ثورات ليبرالية للفقراء
أحمد حسين
مهما حاول العربي المعاصر أن يتعقل الآخر، فلن ينجح ما دام قد فشل في تعقل ذاته. فالآخر رغم كونه وجودا موضوعيا مستقلا، إلا أن إدراكه غير ممكن إلا على صفحة الذات. فالذات هي آلية العلاقة الوحيدة بظواهر الوجود الأخرى. ولكنها آلية موضوعية وإيجابية مبنية على المبادرة وليس على ردة الفعل. أي أنها موجودة في مطلق الزمن الذاتي للعلاقة: الحاضر والماضي والمستقبل. فالآخر هو وعي ماض وحاضر ومستقبل متسرب في الوعي المتنامي لحالة الوجود المشترك. هو، أعني الآخر، وعيي الموضوعي المفترض، وأنا وعيه على ذات الأساس. ولكن إشكالية التاريخ الكبرى هي تدخلات القوة في موضوعيات العلاقة، وانحراف الذات عن الموضوع، أي خلل الوعي الذاتي، الذي يؤدي تلقائيا إلى خلل في وعينا للآخر، وبالتالي في وعيه لذاته ولنا.
وهي إشكالية دأب التاريخ على حلها باستبداد الأقوى.
والعرب وأمريكا، يمثلان حالتين نادرتين من الخلل الذاتي. العرب بعجزهم عن إدراك الوجود برمته كموضوع، خسروا وعي الذات. وأمريكا في إدراكها لذاتها كموضوع وحيد للعلاقة مع الأخر خسرت الموضوع. ومع أن العرب وأمريكا لا يعيشان وحدهما على كوكب خاص بهما، فإن جملة الصدف الموضوعية والمفارقات التاريخية التي جعلت من كليهما استثناء عالميا في الوعي، جعلت شكل العلاقة بينهما استثناء عالميا أيضا. وجود بغير ذات أو موضوع، مقابل وجود يعتبر ذاته موضوعا. هذه الحالة تتضمن كل أركان ودوافع الجريمة المجانية.
هذه المعادلة الفظة من العلاقة بين العرب والآخر، والتي تبلغ تجليها الأحط في العلاقة بأمريكا، بحيث تتخذ شكل علاقة من جانب واحد، لا يكفيها مجرد إعادة النظر من جانب العرب بوسائل التفكيك المعتادة. فهي تمثل حالة تسليم بنيوي راسخ، ثبت أن استفزازه بالجريمة المجانية من جانب الآخر، يزيده رسوخا لانعدام البديل الوعيوي. فهي حالة نادرة من اجتماع الصلابة والهشاشة والتجدد في جسد واحد، ولا يمكن حل إشكالياتها المميتة بأقل من ثورة وجودية ضد كينونة فاشلة تراكم بؤسها وتلاشيها، بالدليل القاطع المتمثل في السياق. ولكن هذا الكلام هو الصحيح النظري فقط للضرورة. أما حصول أمر كهذا عمليا فلا يكاد يتوفر من احتمالاته شيء في النظر. بل إننا الآن أصبحنا أمام حالة تبني الخلل كعقيدة سياسية من جانب جيش من المثقفين الذين أفرزهم التقادم المتوارث للعزلة في أنوية الذات، وتحولوا إلى طفيليات وعيوية تعمل على تحقيق طموحاتها بالأسلوب الذي تعكسه حركة الواقع المزمنة. لقد أدمنوا كينونتهم البائسة، الخالية الوفاض من أي شعور بالإلتزام تجاه أي شيء لا يخدم أنويتها البيولوجية. هذه الحالة من المسخ لبشر تحولوا إلى عجول مدركة، أصبحت تشكل فصائل الدعم الطليعية لإعلان الواقع مصيرا. وبالمقابل يزداد الضغط من جانب الآخر على البنية العامة العديمة المناعة، التي تتخذ من الدين وسيلة وحيدة لوعي مصيرها، بعيدا عن وعي الوجود الدنيوي، الذي لم يخبرها أحد عنه شيئا، سوى أنه نقيض الإيمان بالله. ونشهد اليوم كيف أن التلاقي بين روابط الخلل هذه , هي التي تشكل مع الأخر ثقافة المذبحة الدائرة بين أناس لا خلاف بينهم سوى مصادر التكليف السياسي.
لا يمكن لوضع كهذا أن يتغير أو أن يبقى ساكنا. فالناس هنا، أي العرب،لا يتغيرون، ولكنهم مع ذلك وبسبب ذلك يشكلون آلية الأخر في حركة تطوره السياسي نحو الإسقرار السلبي لشعوب المنطقة، كما تثبت حركة التصفية الذاتية الدائرة الآن. ولقد كان كمون الحركة الخرساء في لاوعي المنسيين والمقهورين والجائعين، الذين كانت ” نخب ” السياسة والثقافة والسيادة والعمالة تشارك في قهرهم ونهبهم، منجما لطاقة عمياء من الغضب والشعور بالمهانة وعفوية مقاومة الغرق. وقد اعتمدت امريكا على احتقان الوعي الباطن هذا، في استباق محاذير انفجار محتمل خارج سيطرتها، وعجلت بتنفيذ المرحلة الأخيرة من مشروعها. كان مشروعا ممتدا أسبق منها، ورثت استراتيجيته التصفوية الحالمة من وعي الأستشراق الغربي. ولا جدال أن أمريكا التي أصبحت، كما قلنا، ترى في نفسها ذاتا موضوعية للأخر العالمي وبضمنه أوروبا العجوز، رأت في ذلك المشروع المتزايد الأهمية على رأس أهداف مشروع العولمة. لذلك فإن الغباء وانعدام وعي الذات والأخر، هو وحده الذي كان يبعد هذا المشروع المحتم عن دائرة اليقين. لقد بدأت بريطانيا بوضع آليات هذا المشروع، بسبب بعدها عن المتوسط، مبكرا، حينما كانت تستعد لمغادرة المنطقة العربية. وكانت أهم تلك الأليات تأسيس المشروع القومي الإستيطاني الصهيوني، والإتيان بالهاشميين كعملاء استراتيجيين في المنطقة، وتكوين حركة الإخوان المسلمين، كميليشيا عمالة استشراقية لمقاومة الفكر القومي، والعمل على إعادة إنتاج التخلف باستمرار، وتهيئة الساحة سياسيا وثقافيا واجتماعيا لحالة من الفراغ النهضوي الدائم. وقد نجحت كل هذه الأليات نجاحا أكثر من باهر في أداء دورها. قامت إسرائيل بكلفة بناء عشرة مساجد متوسطة. وأنتجت الثورة العربية الكبرى عظام العملاء في القون العشرين. وحكمت مصر عائلة ألبانية باسم الإسلام، وظهر فيها راسبوتينات نهضوية دينوية بحجم محمد عبده، وكتابا مهووسين بحجم الطهطاوي وعباس العقاد، وعملاء شرعيين من أمثال سيد قطب، وجيوش من الوعاظ الدينويون، تغزو فراغات الوعي الكثيرة في ثقوب العقل والوجدان العربي الخرب، حاملة معها كل خبرات الإستشراق في مقاومة أي مشروع تنموي عربي، وكلهم مجمعون على أن المشروع النهضوي هو مشروع إسلامي بالحتم وأن الإسلام هو الحل القومي للإنسان العربي والشعوب العربية. ولكن الإسلاموية الإخوانية بعد انتقالها من التخريب الثقافي المشترك مع الإستشراق الغربي، إلى الحضن الأمريكي المعولم، لم يعد أي إسلام هو الحل، وإنما الإسلام الممول خليجيا وسعوديا، تحت رقابة أمريكية وصهيونية صارمة. لقد تحول الإخوان إلى شركة اقتصادية ذات وزن سوقي ومصرفي كبير مثل أي دولة سيادية من حيث التأسيس والنظام، وأصبحت أموال الحركة في البنوك الإسلامية، والإستثمارات الميدانية السائلة والعقارية وفي البنى التحتية والتهريب وتبييض الأموال وتجارة البشر، والتي تجاوزت تريليون دولار، تمثل بيت مال الحركة للمستقبل الموعود، بإشراف النخبة السياسية المتعاقدة، تحت اسم المؤتمر الإسلامي العالمي. ومن الناحية العسكرية، فإن حركة الإخوان، ترسل أفرادها ومرتزقتها للتدرب في فروع الشركات الأمنية الأمريكية والإسرائيلية، المنتشرة في إفريقيا والعراق وأفغانستان.
وبما أن ألثورة الإجتماعية هي قرار الوعي المتحول نوعيا، فإنه من الصعب أن يكون لها أي أساس آخر سوى الغضب الشعبي المتراكم على سوء الحال مباشرة، وليس على إدراك الوعي التفكيكي للأسباب الإجتماعية التي تنتج الخلل. وهي ثورة من المفروض أن تفرز وعيها وتعمقه من خلال الممارسة والتجربة والإكتشاف. لذلك فإن انتقال السلطة الفعلية للشعب على أية سلطة إسمية مؤقتة هو شرط الثورة الأول. والشعب هو الذي يختار نخبه الثورية المثقفة للمرحلة الإنتقالية، وليس أية نخب غير ملتزمة سلفا بالمطالب غير المؤدلجة للثورة. فتحقيق هذه المطالب سيفرض تغييرات جوهرية على على البنية الإجتماعية، تشكل الطريق لبلورة وعي محدد للثورة يضمن استمرارها وتكاملها. لقد كانت الثورتان التونسية والمصرية نموذجا على النوع الثاني من الثورات الإجتماعية، ومع ذلك فقد توقفتا في العشر الأول من الطريق. وقد كانت خيانة المثقفين من خارج الثورة هي الباب الذي تسللت منه الثورة المضادة إلى الإستيلاء السلمي على السلطة الفعلية، تاركة السلطة الإسمية للشعب، تتغنى بها ممتهنات ودياييث الإعلام الحداثي. كان الإفتقار إلى مجرد الخبث الثوري من جانب ثوار ميدان التحرير والشارع التونسي، سببا حاسما في وقف مسيرة الثورتين إلى أجل غير مسمى. فإيكال وضع مسودة لدستور جديد إلى قرضاويي التشريع في مصر الذين اختارهم العسكر، كان بمثابة استقالة الثورة، وتراجعها عن شروطها لتتحول تلك الشروط إلى مطالب يعاقب عليها الدستورالجديد. بل إن هذا الدستور الأسود يتضمن تكريسا مجددا لواقع الحال. وبعد الإستفتاء الحاشد ثبت ثمانية عشر مليونا من فقراء الشعب المصري أنهم يجهلون العلاقة السرية بين الدين والفقر. وفي خضم هذه المذبحة الفكرية والإجتماعية لم يصرخ مفكر أو مثقف مصري واحد بالشعب: هبوا! قبل فوات الوقت.
في وضع كوضع الوعي العربي المستلب، يعتبر فيه المثقف رأس الحربة في المبادرة للتغييروالتنمية البشرية، ثبت أن معظم المثقفين والمفكرين العرب، من مختلف الشرائح والمستويات، هم احتياطي العمالة والإرتزاق والوجه الإكثر دمامة أخلاقية في أوطانهم، وأنهم جيش الخلاص المدرب للثورة المضادة، والغرب والخليج. كانوا على درجة عالية من التنظيم وتوزيع الأدوار وتوقيتها. قسم للإعلام الحداثي الذي يؤكد على الدمج بين الموقع الإعلامي وطبيعة الماخور. وهو مؤلل بأكاديميين من مصادر سوقية مبتذلة اجتماعيا تم إعدادهم هوليووديا كما تثبت تصرفاتهم، يقومون بشحن المشهد بصور وأصوات وموسيقى تصويرية بخبث ماخوري واضح. وقسم يستشرق ثقافيا، وآخر ليبراليا، وثالث حقوقيا، ورابع دينويا، وخامس يساريا، وسادس وطنيا، وسابع قبليا وثامن طائفيا… وهلم جرا. وأسواهم على الإطلاق وأقلهم تأثيراالمفكرون. إن التناقض بين مفروضهم الإعتباري وما يقومون بتأديته يجعلهم يبدون كالمهرجين. وتجنبا للإطالة أكتفي بالأستاذ هيكل على شاشة قناة الجزيرة.
دأب الأستاذ هيكل على الظهور على قناة الجزيرة، بقناعة أنها موقع إعلامي واسع الإنتشار عربيا. فلا يوجد فيما عدا ذلك أي مبرر لخياره هذا، وهو الذي يمكنني أن أقسم أنه على علم كامل بطبيعة الجزيرة وكادرها. ولن أقول سياستها , فهي آلية استخدامية استشراقية حتى العظم، لا تضع السياسات، ولكن تنشرسمومها. وأتحداه بأدب أنه يعرف يقينا أن هذه القناة هي قناة الشرق الأوسط الكبير، وأنها آلية استخدامية واستشراقية حتى العظم، بادرت إليه مراكز البحث الإستشراقي في أمريكا وإسرائيل بغطاء قطري. ومهمتها، كما يبين خطابها الشفاف هو تعميق التمزق القطري في العالم العربي، وبتتبع كل أشكال التعددية الأخرى، المذهبية والطائفية والقومية، بالطرح والإثارة والدس، لخلق بؤر توتر وافتراق جديدة تمهد للطبيعة الكانتونية للشرق الأوسط الجديد، وتبديد مصطلح المنطقة العربية القومي، في الشرق الأوسط الكبير. ومن حق الأستاذ هيكل أن يحاول إيصال موقفه الإنقلابي إلى جمهور، لا ننسى أنه ظل جمهوره بامتياز حتى اليوم، عن شاشة معادية مثل قناة الجزيرة. كان عليه احتراما لجمهوره أن يقدم له جديده الإنقلابي، من خلال كتاب مطبوع في إحدى دور النشر، أو على نفقته كما عودهم، ليحافظ على مظهر الحميمية مع صديق قديم. لقد كان في حلقاته السابقة على شاشة الجزيرة، يحاول المناورة بأدب أمام سماجة المذيعة أو المذيعة التي تحاول تدوير المقابلة إلى نقاش في إطار فلسفة الرأي والرأي الأخر، ولكنه رغم أنه كان يتطامن في أحيان كثيرة، مجاملة كما أعتقد. ولكنه في المقابلة الأخيرة التي سمعت حلقة واحدة منها أمام مذيع من مذيعي الجزيرة،أعرف وجهه فقط، قدم تفسيرا أمريكيا خالصا لما يجري في سوريا،قبل يوم واحد فقط من اجتماع مجلس الأمن لبحث الملف السوري. قال بوضوح بعيد عن اسلوبه المتحفظ، أن التعقيدات في سوريا مصدرها علوية النظام. وهو رأي لا يمكن حمله محمل البراءة، فهو يتضمن تجاوزا لكل دوافع الصراع المضوعية الأخرى، وعلى رأسها الدور الغربي المدعم بمليشيات التحالف الإخوانية، والعملاء النظاميين لأمريكا والصهيونية. ونسبة المشكلة إلى الطائفية، تحتاج إلى تفسير لا يمكن أن نطالب به الأستاذ هيكل، لأنه كان يؤدي كذبة مع سبق الإصرار. فنحن كمتابعين للنظام السوري، اعتدنا أن نراه كما يقدم نفسه سلوكيا وليس كلاميا، أنه نظام بعثي قومي، لم يقم أحد عدا الإخوان بتوجيه تهمة الطائفية إليه. لم نسمع الأستاذ هيكل خلال حلقات ملحمته التاريخية التي قدمها عن شرفة قناة الجزيرة، يذكر شيئا كهذا، وهو الذي لم يترك شاردة ولا واردة في تاريخ المنطقة خلال عمره المديد إلا وألم بها. إن مفاجأة الأستاذ هيكل الأخيرة، التي اختار لها ميدانا من ميادين التآمر على شعبه، كانت ذات نكهة حادة ومزيفة وضد حسن النية على طول الخط. فهل كان يقترح على جمهوره كمفكر تحول إلى مذيع فكري، أن أمريكا والإخوان لا علاقة لهم بما يجري في سوريا، وأنه يعتقد أن أمريكا تستهدف في سوريا طغيان الطائفة العلوية المسيطرة على نظام حزب البعث القومي، وتمنعه من إجراء الإصلاحات اللازمة؟ وإذا كانت الطائفة العلوية طائفة سورية وطنية وقومية فهل يتحفظ الأستاذ هيكل على علويتها. وهل معنى ذلك أنه يتحفظ على نصرانية الأقباط مهما كان موقفهم الوطني؟ نحن نعرف حيادية هيكل في موقفه العام كمؤرخ صحفي ينحاز دائما إلى الواقعة بتشدد يثقل على فكره وعلى موضوعيته أحيانا، فلماذا لم يستطع هذه المرة أن يتجاوز التفكيك الطائفي إلى التحفظ المهني؟ وهل يجهل الأستاذ هيكل، بافتراض الحد الأدني من النزاهة الميدانية والوطنية، بكونه مصريا وعربيا ملتزما كما يفهم من خطابه السياسي المأثور، أن تصريحه يتجاوز كل محاذير الإساءة والحساسية السياسية، والخطورة الإعلامية، مع طرف هو الغرب وآلياته، ضد طرف آخر، هو المستهدف القومي العربي، وأن انقلابيته المفاجئة تتضمن التحريض المباشر على سوريا، والتأكيد على براءة الموقف الغربي الصهيوني الإخواني؟ كم تمنيت أن يكون هيكل قد اراد أن يقول بفريته العلوية، أن المحرك الطائفي للإخوان وعداءهم التلقائي كعملاء وكسنيين للعلويين، هو الذي يعقد المشكلة في سوريا، وأن مهمة هؤلاء السفاحين هي إسقاط النظم القومية، كهدف مشترك مع الغرب، وليس المطالبة بالإصلاح والتحرر الذي يعتبر عدوهم الإجتماعي والدينوي. ولكن السياق لم يستطع مساعدتي في ذلك. كان شديد الوضوح!
لا يمكنك بالإعتماد على خطاب هيكل المأثور، من خلال كتبه أو تصريحاته السابقة، أنه كان اشتركيا أو يساريا أو يمينيا أو أي شيء آخر. كان صحفيا ومؤرخا حياديا، أي بدون رسالة على الإطلاق. أي أنه كان ليبراليا من ناحية فلسفته السياسية. فليس هناك أحد بدون رسالة سوى الليبرالي. فلماذا قرر الآن أن يتحول إلى صفوف الثورة المضادة المتعددة الهوية؟ يبدو أنه قدر المثقف العربي. فهيكل كغيره من كبار المثقفين، كان مدفوعا بحركة قدرية قاهرة، حينما لم يجد لديه، طيلة شهور من الصراع بين فقراء مصر وأمريكا، ما يقوله لمواطنيه في ميدان التحرير، بينما تجاوز كل مخاطر الإنكشاف المحقق، ليحرض على سوريا في قناة الجزيرة.
في سياق هذا الصراع بين الإستعباد ونزعة التحرر الغامضة، فإن كل الظروف الميدانية القائمة هي ضد الإنسان العربي، وعلى رأسها مصادر ثقافته الدينوية، وبنيته الوعيوية التي استطاعت آليات التخريب الإستشراقي تلفيقها خلال عقود طويلة. ومع ذلك فإن الغضب المتراكم يمكن أن يشكل الإنفجار الذي يدمر الخلل المشهود، ولو بدون بديل محدد سلفا. يكفي تدمير الخلل، وينفتح باب التحرر. فإذا استطاع الوعي السياسي البسيط تحديد حتمية الخلاص من أمريكا وعملائها كمصدر للخلل فالبقية ستأتي. ولا يجب انتظار المثقفين، فمعظمهم ليبراليون بالإرتزاق، وبعضهم، وخاصة الكبار، ليبراليون بالتبعية وانعدام الخيارالمعرفي. إن أكثرهم هم مجرد حالات ولاء أكاديمي للغرب بحكم التكوين المعرفي الذي مروا به هناك خلال دراستهم، أو بالإعتماد السلبي على المصادر الغربية لتلك المعرفة. لم يجد الأستاذ هيكل شيئا يقوله على هامش اغتيال الثورة المصرية من جانب أمريكا وحلفائها المحليين، ووجد ما يقوله على هامش تأييد الثورة المضادة من أجل الحصول على لحظة مصداقية رديئة المصدر، كلفته كل مصداقيته كمثقف قومي. فلا تنتظروا عونا غير موجود من ثقافة الخلل. إن مجارف الفلاحين والعمال، وكراريس التلاميذ الفقراء، ومعاناة البشر العاديين، فيها من جوهر المعرفة الصامتة للتجربة والوعي العفوي للظلم وللتحرر،أكثر مما لدى أولئك الذين حولوا نجاحهم المهني إلى جدار يفصل بينهم وبين تربة النجاح التي نشأوا فيها.