اوباما بين خطابين!
جمال محمد تقي
منذ حملته الانتخابية الاولى كان اوباما متحمسا جدا في اخلاصه لتنظيف اماكن الجرائم التي ارتكبها سلفه، وبنفس الوقت كان يسبغ على انتقاداته لاداء سيء الذكر ـ جورج بوش الابن ـ طابع الدعوة للتغيير، علما ان اكثرية تلك الانتقادات كانت متواترة في اغلب وسائل الاعلام الاوروبية قبل ان يستعملها اوباما في حملته الانتخابية ضد مرشح الحزب الجمهوري وقتها، وبعضها كان يرد على آلسنة قادة دول العالم، وخاصة تلك المتعلقة بالسياسة الخارجية، التي كان يضطلع بادراتها وعلى التوالي، كولن باول ثم كوندوليزا رايس، فالاستياء العالمي من التهور الامريكي بقرارات الحرب في افغانستان والعراق كان شائعا، وكانت المواقف الفرنسية والالمانية شعبيا ورسميا مثالا حي على التحسس الاوروبي من سياسة التفرد الامريكي، ومن عسكرة السياسة الخارجية، ومن توتير الاجواء العالمية بالحروب الاستباقية، وجر العالم الى سباق صناعة الاعداء، ناهيك عن الامتعاض الروسي والصيني من محاولات الادارة الامريكية لمصادرة ارادة منظمة الامم المتحدة ومجلس امنها.
دول العالم جميعا حريصة على تجنيب بلادها بلاء العمليات الارهابية، ايا كان مصدرها، لكنها ليست جميعا على استعداد لتبني التشخيص والعالج الامريكي لهذه الظاهرة العالمية المعللة باسباب متشعبة يصعب معها اعتماد اسلوب واحد لمعالجتها، فهي في الشرق الاوسط غيرها عند الحركات اليسارية او القومية المتطرفة او المافيوية في اوروبا ـ الجيش الجمهوري الايرلندي السري، حركة ايتا الباسكية، الالوية الحمراء ـ او عند الجماعات اليابانية المتطرفة او عند جيش الرب في اوغندا، او عند المافيات الارهابية في امريكا الجنوبية، او عند مجاهدي خلق او عند حزب العمال الكردستاني، خاصة وان الاتهام الامريكي يضع اكثر من مليار مسلم في موضع الشبهة، ويكرس خطابا عقائديا بالي، وله جذور منبوذة تاريخيا وخاصة عند المسلمين جميعا، بل عند كل عارف ببواطن الامور او ببواطن كتب التاريخ في هذا العالم الذي شب على طوق التصنيفات والمركزيات، وترهات الحروب المقدسة ـ الحروب الصليبية ـ.
اغلب دول العالم تدرك ان مشكلة الشرق الاوسط المزمنة، مشكلة الشعب الفلسطيني المنكوب بالاحتلال الاسرائيلي المحصن بالدعم الامريكي والغربي هو جوهر حالة اليأس وحالة التطرف التي تعيشها اجيال عديدة من الفلسطينيين المشردين من ارضهم، والمحاصرين فيها والذين يعانون الامرين تحت مرآى ومسمع العالم اجمع ومن دون ان يحرك هذا العالم ساكنا، وما زاد الطين بلات، هو الدعم الامريكي للانظمة الديكتاتورية الفاسدة في معظم الاقطار العربية بسبب تبعية هذه الانظمة للسياسات الامريكة الحريصة على مصالحها الحيوية فيها ـ النفط والمواقع الاستراتيجية ـ.
ان تصويت اجتماعات الجمعية العامة للامم المتحدة بالضد من السياسات الاسرائيلية التي ترفض الاستجابة لقرارات الشرعية الدولية وبالضد من الجرائم الاسرائيلية التي فاقت ببربريتها جرائم النازية، الا دليل صارخ على هذا التفهم المتضامن مع الشعب الفلسطيني ونضاله المشروع، وما له دلالة مضاعفة هنا ان الفيتو الامريكي في مجلس الامن او التلويح به هو سبب اضافي لشيوع حالة النقمة والاحتقان بالضد من امريكا ونهجها المضر دوما بالمصلحة العربية والاسلامية، وهذا ما يرحل الملفات العادلة، والمعطلة التنفيذ الى الجمعية العامة التي ليس لقراراتها قوة الالزام!
حاول اوباما في خطابه الموجه للعرب والمسلمين من القاهرة في 4 حزيران 2009، ان يعطي انطباعا بانه رئيس امريكي مختلف وهو معني بتصحيح العلاقة النمطية بين العرب والمسلمين من جهة وامريكا من جهة اخرى، وفي الحقيقة انه لم يعد بشيء يعالج جوهر الحالة القائمة، فالاتفاقية الامريكية العراقية وقعت في عهد بوش وهو من حدد موعد انسحاب القوات الامريكية من العراق ـ هذا اذا انسحبت ـ وليس اوباما، اما افغانستان فان الانسحاب الامريكي منها اضطراري لان استمرارها ينهك امريكا وقد يعرضها لهزيمة كبرى شبيهة بهزيمة الروس، اي ليس لان اوباما ضد مبدأ الحرب على افغانستان، اما وعده بالدولة الفلسطينية فهو لم يختلف بالنتيجة عن وعد بوش، سيرحله الى فترة الحكم الثانية وهناك اما تمديد التاجيل او فرض اتفاق جديد على السلطة الفلسطينية، تحصل بموجبه اسرائيل على ما تريده ويخسر فيه الفلسطينيون ما هو حقهم شرعا وقانونا.
اما ديباجتة اللبقة والتي اشاد بها بالاسلام والمسلمين وعزل بها القاعدة كونها جماعة منحرفة، فانها تنفعه ولا تضره، وليس على مجاملات الرئيس ضرائب، على الرغم من تصريحات الجمهورين القائلة بان اوباما كان ضعيفا في مقاربته بين رسالة امريكا ورسالة الاسلام، فكل هذا يهون من اجل تحشيده للعرب والمسلمين بالضد من ايران المسلمة، ايران التي يجرمها اوباما بالسعي لامتلاك السلاح النووي متناسيا ان العرب والمسلمين قد جرموا اسرائيل اولا، باعتبارها مالكة فعلية للسلاح النووي ومن دون اي رقابة دولية، اما ايران فهي تخضع للرقابة الدولية، وهي لم تملك بعد اي سلاح نووي باعتراف خبراء امريكان!
خطاب اوباما الاخير والمتعلق بالهبات الشعبية والحركات الاحتجاجية في البلدان العربية، ياتي بعد مرور سنتين على خطاب القاهرة، وهو يؤكد حقيقة النمطية الجديدة في ديباجات خطب الرئيس الجديد والتي لا تتميز عن مضامين سياسات سلفه سوى بلهجته الاخلاقية، التي يصح فيها القول التالي: اذا كانت سياسات بوش مجرمة وبلا اخلاق، فان سياسات اوباما مجرمة ايضا ولكنها تبرر اجرامها بمنطق اخلاقي باحسن الاحوال!
لان مقياس الجرم عند اي رئيس امريكي يقاس عندنا نحن العرب والمسلمين بمقدار انصافه عند تعاطيه مع الموضوع الفلسطيني، وبمقدر حزمه تجاه العربدة الاسرائيلية المدللة، والتي تتحدى كل الشرعيات بحماية امريكية، فالكيل بمكيالين او اكثر هو ديدن السياسة الامريكية التي عرفناها، واوباما لم يكن شاذا عنها، هو مع دولة فلسطينية منزوعة السلاح وهو مع تاجيل قضية القدس والاجئين، وهو ضد اي محاولة لاعلان الدولة بالذهاب للامم المتحدة في سبتمبر، فباي اختلاف عن سلفه يتحدثون؟
اوباما في خطابه الاخير لا يكيل بمكيالين بشأن الصراع العربي الاسرائيلي فقط وانما بشان حركات الاحتجاج الشعبية في الاقطار العربية ايضا، فهو في البحرين غفور رحيم، وفي سوريا شديد العقاب، وفي اليمن وسطي، وفي ليبيا شرطي، ليس هذا فقط وانما يريد ركوب موجة هذه الاحتجاجات التي ما كان لها ان تتاخر وتتعثر في بعض الاحيان لولا سياسة بلاده الداعمة للانظمة الديكتاتورية في المنطقة، وهو لم يوعد الثورة في مصر وتونس بالمساعدات المالية لولا وجود ضمانات من عساكر البلدين لعدم خروج الدولتين عن السياق.
من الان وصاعدا سوف اضيف السعودية الى قائمة المقدسات الامريكية التي تتصدرها اسرائيل، فعند اوباما امن اسرائيل يساوي امن امريكا، لاسباب ثقافية وتاريخية، ولا ندري لماذا لم يقل لنا اسباب حرصه على امن واستقرار مملكة النفط، والبترو دولار، مملكة الاستبداد والعداء اللدود للديمقراطية وحقوق الانسان، الم يسمع السيد اوباما بالمحتجين السعوديين؟ الم يسمع باخبارالتعذيب وقطع الرؤوس في سجون المملكة؟ الم يسأل اوباما نفسه لماذا تحديدا في مملكة الكتمان هناك قاعدة خصبة لتفريخ القاعدة واخواتها والتي خرج منها شيخ الارهابيين بن لادن ـ بحسب توصيف خصومه ـ؟
كيف لا يعرف وهو الذي قد تبجح بقتله؟
ياسيادة الرئيس لان الاستبداد الكبير قاعدة، والفساد الاكبر قاعدة، في نظام مملكة ملوك النفط، فان القاعدة قائمة وقادمة فيها ومنها لا محال، وعليه فمن يحارب القاعدة حقيقة، ومن يدعو لحقوق الانسان فعلا، ومن يدعو للديمقراطية صدقا، عليه ان يدعو لتغيير نظام المملكة، ام ان المملكة استثناء لاسباب نفطية واستراتيجية؟