نشأة الرأسمالية

نشأة الرأسمالية الاميركية ومحو الآخر

(قراءة في العدو الرئيسي)

الجزء الثالث والاخير

مسعد عربيد

سمات التشكيلة الاجتماعية ـ الاقتصادية الهندية

إزدهرت في اميركا الشمالية قبل وصول المستوطنين البيض مجتمعات هندية اصلانية. وسوف نعرض فيما يلي بايجاز بعض السمات العامة لهذه التشكيلات الاجتماعية ـ الاقتصادية للتدليل على حتمية التناقض بينها و بين الراسمالية الاميركية التي عمدت منذ نشأتها الى تصفيه هذه التشكيلات وكافة اشكال انتاجها وحياتها وانجازاتها لتفسح المجال لقيام الدولة الاميركية الراسمالية: أميركا اليوم.

1) نمط الحياة القبلية

إنتظمت التشكيلة الاجتماعية ـ الاقتصادية للهنود الاصلانيين في إطار المئات من القبائل الصغيرة والكبيرة التي كانت موزعة في أطراف القارة الاميركية الشمالية والتي شكلت وحدات اقتصادية ذات إكتفاء ذاتي تجمع بينهم صلة القرابة والعلاقات الاسرية  وقد تميزت هذه التشكيلات بالالتصاق بالارض والتمسك بمواردها الطبيعية، فكانت الرابطة بينهم وبين الارض تفوق في كثير من الاحيان، الرابطة بين القبائل بعضها ببعض. ويرى بعض المؤرخين والمحللين ان هذا كان احدى الميزات السلبية في الصراع مع الاروربي الابيض حيث لم تكن القبائل الهندية متوحدة في مقارعتها لهؤلاء الغزاة مما ساعد على زرع الفرقة بينها وتأليب قبيلة على اخرى. فبالرغم من الهوية المشتركة والبنية الاجتماعية ـ الاقتصادية المتشابهه التي كانت تجمع بين القبائل الهندية، إلا ان رابطة المصالح المشتركة كانت ضعيفة.

ومع تطور الظروف والاوضاع المادية، وبسبب شحة ومحدوديات اقتصاد الصيد الذي ساد في تلك الآونة، كان لا بد للهندي من ان يطور الزراعة ورعاية الماشية، مما نقل الاقتصاد من انشطة “جمع” الغذاء وتحصيله من مصادر الطبيعة، الى “إنتاج” الغذاء. إلا ان الهنود ظلوا متمسكين بالتواضع في المأكل واستهلاك القليل منه بما لا يتجاوز احتياجاتهم، فاكتفوا، على سبيل المثال، بحوالي اربعين صنفاً من المزروعات كان أهمها الذرة والحبوب والبندورة والبطاطا.

أمّن العمل الزراعي وتطوير نمط الانتاج الزراعي ـ الذي استند اساساً الى انتاج الذرة ومنتوجاته الغذائية ـ للهنود استقراراً ومنحهم فرصة بناء القرى الهندية الصغيرة حيث ترعرعت الجماعات السكانية وازدهرت الحياة الهندية الاميركية وحضاراتهم الثرية وخصوصاً حضارات قبائل المايا والآستك في المكسيك Maya Aztec,. إلاّ ان الانتاج الزراعي الهندي ظل بدائياً إذ لم يطور الهندي الآلات والمعدات اللازمة لمضاعفة الانتاج والايفاء بالاحتياجات الغذائية المتزايدة للهنود بفضل النمو الديمغرافي وارتفاع تعداد القبائل الهندية،[1] فبقي متخلفاً من الناحية تطوره التكنولوجي إذا ما قورن مع ما أحضره الرجل الابيض معه من وسائل وأدوات كان قد طورها وحسنها عبر عملية تاريخية وتراكمية طويلة. وقد شكّلت هذه التحسينات التكنولوجية لاحقاً حجر الاساس في البنية الراسمالية الاوروبية البيضاء في اميركا الشمالية. غير انه تجدر ملاحظة ان الاوروبي الابيض قد أحضر معه، فضلاَ عن التحسينات التكنولوجية والوسائل التقنية، أشكالاً مختلفة من الملكية وقيماً غريبة عن نمط الحياة الهندية: واقصد هنا أشكال الملكية الخاصة والعلاقات الانتاجية والاجتماعية المعبرة والناتجة عنها.

2) الملكية المشاعة

لم يعرف الهنود يوماً ما يسمى بـ”الملكية الخاصة للارض”. فالارض عندهم كانت وسيلة الانتاج الرئيسية ولكنها كانت ايضاً مصدر كل الخيرات. وحتى لحظة وصول الاوروبي الابيض الى شواطئ اميركا الشمالية، لم يكن هناك فدّاناً واحداً من المحيط الاطلسي الى المحيط الهادئ، مما يكمننا اعتباره ملكية خاصة لفردٍ ما يتصرف به كما يشاء او يستخدمه لغير ما هو مشاع وجمعي او لما لا يعود بالنفع على القبيلة باسرها. بالطبع كان للهنود الاميركيين بعض أشكال الملكية الخاصة (المقتنيات والممتلكات الشخصية البسيطة). إلا ان ما اقصده هو ان سكان اميركا الشمالية الاصليين لم يعرفوا اياً من اشكال الملكية الخاصة بالمفهوم الراسمالي والاوروبي الابيض: اي الملكية الخاصة لوسائل الانتاج وتوزيع الثروة. كما أن ملكية الهنود لاحتياجاتهم الاساسية في الانتاج الاقتصادي (الصيد والزراعة) وفي الحروب والدفاع عن الارض بقيت ملكاً مشاعاً وجماعياً للقبيلة باسرها. وكذلك كان الامر لدى توزيع منتوجاتهم والتي كان يتم توزيعها على كافة افراد القبيلة.

3) نمط الانتاج: الشيوعية البدائية

يشكل نمط الانتاج وتوفير الاحتياجات المعيشية اليومية، النابع من البيئة الجغرافية والظروف الاقتصادية، العامل الرئيسي في التناثر الجغرافي للهنود الاميركيين وتوزعهم على قبائل صغيرة منفصلة عن بعضها البعض. وعلى الرغم من اختلاف الظروف التي عاشت تلك القبائل في ظلها، وإختلاف الواحدة منها عن الاخرى ومن منطقة الى اخرى، بما فيها اختلاف نمط الانتاج، إلا ان السمات الاساسية للبنية الاقتصادية ظلت مشتركة بين هذه القبائل. فعلى سبيل المثال تطور اقتصاد الصيد على اختلاف انواعه، صيد الاسماك أو الثيران أو الغزلان، والى حدٍ ما أشكال الانتاج الزراعي المختلفة، ليتوافق مع العيش في بقعة جغرافية محدودة يسيطر عليه الهنود ويستطيعون التحرك داخلها.

على ارضية هذين العاملين، تنوع الظروف البيئية والاقتصادية واختلاف نمط الانتاج، تشكّلت البنية الاجتماعية للقبائل الهندية وتكامل نموها وتطورها من حيث تنظيم شؤونها وسن القوانين التي تحكمها وتضبط احوالهم، فجاءت القوانين لتتوافق مع الاوضاع الاقتصادية ومع نمط الانتاج. وعلى وقع خطوات هذه المسيرة في التطور شكّل الهنود الاصلانيون في اميركا عاداتهم وتقاليدهم وطرائق عيشهم ورؤيتهم للبنية الاجتماعية (القبلية) وتوزيع القوى العاملة والعلاقات بين الجنسين والعلاقات العائلية، فضلاً عن انشطة حياتهم الاسرية والاجتماعية. وبسبب هذين العامين وأثرهما الاقتصادي، توزع الهنود على مئات من القبائل الصغيرة والوحدات الاجتماعية والقبلية المتناثرة على مدى حيز جغرافي شاسع في عرض اميركا الشمالية وطولها.

في مواجهة هذه البنية الاجتماعية ـ الاقتصادية المتماسكة على مدى قرونٍ طويلة، لم يكن امام الاوروبيين البيض في صراعهم مع سكان البلاد الاصلين وفي مسعاهم للاستيلاء على الارض أي خيار سوى إقتلاع الهنود من اراضيهم وتشريدهم وإبادتهم.

4) الارض: مصدر الحياة

(موقفان متناقضان من مسألة الارض)

الارض من منظور الهندي الاصلاني: لعبت الارض (امتلاكها واستخدامها وإستثمار ثرواتها وتوزيع خيراتها) دوراً مركزياً في كافة مراحل التاريخ الاميركي، منذ قدوم الغزاة الاوروبيين وعبر صراعهم الوجودي مع الهنود الاصلانيين مروراً بصراعهم مع العرش البريطاني وانفصالهم عنه (ما يسمى بالثورة الاميركية) وصولاً الى الحرب الاهلية الاميركية ومسألة الارض في الولايات الجنوبية. وفي كل محطة من هذه المحطات التاريخية، وفي القلب منها، كانت ملكية الارض هي المحور المركزي للصراع، لذلك شهدنا انتقال ملكية الارض عبر المراحل التاريخية المختلفة من يد الى يد ومن عِرق الى عِرق وبين الافراد والطبقات ايضاً.

كانت الارض عند الهندي الاميركي منبع الحياة ومصدر الماء والغذاء وكل الخيرات، وعلى سطحها وفي جوفها تختزن ثروات الحياة والطبيعة. وكذلك تصدرت الارض موقعاً متقدماً ومركزياً في ثقافة الهندي الاصلاني ونظم قيمه وفلسفته وحتى تعبده. وعليه، لم تقتصر علاقة الهندي بالارض على حياته الانتاجية والاقتصادية، بل طالت كافة مناحي حياته الاجتماعية والروحية والفلسفية والدينية. على هذا النحو نسج الهندي علاقته بارضه، وهكذا أحبها فكان مالكها الطبيعي. توارث الهنود هذه القيم مع تقادم عيشهم على تلك الارض فتمسكوا بها وحافظوا عليها حفاظهم على حياتهم ووجودهم ومستقبلهم. ولهذا، دافع الهندي عن ارضه حتى الموت وحارب الغزاة من المستوطنين البيض كما حارب في كثير من الاحيان القبائل الهندية الاخرى عندما حاولت تلك غزو ارضه والاستيلاء عليها.

الارض في الذهنية الراسمالية ـ الاروربية البيضاء: على خلاف عقيدة الهنود الاصلانيين، اختزلت مسألة الارض في الذهنية الراسمالية في ملكيتها. فالملكية الخاصة للارض (ولكافة وسائل الانتاج) تظل دوما في ايدي راس المال. في هذه الحقيقة، على وضوحها وبساطتها، يمكننا ان نختصر التاريخ الاميركي على مدى قرونه الاربعة وهو ما يشهد عليه الواقع الراهن: فَمَنْ يملك أفضل الاراضي اليوم في اميركا هم البنوك وشركات التأمين والشركات الراسمالية الكبرى وبعض الكنائس، اي القلة الثرية (الاوليغارشية).

في كل هذا، كان للاوروبي الابيض، ذي النزوع الجامح نحو الربح والإثراء، رأياً مختلفاً. فقد نظر الى الارض وما عليها من خيرات وبشر من خلال عيون أتت من بعيد، ومن سياق حضاري وتاريخي مغاير، ومن ثقافة قامت على اسس ومفاهيم مناقضة لقيم الهندي الاميركي، والأخطر ان نظرة المستوطن الابيض للارض جاءت في اطار مشروع استيطاني يسعى الى الاستيطان اولاً فالهيمنة فالنهب. وعليه، كان كل شيء، بما فيه الارض والانسان وكل خيرات الطبيعة، سلعة يمكن تحويلها الى ملكية خاصة تعني ببساطة، من منظوره، حقه الحصري في تلك الارض (السلعة) وحرمان الاخر افراداً وجماعات، بل والبشرية جمعاء، من استخدامها للمصلحة العامة  او من خلال الملكية الجمعية والمشتركة لخيرات الطبيعة وثرواتها. كانت تلك هي “طبيعة الامور” وعاديات الحياة لدى الاوروبي الابيض التي حملها معه عندما غزا الشواطىء الاميركية.

ففي حين استخدم الهندي الاصلاني الارض من اجل الصيد او الانتاج الزراعي والايفاء بالاحتياجات الانسانية في الغذاء والبقاء، سعى الاوروبي الابيض الى الاستيلاء على الارض وامتلاكها لمنفعته الخاصة، وذلك من أجل بسط سيادته عليها واستغلال خيراتها لاقامة ملكية الاثرياء. وحيث تطلب مشروع الربح والإثراء هذا الاستيلاء على مساحات شاسعة من الاراض واستخدامها في الزراعة على نطاق تجاري واسع، قام الاوروبي الابيض بتدمير الاشجار والغابات كي يستخدم الخشب في بناء مستوطناته والمتاجرة وبناء المصانع، أي من اجل الملكية الخاصة والسعي وراء الربح والتراكم الراسمالي.

يمكننا ان نوجز القول دون تحامل بانه لم يكن في ذهن الاوروببين البيض، حين غزوا اميركا الشمالية (والجنوبية ايضاَ) سوى امراً واحداً: ان هذه الارض وكل ما عليها وكل ما تنتجه يؤول الى واحد من إثنين: ملكية الفرد وثروته، او ملكية الملك (الدولة) في اوروبا وبالطبع الكنيسة ايضاً. ولم يكن الانسان، الذي عاش على هذه الارض لآلاف السنين قبل قدوم الاوروبي الابيض، استثناءاً لهذا القانون الاجرامي. وعليه، فالغازي الابيض لم يغتصب الارض وحدها بل والانسان أيضاً. وكما اصبحت الارض مصدراً للزراعة وتربية الماشية، كذلك رأى الابيض في الهندي الاصلاني سلعة وملكية خاصة وأجيراً للصيد ورعاية الماشية وغيرها.

قد يقول قائل ان ملكية الابيض للارض إستحضرت وسائل التقدم التكنولوجي والازدهار الاقتصادي. وهذا صحيح. ولا أخال ان بيننا مًنْ يعارض التقدم البشري في كافة مجالاته (التكنولوجية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية)، إلا ان مربط الفرس كان دوماً، من منظور راس المال الاميركي، أن مَنْ يملك الارض هو الذي يتحكم بتوزيع الثروات. لذلك كان تدمير الشيوعية البدائية ضرورة تاريخية لنشأة وتطور الراسمالية الاميركية، لان هذا النمط الذي طوره الهنود الاصلانيون لحياتهم وانتاجهم واقتصادهم إستند في الجوهر الى الملكية المشاعية للارض وخيراتها ورفض كافة اشكال الملكية الخاصة لها ولغيرها من وسائل الانتاح حتى الماء والغذاء وغيرها من المقتنيات. وبوسعنا ان ندفع بهذا التحليل الى الأبعد لنقول: ان نشأة الراسمالية الاميركية والعلاقات البرجوازية في المجتمع الاميركي (الجديد) وعلى هذا النحو السريع والمدهش، كانت مرتبطة بالقدر وبالوتيرة التي كان يتم فيها تدمير البنى والمؤسسات الماقبل راسمالية، اي بنى ومؤسسات التشكيلة الاجتماعية ـ الاقتصادية للهنود الاصلانيين.

حول طبيعة التناقض: عِرقي أم طبقي؟

كان التناقض ـ الذي حكم العلاقة بين الاوروبي الابيض والهندي الاصلاني منذ كانت المواجهة الاولى بينهما وضبط حراكها ووتيرتها الدامية ـ في جوهره تناقضاً بين نمطين من الانتاج والاهداف والمفاهيم. لذلك راى الهندي الاميركي انه لا محالة من مقاومة الابيض وإقصائه عن الارض إن كان له ان يحافظ على وجوده ونمط عيشه واقتصاده ومؤسساته اي الحفاظ على الشيوعية البدائية التي طوروها عبر قرون عديدة وتناقل إرثها ومفاهيمها عبر الاجيال.

أودت هذه الحروب الدامية، التي شملت ايضا الحرب الجرثومية، حيث تسجل الرواية التاريخية ما لا يقل عن 91 حالة ابيدت فيها مجموعات قبلية هندية بموض الجدري القادم من اوروبا، الى تشريد الهندي الاصلاني وإبادته عبر مشروع طال عقوداً طويلة وتحققت اهدافه على مراحل متعددة، بالرغم من المقاومة والصمود اللذين أبداهما الهنود، مما اضطرهم الى تغيير بعض عاداتهم وتقاليدهم وحتى قيمهم من اجل الحفاظ على بقائهم والتكيف مع الواقع الجديد: الواقع الذي فرضه الاوروبي الابيض وهيمن فيه بقوة العنف المسلح على الارض والانسان.[2]

كتب مؤرخو البرجوازية الاوروبية البيضاء سردهم لتاريخ اميركا، من منظور المركزانية الاوروبية ورؤية الغرب الراسمالي وبوحي من المصالح الطبقية للراسمالية الحاكمة في اميركا. ربما نستطيع في هذه الجملة على بساطتها، ان نختزل ما يتعلمه الاميركيون في مدارسهم وما يتلقنه العالم عن صورة اميركا حاضراً وماضياً، تلك الصورة  التي يقدمها السياسي والمثقف والاعلامي الاميركي المدججين بالادعاءات الكاذبة والمتسلحين بامكانيات مادية وتكنولوجية هائلة.

يريد الخطاب الراسمالي والمركزاني الاوروبي ان يوهمنا ان الصراع بين الاوروبي الابيض والهندي الاصلاني كان صراعاً عرقياً. ولا شك ان الكراهية بين هذين العرقين شكلت احد الابعاد والعوامل الهامة في تسعير الاقتتال بينهما. الا ان هذا الصراع، في العمق والجوهر، كان صراعاً اجتماعياً طبقياً بين نمطين اجتماعيين ـ اقتصاديين متناقضين حيث جاء النمط الغازي حاملاً مشروعه في الاستيلاء على الارض ونهب مواردها، ومدعياً التفوق على الاصلاني فَهَبَ هذا الاخير للدفاع عن مصالحه ووجوده ومستقبله. وبعد ازاحة القشرة العرقية ولون البشرة فان التناقض يبقى تناقضاً اجتماعياً طبقياً تناحرياً حول مصادر الثروة وامتلاكها (ارض وموارد طبيعية وبشرية) وتوزيع انتاجها. لهذا، وبسبب الطبيعة التناحرية لهذا التناقض، لم تكن هناك امكانية للمصالحة بينهما او الحلول الوسطية والتوفيقية، فهو صراع وجودي شامل بامتياز، تماما كما هو الامر في فلسطين العربية. لم يكن هناك حيزاً للتناغم او التعايش فكان على احد النمطين ان يدمر النمط الاخر ويزيله كما يزيل المرء حجر عثرة في طريقه. وهذا ما حصل.

خاتمة

تُسلط حقبة إبادة السكان الاصليين في اميركا والوسائل الوحشية والبربرية التي استخدمها الاوروبي الابيض في إنجاز هذا المشروع، الضوء على ان هذا النظام الراسمالي متأصل في محو الآخر وانه خلافاً لمزاعمه الاخلاقية والدينية، لا يتوانى عن استخدام كافة الوسائل والاسلحة في حروبة نحو الهيمنة والنهب والربح، وانه لا فرق بين الامس واليوم. أليس هذا ما شهدناه في الحروب الاميركية من فيتنام الى العراق! ألا نخشى ان يتكرر المشهد ذاته في ليبيا اليوم ومًنْ يدري اين ستكون الضحية القادمة!

ما من احد يستخف ببطش الامبريالية الاميركية وقدراتها العسكرية والتكنولوجية في التدمير الشامل لكل ما تقع عليه يداها، وليس هناك مًنْ يدعي انه يملك القدرة على الصمود امام جبروتها او تحقيق النصر عليها. الا ان التاريخ يعلمنا ان الحال مع الامبراطوريات لم يكن مختلفاً، ويعلمنا ايضاً ان النصر كان دوماً حليف الشعوب التي تتسلح بالوعي والارادة والقدرة على ادارة كفاحها معولة على اساليب حرب الشعب وادوات المقاومة الشعبية.

انه لمن الغريب حقاً الا تجد شعوبنا العربية والانسانية جمعاء، العبرة الواضحة في هذا التاريخ المديد من كفاح الشعوب وصمودها امام جرائم القتل والتدمير الامبريالي للآخر.

ان الامبريالية الاميركية بطبيعة راسماليتها الحاكمة لا ترى ولا تبحث إلا عن الارباح الخيالية في حروبها المسعورة من اجل الهيمنة والنهب، وانها لا تجد في الانسان والبيئة والطبيعة وخيراتها وكافة شعوب الارض سوى مشروعاً للربح. وبالمكيال ذاته فانها لا ترى في العربي الا مصدراً للثروة والنفط والطاقة والمواد الخام. بكلمة، اميركا ترانا من خلال عدسة الربح. وفي مسعاها هذا، فانها لا تتوانى عن استخدام كافة وسائل واسلحة وتكنولوجيا القتل والتدمير وحتى الابادة الشاملة. وينبغي الا تخدعنا الاهداف المعلنة لحروب “الامبريالية الانسانية” والهراء الذي دعا اليه شليزنجر من تحول امريكا من امبريالية الى “امبراطورية انسانية”، وهي اهداف تبدو على الدوام “نبيلة” وانسانية في كل مرة و”مدافعة” عن المدنيين الابرياء من خلال “تدخلاتها الانسانية” من بغداد الى طرابلس ولكن دون المرور بفلسطين فهذا يخالف القانون الدولي وشريعة رب راس المال.

ما زال بيننا الكثيرون ممن يحتاجون الى القراءة التاريخية الهادئة والموضوعية للتجربة الاميركية “الباهرة”. بل ما زال الكثيرون من المغتربين العرب في المهجر الاميركي ينظرون الى الواقع الاميركي ولا يبصرون على الرغم من انهم يعيشون يومياً ما تقوله اميركا وما تفعله.

تُرى كيف يقف العقل العربي، امام هذا القدر الهائل من حيثيات التاريخ، محتاراً ومتسائلا يراوده الشك وكأنه لا يصدق ان اميركا ـ زعيمة الغرب الراسمالي قادرة على إقتراف كل هذه الجرائم والمذابح؟

هل يعقل ان يصل الإفتتان بهوليوود وسي إن إن CNN وغيرها من “المعجزات الاميركية” الى هذه الدرجة من الحيرة والتساؤل؟

وهل يحق لهذا العقل في هذه اللحظة العربية والانسانية الدامية ان يقف محايداً او متوطئاً امام هذا الجرائم التي تقترفها اميركا والتي حصدت في حروبها ملايين الارواح البريئة؟

ألم يبن الاوروبي الابيض مجتمعه على انقاض الملايين الاصلانيين؟ ألا تستمر اميركا في حروبها كي تضخ الارباح في جيوب راس المال وكي تضمن للاميركي هذا المستوى من العيش الرفيع والرفاه حتى وإن كان على حساب إفقار الشعوب ومعاناتها.

* * *

تتعذر مقاومة الامبريالية الاميركية ومناهضة سياساتها واستراتيجياتها في بلادنا وكافة انحاء العالم دون فهمها الذي يستدعي:

ـ ضرورة تعرية الاساليب التي استخدمتها الراسمالية الاميركية الناشئة في الصعود الى مواقع القوة والهيمنة وفرض الاستعلائية البيضاء، تلك الاساليب التي لم تتغير من حيث الجوهر، بل على النقيض إزدادت وحشية وبطشاً بفضل تطوير تكنولوجيا القتل والتدمير.

ـ وفهم المصالح الطبقية للطبقة الحاكمة في “اميركا” ووجوب الربط بين الداخلي والخارجي في سياساتها واستراتيجياتها وبين الماضي والحاضر وعدم الفصل بينهما.

من دون هذا الفهم لا تستطيع قوى المناهضة من كل الشعوب ان تفهم حقائق التاريخ الاميركي والسمات الاساسية للطبقة الحاكمة في اميركا التي تبسط سيطرتها على اجزاء كبيرة من هذا العالم.[3]

* * *

لم يعد امام شعوبنا متسع في الزمان والمكان ولا حتى في التاريخ، لكي نعي ان الامبريالية الاميركية هي اليوم عدوها الرئيسي وستبقى كذلك على مدى المستقبل المنظور. اما الأدلة على ذلك فليس هناك من حاجة اليها، فيكفينا ان ننظر من حولنا وان نطوف في شوارع بلادنا وحالة شعوبنا وفقرها وفي استبداد حكامنا والانظمة التي تثور ضدها شعوبنا اليوم. وليست مقولة “اميركا العدو الرئيسي” تعبيراً عن حقد او كراهية للابيض او الاوروبي او لاي عرق او اثنية، وليست دعوة شوفينية، بل هي حصيلة قراءة موضوعية للحاضر والتاريخ الاميركيين واستشراف لمخاطر هذه الراسمالية على راهن الانسانية ومستقبلها.

يتعين علينا الآن، ونحن نعيش هذا الزمن الاميركي (او القرن الاميركي كما يحلو لاصحابه ان يسموه) مهما طال او تبدى لنا انه يطول، ومهما رُوج له بانه خالد لا يزول، أن نعي انه ايضاً زمن عابر وأن “اميركا” ليست سوى عربة قطار يمر سريعاً ثم يتلاشى أفق الانسانية والتاريخ، وان الانسانية في كل زمان ومكان في حراك مستمر لا يتوقف نحو الانعتاق من كافة اشكال الظلم والاستغلال، وانها ، “اميركا”، اليوم هي سلطان الظلم والقهر والاضطهاد لانها آلة الحرب والاستغلال والنهب. يجدر بنا ان نستلهم التاريخ في قراءة علمية هادئة وان نعي بان “اميركا” تؤول الى الزوال وسوف يعبرها الانسان كما يعبر الجسر الى الشاطئ الآخر والأجمل حيت تلاقي الراسمالية حتفها عند بزوغ فجر الاشتراكية وعلى شاطئ الحرية للاغلبية لا للقلة، الوفرة للكل لا للغني، وحيث شاطئ الامان في شيوعية الملكية المشاعة لا الخاصة.

بعض المراجع الهامة

1) Howard Zinn, Voices of a People’s History of the United States, Seven Stories Press, New York, USA, 2004.

2) Manning Marable, Black Liberation in Conservative America, South End Press, Boston , USA, 1997.

3) George Novack, Genocide against the Indians: Its Role in the Rise of U.S. Capitalism, Pathfinder, New York, 1997.

4) Walter Rodney, How Europe Underdeveloped Africa, Howard University Press, Washington DC, USA, 1972.

5) Ronald Takaki, Debating Diversity: Clashing Perspectives on Race and Ethnicity in America, Oxford University Press, New York-Oxford, 2002.

6) William Blum, Killing Hope” U.S. Military and CIA Interventions since World War II, Common Courage Press, USA, 1995.


[1] يرجح بعض المؤرخين أن استنفاذ حقول الذرة والحبوب والاراضي الصالحة للانتاج الزراعي كان احد اهم الاسباب الرئيسية في إنهيار حضارة قبائل المايا.

[2] اخذ الهنود الاصلانيون خلال هذه العملية الطويلة، على سبيل المثال، باستخدام الاحصنة واقتناء البنادق لصيد الجواميس والغزلان على نطاق واسع وطريقة اكثر نجاعة.

[3] قد يجد القارئ فائدة جمة من الرجوع الى كتاب هوارد زين:

Howard Zinn, Voices of a People’s History of the United States, Seven Stories Press, New York, USA, 2004.