الوجود السياسي

الوجود السياسي

أحمد حسين

الوجود السياسي هو استقلال الإرادة النسبي والقدرة على الإيجاب والرفض. وفي عصور الإكتفاء الذاتي، كانت فوارق القوة العددية أو التسليح، تشكل فراغات محدودة، يمكن ملؤها بالصمود والشجاعة الفردية والتفوق في إدارة المعركة. فلم يكن مستحيلا أن تتغلب شجاعة الإغريق وفدائيتهم وحسن تدريبهم وإدارتهم للمعركة، على جيش فارس العظيم رغم تفوق العدة والعدد. أما في عصرنا فإن فوارق التسليح الهائلة في التطور، وتعقيدات الإكتفاء الذاتي الموازية، لم تعد تتيح الكثير من المجال للبطولات الفردية والجماعية، وأصبحت تكنولوجيا السلاح وتوفر الإمداد، واكتفاء الجبهة الداخلية وصمودها، وطول النفس، هي صاحبة الحسم بدون منازع. فليس هناك جيش نظامي واحد قادر على الإنتصار على الجيش الأمريكي مثلا. ولكن في حالات الطور التكنولوجي المتقارب وتوفر القدرة اللوجستية، فإن الحرب تصبح خيارا أخيرا، لنتائجها المخيفة. لذلك يمكن القول، أن تدرجات الوجود السياسي للدول والأمم في عصرنا، هو تعبير عن قوة الدولة النسبية، أو وجودها في تحالف مع دول أخرى ذات قوى نسبية معترف بها حسابيا، تشكل جميعا قوة النار اللازمة للردع والصمود. أما فشل الجيوش القوية في حروبها ضد القوى الشعبية، فسببها أنها تفرض على الدولة القوية حربا محدودة، تحيد استعمال الأسلحة الإستراتيجية لانعدام الجدوى الموازية، وانتشار العدو المتغير، على مساحات شاسعة. في حرب محدودة الحاجات كهذه، تصبح البطولة الفردية والمفاجأة سلا حا نوعيا بيد القوى الشعبية. وتحاول أمريكا في مواقع تورطها في هذه الحروب، استخدام المذابح المدنية الكبيرة والصغيرة، في اندفاع همجي ليس له سابقة من حيث وسائله ونتائجه الوحشية، إلا أن ذلك ليس لم يجد نفعا فقط، وإنما رفع فاتورة الفشل والخسارة والدم التي تدفعها تلك الدولة المشئومة. لذلك فإن الحروب الشعبية لطالبان أو القاعدة أو المقاومة العراقية أو حزب الله، تشكل الموازي العسكري والسياسي الهائل لجميع دول الغرب معا. أي أن هذا الغرب التعس، الذي يتعالى سياسيا على الصين والإتحاد السوفياتي، يتمنى كما يصرح هو بنفسه لو توافق الحركات الشعبية ” الإرهابية ” على التفاوض معه للخروج من ورطتها.

يعني هذا المقياس الدولي للوجود السياسي، أن هناك دولا كثيرة في عالمنا لا لزوم لها إطلاقا.

لقد خرج مواطنو الغرب يحتفلون في الشوارع بكل الصدق والإخلاص باستشهاد بن لادن. في حين أن سقوط صاروخ كروز على الجامعة العربية أثناء انعقاد القمة، لن يؤدي لدى أولئك الغربيين إلى كثير من الإكتراث. هذا هو مقياس التعبير عن الوزن السياسي. مدى تأثر الحياة اليومية للآخر بوجودك أو عدمه. هل يحبونك أو يخافون منك. تصوروا طالبان في منطقة الخليج، أو أن نفط الخليج تحت سيطرة دولة مثل إيران أو تركيا. تصوروا لو رفعت الثورات العربية من تونس وحتى اليمن، شعارا تطالب فيه بتحرير النفط العربي من أمريكا. وتصوروا هذا شعارا وحيدا لثورات في كل بلدان المشرق والمغرب العربي. وتصوروا أن معظم الذين قد يقرأون هذا الكلام من العرب سيظنون أنني أنكت. أليس هذا الظن من جانبهم دليلا كارثة الوعي العربي؟ في اعتقادي أن كل كوارث الوطن العربي الإقتصادية والإجتماعية والسياسية، وكل ما يجعل منه عالما معوقا وجوديا، هو علاقة أمريكا بالنفط العربي كعنصر استهداف أساسي تعمل على تخريب البنية الوجودية للعرب، من أجل مواصلة امتلاكه. وأن الفصل بين الثورات الشعبية العربية والنفط العربي عموما، سواء على مستوى السبب أو النتيجة، هو نوع من تخريف الوعي. فالنفط يشكل مصدرا لكل كوارث الإستبداد والتنكيل العسكري والسياسي والإجتماعي والثقافي التي يمارسها الغرب ضد العرب، وفي نفس الوقت، يشكل استراتيجية التنمية العربية الشاملة. وأية ثورة شعبية عربية بدون نفس ووعي قومي موحد، موضوعه الأساسي هو تحرير النفط العربي من أمريكا وعملائها الخليجيين، لن تكون ثورة حقيقية. هذا هو الجوهر الموضوعي للثورة، وما عداه هو ضجيج ووعي غوغائي موجه سياسيا، سينتج عنه زيادة الطين بلة. وسوف يبقى هذا الشرط الثوري هو المدخل الموضوعي الوحيد للتحرر والبناء والوجود السياسي العربي.

لم تقم الثورة الفرنسية لأسقاط الملك، بل لأسقاط مصادر الإستبداد من إقطاع وأرستقراطية وكنيسة توفر له الرعاية الأيديولوجية. أي لأسقاط كل الركائز الإجتماعية والأيديولوجية لمجتمع الإستبداد والقهر. وقامت الثورة الروسية لإسقاط النظام القيصري وأسفرت عن أعظم ثورة تحرر اجتماعي في تاريخ البشرية. أما الثورة التي تقوم من أجل إسقاط عميل حثالي للغرب، وتعلن ولاءها للغرب الذي أوجده، وللنظام الذي احتضنه، وللإيديو لوجيا التي تبرر كل الشرور الإجتماعية في الوجود بالشرع، وتقدس الفقر والقمع والطبقية كأوضاع ومظاهر للتأسيس الإلهي فهي ثورة كوميدية.

وفي الوضع الحالي، يمكن القول أن العرب غير موجودين سياسيا على ساحة العلاقات الدولية. هم موجودون كوكالات نفطية عميلة، أو وكالات سياسية تابعة، أو أنظمة متهاوية في طريقها إلى التصفية. أما الشعوب العربية فسوف يبقى وعيها المستلب حائلا بينها وبين تحقيق شعوبيتها الفاعلة. وليس هناك دليل على انعدام وجود عربي سياسي أبلغ من حالة الإستباحة الشاملة للساحة والشأن العربي سياسيا، من جانب كل من يعنيه الأمر. لقد بلغت هذه الإستباحة حدودا بهلوانية. كل دولة في العالم ذات وجود نسبي قوي على ساحة السياسة تصدر يوميا إملاءاتها السياسية المحددة على الوجود الظني للعرب، أما الدول ذات المواقع السياسية الأدنى مثل تركيا فإنها تعلن وصايتها على العرب أنظمة وشعوبا بدون استئذان، وكأنها تتعامل مع رعاياها الأتراك في قبرص. يتحدث أردوغان صبي أوباما إلى العرب، وكأنه معلم السلوك في المدرسة. وإيران تحارب أمريكا بدماء العراقيين التي لا حامي لها. نه أا

أما روسيا، وهي حطام شعبي ونظامي سينهار آجلا أو عاجلا، فإن أمريكا لو ضمنت مصير أسلحة الدمار التي لديها من العهد السوفياتي، لحولتها إلى دولة خليجية منذ زمن. هذه الدولة ليس لها وزن سياسي يفوق الدور التركي المستند إلى صواريخ حلف الناتو، ولكنها تفاوض أمريكا على قيمة الأسلحة المجددة، التي يجب أن تشتريها منها آنسات الخليج والبعير السعودي، لتعدل موقفها من تدمير الناتو للدول العربية. والصين تملك وزنا سياسيا متضخما، ولكنها مثل روسيا، لا سياسة لها تجاه العرب، لأنهم صفر سياسي.

عالم على هذه الدرجة من البؤس الوجودي الشامل، يحتاج ثورة جذرية تتجاوز عمقه الهجري إلى عمقه القومي والإنساني ليخرج من ورطته التاريخية. وبدون ذلك فقد وصل الأمر بعجول الثقافة الهجرية، أن يتطوعوا في المارينز والسي آي أيه لمحاربة مستقبل التحرر في بلادهم. فهم لا يخشون من شعوبهم التي صهينوا وعيها بدون أن تدري. وإذا لم تسفر الصدمة التي تكشف عنها الواقع العربي المنغمس في التصفية الذاتية عن انقلاب جذري في الوعي الشعبي، فكل ما يرجوه أمثالي العمريين، هو ألا يضطروا لحمل أخبار السقوط العربي النهائي معهم إلى الأخرة.

لتفعل أمريكا بالعرب ما شاءت. فما من وجود حقيقي لهم حتى الآن، ولن يكون لهم مثل هذا الوجود قبل أن يبداوا ثورتهم الوجودية، على أساس أنه لا حاضر ولا ماض ولا مستقبل، قبل الشروع في تحرير النفط العربي من أمريكا ووكلائها الخليجيين. فهذا مناقض للمنطق العملي والتحرري لأية ثورة عربية حقيقية.