مصر: الميدان للفقراء والاقتصاد للثورة المضادة
تحالف الإخوان والخليج وأميركا والجيش والصندوق والبنك
عادل سمارة
قاد الفيض الشعبي إلى الشوارع في مصر وتونس بشكل خاص إلى ارتفاع الآمال بتغيرات حقيقية إلى درجة الثورة. ورافق ذلك ولا يزال الشعور بحرية التعبير والحركة والبقاء في الميادين لأيام طوال. وتخيل الكثيرون منا أن هذه المناخ من حرية التعبير والتظاهر، اي هذه الديمقراطية قد نقلت المجتمع إلى عهد آخر. هذا وإن بدا منذ ايام قليلة أن جمهور الميدان طاله الفرز الطبقي بوضوح، فالإخوان تضامنوا مع العسكر حرصاً على ثروتهم الوهابية الأصل فأحجموا عن الميدان، وهذا الإحجام هو المؤشر الدقيق على حالة شبه العلنية للإخوان في مصر طوال عهد مبارك بمعنى أنهم وإن لم يكونوا جزءاً من السلطة فكثير منهم مكوِّن اساسي من راس المال. ويبدو أن المال يُقرر المواقف.
إذن ظل الاقتصاد بالمرصاد باعتبار أن من يكسبه هو الرابح. أما وقد تحولت السلطة إلى العسكر والعسكر متمسكون بالحبل السري الذي يربطهم بالولايات المتحدة، فقد حافظوا على النظام وسلموا الإدارات للتكنوقراط والتكنوقراط مهني بالمفهوم الراسمالي فهذا يعني أن الحلقة الجهنمية لم تنكسر والأمر لم يُسحم بعد والشعب لم يكسب بعد!
أن يرحل الرئيس وحتى أن يرحل النظام نفسه، لا يعني كنس الكوارث التي لحقت بمصر. ولو كان مجرد اقتلاع النظام ينقل البلد إلى مجرد تحسن نسبي لكانت الأمور من البساطة بمكان. فاضرار الأنظمة التابعة بنيوياً واحتضان الاستعمار لها لم تكن ابداً من أجل فترة وجودها في السلطة وإنما للتخريب على المدى البعيد بهدف إيضال الناس إلى قناعة بالقاعدة السوداء، بأن: لا فائدة من الثورة والتغيير. فالاستعمار بحكم مصالحه أولاً، وبحكم محاولة ضمان هذه المصالح يقوم دوماً بزرع ما يدمرمستقبل الأمم.
أشرنا في مقالات سابقة إلى تشخيص تهافت اقتصاد الريع المصري في اعتماده الريع المتأتي من دخل قناة السويس والسياحة وتحويلات العمالة المصرية في الخارج ولا سيما في ليبيا. والعمالة في الخارج هي نتاج تقويض وخصخصة القطاع العام مما قاد إلى هجرة كل من يستطيع الهجرة من قوة العمل المحلية الأمر الذي زاد من هشاشة القطاعات الإنتاجية داخل البلد. وبالطبع كان لهجرة العمالة مضارّا مرئية وغير مرئية، فإضافة إلى فقدان قوة العمل بهجرتها إلى الخارج، غدت قوة العمل هذه أداة للضغط على مصر من الدول المضيفة. فدول الخليج تضغط على مصر الآن بأن لا تتخذ خطى جادة ضد كامب ديفيد وأن لا تحاكم رموز النظام وأن لا تتخذ خطى اقتصادية باتجاه القطاع العام وإلا قامت بطرد قوة العمل المصرية فيها، هذا ناهيك عن استقبالها للأموال المهربة التي سرقها هؤلاء والتي لا تساوي ديون مصر سوى نسبة ضئيلة منها ناهيك أن ما تقدمه دول الخليج لمصر الآن هو مقادير تافهة مقارنة مع ثروات اللصوص المحوَّلة إلى الخليج، وبالطبع من هناك لماذا لا تذهب غرباً!!.
أما الاحتلال الأطلسي ضد ليبيا فمقصود به ضرب الخاصرة الاقتصادية لمصر فقد قادت الفوضى الحاصلة إلى توقف تشغيل مئات آلاف المصريين هناك وشكَّل هذا ضغطاَ اقتصاديا على مصر في لحظة الثورة بهدف خلخلة ميزان القوى داخل المجتمع المصري كضربات وقائية كي لا تتخذ السلطة الجديدة خطى سياسية جذرية وخاصة على الصعيدين: الاقتصادي المحلي والقومي العربي وهذا ما يجري حتى اللحظة. ناهيك عن تحويل ليبيا إلى قاعدة مضادة أمنيا وعسكريا تهدد خاصرة مصر. الأمر الذي لم يكن لهذه الخطورة في عهد القذافي.
رشح عن الرسميين في مصر أن خسارة السياحة وصلت 2.2 بليون وأن الثورة كلفت الاقتصاد 1 بليون دولار كذلك. وهذا يبين عمق التبعية للخارج. كما ترافق هذا مع تراجع الاستثمار الأجنبي. وبالطبع كلما زاد الاعتماد على الاستثمار الأجنبي كلما تبين إحجام الاستثمار المحلي وهو الاستثمار الطبيعي بل إن را س المال المحلي يكون قد تحول إلى استثمار أجنبي في الخارج! هذا ناهيك أن الاستثمار الأجنبي هو غالباً في قطاعات خدماتية والتي تتاثر سريعا وعميقاً بالثورات وتسارع حينها للهروب.
معادلة بنفس المخاطر:
معروف ان الدين الخارجي يحتجز الخيارات الاقتصادية بما هو غالباً مخصص للإنفاق العاجل لإطفاء التوتر الاجتماعي. ومع ذلك، تلجأ السلطات المصرية اليوم إلى استدانة المزيد من الصندوق والبنك الدوليين ومن الدول نفسها التي كانت” شريكة” للنظام السابق بغية لجم الحراك الاجتماعي وتجدده خاصة على ضوء التوقعات بأن ينخفض النمو من 5.5% كما يُزعم سابقاً إلى 2 بالمئة وربما صفراً لهذا العام.
وحتى دون الأثر الاقتصادي المترتب على الثورة، فإن مصر تحت ضغط تمويل فجوة تصل الى 20 بليون دولار ولذا تدخل مفاوضات مع البنك والصندوق “وشركاء” النظام السابق التقليديين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول الخليج. فالولايات المتحدة سوف تحول بليون دولار من دين إلى استثمارات في مصر وإضافة إلى ضمانات قروض ببليون دولار لمساعدة مصر على دخول الأسواق المالية العالمية. ومصر مدينة للولايات المتحدة ب 3 بليون دولار من مجموع ديونها وهي 32 بليون دولار. كما أعلنت السعودية برنامج ديون ومنح لدعم برامج الاستثمار في مصر بمبلغ 4 بليون دولار.وتتفاوض مصر مع الصندوق على 4 بليون دولار كما أعلنت دول الثمانية عن حزمة دعم للقروض والاستثمارات في مشاريع مشتركة والتي يمكن ان تضخ 10 بليون دولار خلال سنة.
وإثر ذلك تعهد الصندوق بإعطاء مصر قرضا ب 3 بليون دولار على مدار سنة لإعادة إطلاق الاقتصاد. والمساهمة في تخفيض العجز في الميزانية والذي هو 28 بليون دولار. وسيعطي مصر فترة سماح ثلاث سنوات وثلاثة أشهر على أن يتم السداد بعدها خلال خمس سنوات.
تبين المؤشرات أعلاه ان مصر تتورط في مزيد من علاقات الاعتماد على الدين الخارجي الذي كرَّسه نظام مبارك. وربما تؤدي هذه الحقن إلى تخدير الوضع الاجتماعي مؤقتاً كما يطمح التكنوقراط، ولكن ليجد المجتمع نفسه أمام مشكلة أعلى تعقيداً من السابق!
هذا ما اكده سمير رضوان وزير الاقتصاد بقوله، رفعنا الحد الدنى للأجور إلى 700 جنيه اي 110 دولار ويتوقع أن يصل الحد الأدنى إلى 1200 جنيه في خمس سنوات،
ومع ذلك هذه الزيادة غير كافية في بلد يصل التضخم فيه 12% والبطالة 11.9% وسكانه 80 مليوناً (حسب الإحصاءات الرسمية التي تعلن أرقاماً أقل من الحقيقة).
يقوم علاج التكنوقراط على سياسة التعامل مع مصاعب المديونية السابقة بمديونية جديدة تُنفق على الإنفاق الإسعافي. لذا تزايد الإنفاق الحكومي إثر رفع الحد الأدنى للأجور ب 15% وزيادة ميزانية دعم الأساسيات لمواجهة ارتفاع الأسعار العالمية. ومن المتوقع أن يزيد العجز في خزينة الدولة ليصل إلى 10% من الإنتاج الأهلي الإجمالي بعد أن كان متوقعا له 7.6%. وهذا يبين ان هذه السياسة هي إعادة دورة التبعية وليست علاجاً للأزمة. إن خطورة حكومة التكنوقراط أنها ستدير الاقتصاد مؤقتا ولكنها لا تأخذ الأبعاد السياسية والاجتماعية لاحقا بالاعتبار وهذه طبيعة التكنوقراط التي لقُصور وعيها وانتمائها السياسيين وغياب موقفها الثوري لا تثق بالمواطن المحتج لتفاتحه بحقيقة مخاطر المديونية السريعة رغم أنها تطفىء الحاجة مؤقتاً بمعنى أن المكاشفة هي الطريق الأفضل للعلاج الجماعي.
هل من آليات بديلة؟
هل بوسع مصر تجنيد تمويل محلي لمواجهة النفقات الإضافية بعيدا عن مواصلة طريق الاستدانة الذي أوصل البلاد إلى الانفجار الاجتماعي الذي مهدت له الإضرابات العمالية وفجره الشباب وتوقف عند ديمقراطية في الميدان! وهي الاستدانة التي تكرس تبعيتة مصر لمن يسمون شركائها التقليديين، اي شركاء نظام حسني مبارك؟ فهناك مخاطر واضحة تنتج عن الانفاق الموجه لكسب إجماع محلي مزيف جوهره الارتهان لديون جديدة بهدف كسب الدعم السياسي الشعبي. فمراكمة الديون تقيد اية حكومات مقبلة! وتحول دون قيامها بإصلاح حقيقي.
هناك سبلاً أخرى للتعامل مع هذه المشكلة التي هي من مخلفات النظام السابق، والتي تلعب اليوم دور الألغام في طريق الثورة:
بإمكان الحكومة الجديدة إصدار سندات حكومية وبيعها للمواطنين بتسهيلات كبيرة ولكن شريطة أن لا تنفق عائداتها على الإنفاق العاجل فقط، بل أن يتم استثمار جزء منها لإعادة إحياء القطاع العام الإنتاجي، اي تقسيم السياسة الجديدة بين دعم ذوي الدخل المحدود وخلق شواغر عمل لهم. فالاستدانة من المجتمع تخلق حالة من التماسك الوطني أو جبهة وطنية اقتصادية. وإحياء القطاع العام ليس شرطاً أن يكون في هذه المرحلة ضمن مشروع تصدي لكافة أجنحة راس المال.
كما يمكن للحكومة فرض ضرائب سريعة على المستوردات الترفية التي تُشكل نزيفاً للفائض المحلي، إضافة إلى التدقيق في التهرب الضريبي من قِبل كبار الراسماليين وخاصة الطفيليين. والمقصود هنا هو تمويل العجز المحلي من المصادر المحلية بدل تمويله بالاستدانة التي ترهن الاقتصاد لمديونية خارجية.
كما بوسع الحكومة توسيع علاقاتها الاقتصادية باتجاه الدول المنافسة للغرب الراسمالي وبعيدا عن الصندوق والبنك الدوليين، اي إلى الصين وروسيا والهند والبرازيل، وجميعها قوى منافسة للمركز الغربي.
هذا إضافة إلى وضع اليد على اموال وممتلكات الرأسمالية الطفيلية والفاسدة التي نهبت الاقتصاد المصري وهرَّبت أموالها إلى الوهابية الخليجية النفطية وبنوك الغرب ومع ذلك بالإمكان مصادرة عقاراتها وبيعها. معروف بالطبع ان هؤلاء ما زالوا تحت حماية بلدان الخليج التي تصر على تبرئتهم وإعادة الاعتبار لهم. وبالطبع فإن ما نهبه هؤلاء يمكنه تغطية مختلف حاجات البلد.
وهناك أملاك غير المصريين التي نُهبت عبر الفساد، ومثال الوليد بن طلال نموذجياً بأكثر من معنى، فاسترداد 75 ألف فدان من الأرض التي اسمتلكها بالفساد ومنحه 25 الف فدان يؤكد ذلك الخضوع للصوص الخليج، هذا بدلا من طلبه للمحاكمة ومصادرة أملاكه وهذا يمكنه أن ينفق على المرحلة الانتقالية للثورة. ولا حاجة للحديث عن مسروقات مبارك ومن حوله. هذه السياسة من الحكومة بمباركة المجلس العسكري تبين أن الثورة المضادة ما تزال ممسكة بالسلطة والقرار، اي قيادة الجيش، وقيادة الإخوان وقيادة الخليج وقيادة راس المال وفوق كل ذي قيادة قياد اي القيادة الأميركية!
إن المشكلة الرئيسية هي أن استلام الجيش للسلطة وتفويض التكنوقراط بالإدارة السياسية والاقتصادية ليست مسألة عفوية بل مقصود لها عدم المساس براس المال الطفيلي والكمبرادوري، بل والحفاظ عليه. وهذا الحفاظ هو الذي أبقى خياراً واحداً للبلد وهو المزيد من الاستدانة، اي استمرار النظام السابق بعد تغيير بعض الشخوص.
قد يجادل البعض، مثلاً الصديق الشيوعي القديم د. محمود عبد الفضيل، بأن الصندوق قد أعطى القرض لمصر بشروط سهلة، وهذه ليست سوى فخَّاً لتجنب النقد الشعبي، وتبرير عدم لجوء النظام للخيارات التي أوردناها اعلاه، والأهم من كل هذا إبقاء مصر في قبضة الثورة الاقتصادية المضادة. دعني اشك أن د. عبد الفضيل يعني ما يقول!!!