشف – هل اكتشف؟ – أنه المغلوب على أمره. أليس طريفا أن يتمسك الغالب بأذيال المحتل، يستجديه ابقاء احتلاله، و المحتل يتهدده بانسحابه؟ بارع في الجدل حتى المهزلة. إنه الغالب. بئس هذه الغلبة.

7

حتى لاسرائيل، لم يكن نصر. ها قد دخلت حربها، التي أرادتها خاطفة، في عامها الثاني، ولما تنته بعد. إنها الخامسة من حروبها . لكننا، للمرة الأولى نحارب. إذن، تخرج اسرائيل من لبنان طردا،بعد أن تنزف أبناءها. هكذا أخرجناها من بيروت. و نداءات الجيش الإسرائيلي ما زالت تتردد: “يا أهالي بيروت الكرام نرجوكم لا تطلقوا الرصاص على جنودنا سنرحل عنكم”.

وأخذنا نقهقه. خاتمة الحرب هزيمة اسرائيل، ابتدأت في بيروت، فكانت بيروت فاتحة الدرب. وسرنا في منطق حريتنا نبني وطنا ضد المحتل، نوحد شعبا ضد الفاشست. نقاوم.

:::::

مجلة “الطريق”، العدد الثالث، آب 1983