خطاب ومعرفة ومقولة عربية
كي تكون ثورات لا تواصُلاً للاختراق وهيمنة ثالثة
(الحلقة الاولى)
عادل سمارة
يأذن المستعمِر لتوابعه بالنفاذ من فتحات في مشروعه يخالونها ثغرات ولكنها مقصودة لبعض التنفيس تماماً كالمسامات في الجسد يكون دورها إخراج المخلَّفات السامة. ويهدف الاستعمار من هذا احتجاز النهضة. أما النهضة، أو إن شئتم “الثورة- إن جاز التعبير[1]” فتتطلب تأسيساً وتأصيلاً تخلعان الجدار نفسه. والوصول إلى هذا الخلع يحتاج بالضرورة إلى وعي عميق لا انشداد للفضائيات على ما فيها من ضحالة ومهارة اللعب بالبيضة والحجر. وفي التصارع على أي الفضائيات اصدق، يبقى التاريخ ومُقبل الأيام هو الفيصل والحَكَمْ.
فتح الصراع المتجدد حالياً في الوطن العربي بين “الثورة” والثورة المضادة الأبواب على أمور لم تكن قيد النقاش لا السياسي ولا الفكري النظري. ف “الثورة” نفسها لم تكن متوقعة هذه الفترة، لا من القوى ولا من المفكرين، أمام ذلك الموات العظيم المتمثل في التجويف والتجريف والضبط. هذا مع وجوب التذكر بأن نضالات القوى السياسية وتعرضها للقمع أو تدجينها في مختلف القطريات العربية، بسبب القمع أو المساومات الطبقية، كل هذه النضالات لعبت دورا في تراكم وتحفيز قوى الحراك التي شاهدنا.
أما الصراع نفسه فكشف عن ذلك القدر الهائل من اختراق المجتمع العربي وخاصة الفلسطيني مما يستدعي نقاش الكثير من الأمور من جانب لفهمها ومن جانب آخر للتحصين ضد أو مع كثير منها. والاختراق فعل مضاد يكتنف مختلف جوانب الحياة أو مستوياتها بداية بالثقافي والخطاب والمعرفي والعسكري وفي النهاية المادي بما فيه الاقتصادي. وهذه المستويات تتفاعل تبادلياً طبقاً لكل مرحلة ونضج المناخ لهذا قبل ذاك وعودة تبادل الأدوار بين هذا وذاك.
الاختراق جزء من سيرورة تاريخية أي هو فعل صراع بين الأقوام القديمة كل بثقافته المنبثقة من واقعه المادي والحياتي الإنساني ومن ثم سيطرة السلطة السياسية في قوم معين واستخدام وتوجيه هذه القوة الثقافية من أجل فعل سياسي هو السيطرة على الأمم الأخرى وإخضاعها بأي توع من القوة، وقد تكون العسكرية آخرها. وفي سياق هذا الصراع والإخضاع يكون الطبقي محورياً. لأنه هو نفسه المصالح المادية طالما المِلْكية الخاصة هي القاعدة المأخوذ بها.
والسؤال هنا، مَنْ مِنْ القوم/الأمة الذي يبدأ بالغزو، اي يمارس الصراع ولماذا؟ هل غاية السلطة/الدولة التي تقوم بذلك هي غاية نشر المعرفة، فرض المعرفة؟ أم الغاية توسيع المُلْك وبسط السلطان بسطاً يترجم مادياً، وهنا يكون الاستشراق حالة جيدة للقراءة.
وإذا جاز سحب تقسيم العمل على فئات وطبقات المجتمع، يجوز القول إن المثقفين هم إما آلية اختراق او آلية مواجهة في الصراع القومي والطبقي على حد سواء. واختراق المثقفين آتٍ من مداخل متعددة، منها وأخطرها الطوعي، وهذا بادٍ لدى المثقفين اللبراليين الذين يعتمدون الخطاب والفكر والمقولات والمصطلحات الرأسمالية الغربية لتطويع بنية وثقافة وخطاب وفي النهاية مستقبل مجتمعهم للتطابق معها، وهو الأمر الذي لم يصح قطعاً مما احدث تشوهات أكثر مما أحدث تغييراً وانتهى إلى الاستهلاكية، والتبعية، الأمر الذي أوجد حالة عربية من سيطرة راسمالية محيطية وبقاء فعلي للاستعمار وتخيلات وجود مجتمع مدني في بلدان ليس فيها مجتمع سياسي فعلي…الخ.
لكن المثقف مُستهدف في نفس الوقت، ومن هنا حرص الأكاديميا والأنظمة الحاكمة في المركز على استهوائهم أو تجنيدهم بشتى اساليب لما لهم ن تأثير على مختلف طبقات المجتمع، كلٌ ضمن توجهه. وفي هذا السياق يلعب المال في عصر رأس المال المعولم دوراً بارزاً وهو ما يتجلى في منظمات الأنجزة، والمراكز الثقافية واختراق دوائر وكليات جامعية…الخ. وهذا ما نتج عنه تكوُّن وتكوين شريحة ذوي الدخل/العائدات غير المنظورة بما هي ناتجة عن مصادر من خارج مواقع الإنتاج المحلي وهي لقاء خدمات قُدِّمت للخارج.
الاختراق ليس محض طوعي من التابع للمتبوع بل الأخطر أن للمتبوع خطته في جذب و أو تجنيد و أم التأثير على تابعين محتملين، فالاختراق حرب أخرى، أخطر بكثير من حرب الميدان، هي مقدمة حرب الجيوش. يٌقال ان الاتحاد السوفييتي تم تفكيكه من الداخل بالاختراق الذي تفاقم إلى التجنيد؟ فالاختراق دخول ناعم وربما غير ملموس إلى حد قد لا يشعر المخترَق أنه قد أُخترق حيث يتمثل مقولة وخطاب الآخر، يُلحق نفسه بل وجوده بمعنى تاريخه وحاضره والأخطر مستقبله بالآخر، الذي لا يتعاطى عفوياً ولا بسذاجة بل بمعتقد وخطة. أما التجسس فهو مهنة عملية ، هي تجنيد وقبول واعٍ بدور لا وطني.
قد يلقي مثال الاتحاد السوفييتي ضوءاً على المسألة.
تناول الكثيرون مشكلة الاتحاد السوفييتي في فصلها الأخير، أي التقكيك وما بعد، وقلما تنبه أحد لمجرد وجود الاتحاد السوفييتي بمبتداه ومنتهاه:
كان مبتدأ الاتحاد السوفييتي نتاجاً لسياق تناقضي طويل مع المؤسسة والفكر اللبرالي كحاضنة لراس المال. كان على أرضية خطاب تاريخي إنساني ضد را س المال، ضد الأبيض الراسمالي، تضادّاً وليس استرضاء، رفضاً وليس تكيُّفاً. صراع الضدين بلا مواربة. كان محاولة للخروج على السوق بوجوده التاريخي الطويل وبلحظته الراسمالية أو حالة تفاقمه العليا. لغة أخرى وفعل آخر ومعرفة أخرى من أجل إنسان آخر. وحينها، وقبل حينها وحتى اليوم كانت الثورة المضادة بكل جاهزيتها فكان غزو الغرب الراسمالي للاتحاد السوفييتي بمليون ونصف جندي عام 1918، وكانت أولى نتائجه الاضطرار للسياسة الاقتصادية الجديدة، اي العودة إلى السوق وقانون القيمة 1923، وهي العودة أو الجرثومة التي تواصلت حتى سقوطه على يد جورباتشوف ويلتسين. هذا معنى العمل الدؤوب للثورة المضادة. بعد تفكيك الاتحاد السوفييتي وتغلُّب يلتسين على جورباتشوف زار الأخير الكيان الصهيوني قبل اي مكان آخر، كما خلقت له الولايات المتحدة منظمة أنجزة يتعيَّش منها فهل لهذه دلالات؟.
في الوطن العربي كان المشروع القومي محاولة أولية للنهضة العربية، محاولة كان مجرد تبرعمها نقضاً وضداً للاستعمار الأبيض، سيد الكون، بكل حضوره الثقافي والعسكري والاقتصادي والمعرفي. لعل نقطة الضعف المركزية أن المشروع النهضوي لم يكن خارج الخطاب المعرفي الأبيض سوى في جانبه الوحدوي. أما في الجوانب الأخرى فكان تجميعياً في بعضها مخترقاً (المستوى الثقافي) وفي بعضها نصفياً (المستوى الاشتراكي) اي كان امتداداً للحداثة الأوروبية. لكن المستوى القومي الوحدوي كان كافياً وحده لاستدعاء فتح النار عليه من الثورة المضادة من معسكرها الثلاثي نفسه (الغرب الراسمالي والكيان الصهيوني والرجعية/الكمبرادور الحاكم عربياً، فكان إلحاق الهزيمة بالناصرية معركة لا بد منها. وكان الدفاع عن الذات في العراق وسوريا هو بالانحصار القطري وقمع الحريات بدل الذهاب إلى الطبقات الشعبية كخيار وحيد للمواجهة.
لم تتوقف هذه الصراعات سواء ضد الاشتراكية أو ضد العروبية عند إلحاق الهزيمة في المعركة النهائية، بل كان إلحاق الهزيمة حلقة من صراع مديد، كان الاختراق في مبتداه وظل لما بعده. وهذا ما نراه اليوم في لحظة “الثورات” والانتفاضات العربية اليوم، وذلك، سابقاً كما هو اليوم، للحيلولة دون الانطلاق من الموقع سواء من حيث اثر الواقع المادي ومن ثم خلق خطاب معرفي ولغة، ضد معرفة الذات والحراك على أرضية حقها وقناعتها ووجودها وبالتالي صراعها مع الضد. للحيلولة دون أن يكون لهذا الحراك محموله أو حمولته وشحنته المحلية من حيث العمق التاريخي وما راكمه من ثقافة جرت محاولات اختراقها وغزوها وتحطيمها، وقامت كثيرا وضُربت اكثر.
نحن الآن في اللحظة الفارقة، فإما التوقف عند لحظة الديمقراطية التي يتم إخراجها بتضخيم هوليودي، نقصد الديمقراطية الراسمالية الغربية التي انتهت إلى جثة قديمة يتم إخراجها وشطفها لخدمة غرض خبيث ما[2] ثم تُطوى في الأدراج كي يمارس الغرب الأبيض والراسمالي ذبح الأمم مغطى بقرع طبول هذه الديمقراطية. إنها حالة في منتهى الشوفينية أن يزعم هذا الغرب الراسمالي مدنية مجتمعه الذي تقوم الطبقة العاملة فيه، كجنود بذبح امم الأرض!!!. وعليه فالعرب الذين يهللون لها، إنما هم:
إما تواصلاً لحالة هستيريا التقليد والبحث عن رضى الآخر/الضد/العدو، البحث عن الوصول إلى التساوي مع الآخر عبر مقولته، خطابه ثقافته، وهو التساوي الذي لن يحصل، لأنهم يقارعون الخصم بأدواته التي أولجها فيهم. وهؤلاء، بالمعنى العميق، لا يعتبرون العدو ضداً، بل سيداً ولذا، يكمن في عمقهم وعلى لسانهم قرار الهزيمة.
أو رانخين في التطوع الأداتي بوعي لهذه الديمقراطية.
إن الحراك الشعبي العربي حالة مفصلية لا علاقة لمحركها الروحي المحلي بالديمقراطية الغربية التي بدأت بنخبوية حادة وما تزال. فالحراك في مصر وتونس كان تدفقاً جماهيرياً، وليس نهجا نخبويا مطلبيا كما أُعتيد في الغرب الراسمالي، اي الديمقراطية المعلَّبة على المقاس الذي تسمح به اللبرالية. ما دار في مصر وتونس مختلف تماماً عن رؤية النخب الثقافية/القشرة الثقافية اللبرالية والمتخارجة التي تروج للديمقراطية الغربية والتي تفتح ثغرات في روح الأمة كي تتفشى منها حالة التقليد للديمقراطية الغربية الراسمالية والاكتفاء بها وعندها.
ولكن هذا الغرب بما هو مركز راس المال والثورة المضادة، يشتغل بجهد هائل على تحويل النمط الديمقراطي، بل الحرياتي الشعبي العربي إلى النمط النخبوي الغربي الذي يقدم ديمقراطية سياسية ويحول دون الديمقراطية الاجتماعية الاقتصادية، لسبب اساس هو حماية راس المال وتدفق الربح المتحصل من الاستغلال الأقلوي للأكثرية الشعبية. إنه احتجاز الحالة الديمقراطية عن وصول مآلها الحقيقي.
فلكي يكون ما يحدث في الوطن العربي ثورة، لا بد من القطع الكلي مع النمط الغربي الرأسمالي، ولا بد من تخطي طلب اعتراف هذا الغرب بنا أو استرضاءه، بل وهذا الأهم لا بد من الهجوم باتجاه الثورتين الثانية والثالثة. ومجرد هذا الهجوم هو تناقض تناحري مع مقولة وخطاب وخطة الغرب الراسمالي. إن المطلوب هو التخطي والتجاوز وهذا وحده الذي يخرجنا من حالة التعليب التي يتم فرضها لاحتواء الحراك وتدجينه، وإيصالنا إلى ما وصلت له الشعوب في الغرب، اي الدوران المخدر ضمن ما ترسمه الدولة الليبرالية أو كما كتب النابغة الذبياني:
فإنك كالليل الذي هو مدركي… وإن خلت أن المنتأى عنك واسعُ
او كالمعارضة التي تحدث عنها هوبس، ديدان صغيرة في بطن الوحش الكبير الليافايثان، ربما هي ديدان تساعد على تخمر الطعام ولا تفت من عضد الوحش اي السلطة والنظام. أو كما رأى ميشيل فوكو المعارضة او القوى الثورية مجرد مخلوق خلقته الدولة/السلطة ولن يخرج من إطارها، ليبرر في النهاية يأسه كمفكر وكفره بالصراع الطبقي واستسلامه لل تسامح! إلى هنا يصل دوماً من يعومون في اللغة البحتة.
ليس أخطر من الارتكاز على والانطلاق من الحدود الفكرية الحداثية الغربية التي رسمها لنا الأبيض الرأسمالي ومن ثم الدوران ضمن أفقها ومضامينها وأهدافها التي هي الإقرار بأفضلية وسيادية الغرب الراسمالي. ماذا ستؤتي هذه سوى بقاء الاستعمار بأدوات محلية تشل الثوريين؟
من ناحية مظهرية إعلامية تبدو ديمقراطية الغرب أوسع من نخبوية بمعنى صوت لكل فرد، ولكنها محاصرة بنخبوية أكثر خبثاً هي النخبوية المالية، وقاعدتها السوق، بمعنى أن الأكثر ثراء وقدرة على الإنفاق، وفي هذه الحالة الرشوة مترجمة بالدعاية الانتخابية، هو الأكثر حظاً بل هو المحظوظ تأكيداً. لذا تتبدل على هذه البلدان القوى الطبقية نفسها أما الجمهور فهو “قطيع” يعتقد أن الحكمة في راسه. وهنا يمكن الجزم بأن تعبير القطيع أكثر اصالة وعمقاً من تعبير غرامشي الهيمنة. بقي أن نشير إلى أن الاختراق أداة من جهة ومقدمة من جهة ثانية للهيمنة الثالثة.
[1] بمرور كل يوم يزداد الحذر في استخدام مفردة الثورة، ولذا استميح القارىء عذرا إن وردت تسمية ثورة في اي مكان دون تحفظ او اقواس.
[2] لعل مثال استخدام منظمة التحرير الفلسطينية مناسباً تماماً لاستخدام الغرب الراسمالي للديمقراطية.