كي تكون ثورات لا تواصُلاً للاختراق وهيمنة ثالثة (الحلقة الثانية)
الوطن العربي
بين الثورة… الثورة المضادة والهيمنة الثالثة
عادل سمارة
رغم معالجة أكثر من مفكر لمسألة الهيمنة قبل المفكر والمناضل الأممي أنطونيو غرامشي، إلا أن مساهماته أدت إلى شبه حصرية هذه المسألة فيه. ربما كان همَّ غرامشي هو تفسير لماذا أمكن للدولة ومن ثم الإيديولوجيا البرجوازية أن تُبقي على تماسكها رغم الجوهر الاستغلالي لنظامها! يعزو الكثيرون هذا إلى مرونة أو لدائنية الراسمالية، ولكن هذا غير كاف لأنه لا يُظهر ميكانيزمات هذه المرونة. وفي هذا السياق لم يتطرق غرامشي، أو أحد بعده إلى المستوى النفسي الذي يمكن قراءة أطروحات غرامشي على اساسه. فمقارباته السياسية والاقتصادية الاجتماعية التي تحلل الهيمنة تشي بفائدة ما من قراءة الأمر بعلم النفس، بمعنى كيف ينعكس التطور المادي، الحياة المادية على الطبقات الشعبية فتتمثل أطروحات السلطة التي تستغلها اي تُخترق بهذه الأطروحات؟ فالهيمنة لدى غرامشي متركزة في البنية الفوقية، اليس علم النفس ضمنها؟ لكن هذا مجال آخر.
لا ينتبه كثيرون إلى حقيقة أن أطروحة غرامشي في جوهرها صراعية بين هيمنتين وليست وصفة لشرح وتوصيف محايد، أو توصيف معارض ضمن النظام نفسه، لهيمنة الدولة البرجوازية، بل يبغي التضاد القائم بين هيمنة هذه الدولة ونقيضتها هيمنة الطبقة العاملة. أي كيف تقيم الطبقة العاملة هيمنتها وتغير النظام وليس فقط لتستلم السلطة في الدولة نفسها على اساس تعددي أو تداولي.
إن فهم هذا التضاد عالي الأهمية اليوم في تطورات الوطن العربي. فالحراك الذي هو شعبي يبقى جوهره طبقياً، ويجب أن يبقى. فما حصل في مصر وتونس ما زال ضمن سيطرة البرجوازية على السلطة، وهي تجذر سلطتها تحت يافطة الثورة وحراب الجيش. ولعل الأكثر دلالة قرارات المجلس العسكري ضد الإضرابات بتهمة:”تخريب الاقتصاد- الوطني!”. وبغض النظر عن مآل تطورات سوريا واليمن وربما البحرين يبقى السؤال الأساس هو: من سيكون في السلطة؟ وفي خدمة من ستكون السلطة؟ هل سوف تتجذر إيديولوجيا السوق ؟ ومن هي القوى التي ستواصل النضال لاقتلاعها؟ وهل سوف تتمكن سوريا على سبيل المثال من الجمع بين الممانعة وبين التراجع عن اقتصاد السوق الاجتماعي بجوهره الراسمالي الواضح، وبكلمة أوضح، إلى اين سيؤول الصراع الطبقي داخل النظام؟ هل ينتقل الإصلاحيون فيه خطوتين إلى الأمام:
· خطوة التحول إلى الخيار الرافض لقانونَيْ السوق والقيمة
· وخطوة التحالف مع شِقَّيْ المعارضة الثورية ضد النومنكلاتورا، والشقان هما:
o الطبقات الشعبية حتى دون تبلور ممثلها الاشتراكي
o والشخوص المعارضة أمثال عارف دليله وميشيل كيلو…الخ.
عودٌ إلى غرامشي. لكن أطروحة غرامشي هذه بثوريتها ظلت محصورة في النطاق الأوروبي، اوروبا الراسمالية المتقدمة وإلى حد ما المتخلفة ممثلة في أوروبا الشرقية وخاصة الاتحاد السوفييتي عشية وبعد بضع سنوات من ثورة أكتوبر البلشفية. وبهذا المعنى كان غرامشي مركزانياً أوروبياً بلا مواربة حيث لم يتطرق، على الأقل في هذا المجال، للعالم الثالث، هذا مع أن كتابات ماركس عن الاستعمار والمستعمرات قد سبقته بكثير ناهيك عن أنه عايش لينين الذي كان أول من تنبه للنظام العالمي،وشاركه في ذلك بوخارين، ببنيته مركز/محيط وأول من تعاطى مع دور المستعمرات وشعوب الشرق في الثورة الاشتراكية، وكونه عاش فترة ما بين الحربين الإمبرياليتين والفاشية في إيطاليا. وقد تكون هذه الكتابات التي افترضت أن يقوم المركز بإعادة خلق/تطوير المحيط على شاكلته هي التي طمأنت غرامشي أن الجنة الموعودة هي في عِبِّ أوروبا فتساوق مع اختزال العالم في أوروبا تحت وهم أنها “سوف تجر، بل سوف ينجر” العالم ورائها! فأي اطمئنان غيبي! وفي هذا الاعتقاد سحب لتطور حيز ما على كل حيز آخر مهما كانت الاختلافات تاريخيا وثقافيا وواقعيا؟ وفي هذا تمهيد لما نسميه الهيمنة الثالثة. فالأولى هيمنة الدولة البرجوازية في المركز، والثانية هيمنة الطبقات الشعبية هناك، أما الثالثة فهي هيمنة المركز دولة وطبقات شعبية على المحيط بأدواتها وبأدوات من المحيط نفسه.
إذا صحَّ استنتاجنا أن غرامشي مركزاني فهو بالانحصار في المركزانية الأوروبية يخرج عن جوهر الفلسفة الماركسية ومرتكزها وهو التاريخ كسيرورة عملية متنوعة لا خطيَّة، وهذا نهج ماركس الذي اعتبر التاريخ مسرح التطور وأن المجتمع المدني وليس الدولة هو اللحظة الفعالة في التطور التاريخي، فهو قوة التغيير وساحة صراع الهيمنتين. وإذا كان هذا صحيحاً، فلماذا تقوم منظمات ما يسمى المجتمع المدني في الوطن العربي بهذا التعاقد مع الغرب الراسمالي لتوريطنا في الهيمنة الثالثة، اي تحل محل/ أو تتقاطع مع الدولة التابعة والمستبدة في هذا التوريط لنكتفي بديمقراطية سياسية لن يكون أعلى مآلاتها سوى انتخابات تدفع إلى السلطة رجال المال والأعمال!
ومقاربتنا هنا ليست محصورة في هدف بلدان المركز في الهيمنة على المحيط، بل اساساً في التقاطع الجدلي بين ممارسة المركز لهذه الهيمنة وبين استدعاء المحيط نفسه للهيمنة على مجتمعه، حالة الوطن العربي. وبالطبع المقصود هنا الطبقات ذات المصالح من الجانبين. وما استدعى هذه المحاولة هو تطورات “الثورات” والانتفاضات العربية الحالية وخاصة انحصارها في الديمقراطية ووجود تلك البوابات العريضة للإمبريالية كي تنفذ منها إلى عمق الحركة الشعبية لتفتك بها. هذه الهيمنة الثالثة، وهي مزدوجة، مركز/محيط تشكل خطراً كبيراً إذا لم يتم نسفه سوف يحتجز تطور الوطن العربي لعقود سوداء طويلة قادمة.
إن محاولات حصر الثورات الحالية أو اكتفائها بالديمقراطية، هو تحويل السيطرة الغربية إلى هيمنة، هي الهيمنة الثالثة، مجسدة في نشر الفكر اللبرالي الغربي، وثقافة السوق، وثقافة الغربنة والتخارج كالتركيز على: الديمقراطية بالعموم، والانشغال بالديمقراطية تحت استعمار استيطاني وعسكري، والتركيز على حقوق المرأة من مدخل الجندر وليس الوطن والطبقة، وعدم التعرض للفكر الراسمالي واعتماد التمول كاساس “للتنمية” دون حدوث تنمية، وإنفاق أموال على المكاتب والرواتب وتعميق إيديولوجيا السوق والتكفير بالسرديات، والتعاطي مع نظائر صهيونية لها…الخ.
في هذا السياق تلعب القوى اللبرالية المحلية (أولاد هيلاري) ومنظمات الأنجزة، دوراً اساسياً في ترويج وتكريس الهيمنة الثالثة، فهي حالة استدعاء غزو ثقافي من المركز إلى المحيط غزو ثقافي على عجلات مالية هي آلية لتشجيع ورعاية التخارج الثقافي من المحيط إلى المركز، هي مُرسلة ومرتبطة بالدولة الأجنبية كعدو وغازٍ وهي التي تنشر ثقافة راس المال ودمقرطته العنصرية سوءا بالحديث عن المجتمع المدني وحقوق الإنسان. اي إنسان، لم نعد نعرف! وهي ليست تماماً ضمن هيمنة السلطة الكمبرادورية الحاكمة في المحيط، ليست جزءا من جهاز الدولة، كما لأنها متخارجة فهي تقحم نفسها على منظمات المجتمع المدني المفترض أنها نَبت محلي، هي تطالب بديمقراطية من النمط الغربي وتروج للسوق واللبرالية الجديدة، وهي ليست ضمن هيمنة الطبقة العاملة التي هي تحررية وطنية وثورية وفي النهاية اشتراكية دون مواربة.
إن الديمقراطية التي يتم تصديرها إلى الوطن العربي اليوم مجسدة في السوق والتبعية واللبرالية بدون ديمقراطية المنتجين هي سلعة أكثر خطورة من استيراد السلع المادية معمِّرة أو استهلاكية، ليست من “دائرة ( أ) ولا (ب) حسب ماركس Department I or Department II. هي سلع ثقافية معرفية تشتمل على الدائرتين خارج الإنتاج المادي وخاصة المدخلات المادية، ولكنها تولَّد عوائد مالية عبر تمثُّلها ضمن اقتصاد السوق بمعنى أنها تُنتج التبعية التي تُترجم في النهاية إلى دخل مالي ضمن نشاط السوق. وخطورتها أنها تُعمِّر دهراً طويلاً وينقلها الأباء إلى الأبناء، والمعلم إلى الطلبة والشيخ إلى مريديه، هي تورَّث من جيل لآخر وربما من عصر لآخر، وعليه، فإن نزعها أو مواجهتها في اشد المرارة والخطورة.