ثنائية الأدب وحقوق الإنسان

توأمان منذ فجر التاريخ:

ثنائية الأدب وحقوق الإنسان

آثر “الخليج الثقافي” أن يتناول في عدده هذه علاقة الأدب بثقافة حقوق الإنسان في ظل المتغيرات العربية الراهنة، والروح الجديدة التي تجتاح الوطن العربي، حيث أصبح شعار الحرية هو الشعار الأكثر طرحاً ووضوحاً في كل الحركات الاحتجاجية التي يشهدها غير بلد عربي، ولطالما كانت مدونة الأدب العربي المعاصر في جزء كبير منها هي لسان حال الحرية المفتقدة، والإنسان الباحث عن الكرامة، وفي بعض الأحيان غامر بعض الكتّاب في فضح وقائع بعينها تعتبر انتهاكاً واضحاً لحقوق الإنسان .

ونحن إذ نواكب ما يجري فإننا نحاول من خلال هذا التحقيق أن نسلط الضوء على علاقة الأدب بحقوق الإنسان، وبمنظومته التي مازالت تنتهك في غير مكان من وطننا العربي والعالم، وذلك رغم التطور الكبير الذي عرفته هذه المنظومة قانونياً وثقافياً ومؤسساتياً .

قالت الكاتبة والروائية السورية كلاديس مطر: “من اللافت أن تناول موضوعات تتعلق بحقوق الإنسان في الأدب العربي جعل من أصحابها نشطاء وأبطالاً في عيون القراء والمرجعيات، بل في عيون منظمي المهرجانات الأدبية في الخارج والجهات التي تتولى تقييم أوضاعنا المعيشية العربية والحكم بشرعيتها أم لا وما أكثرها، مع ذلك، اختزلت النصوص الأدبية لدينا في دفاعها عن حقوق الإنسان والقهر الإنساني لتحصره، على الأغلب، في أشكال القمع السياسي أولاً والذي يعانيه الإنسان العربي في السجون والمعتقلات والملاحقة . وهذا جزء من الصورة وليست الصورة بكليتها” .

لكن القهر، بالمعنى المطلق للكلمة، هو ما يقف أمام تطلعات الإنسان المشروعة وحقه في الحياة الكريمة وهو – أي القهر – يطال كل أوجه الحياة خصوصا تلك النواحي التي تتعلق بوضع المرأة والطفل، كما يطال الإنسان باعتباره مالكا لحريته الكاملة والمسؤولة في آن معاً، ولقد كان شائكاً جداً أن يتبنى الأدب العربي بسهولة قضايا تتعلق بحقوق الإنسان وألا يُصنف كاتبه/كاتبته باعتباره/ها محرضاً/ة على الثورة المجتمعية ودافعاً المجتمع باللحاق في ركب العولمة من دون أي اعتبار لأي “نسبية ثقافية” تتعلق بحقوق الإنسان .

ولكن أكثر وضوحاً ودقة أقول إن الأدب الذي يتبنى بنود حقوق الإنسان، كما هي واردة في الوثيقة العالمية ويطلب من مجتمعه وقياداته التمسك بها مهما كلف الثمن إنما يدخل حقل ألغام فعلي، وأنا هنا أصف ما يحدث موضوعياً . فمن ناحية سوف يُتهم بأنه يتجاوز النسبية الثقافية لمجتمعه والاعتبارات القيمية والاجتماعية والدينية التي تشكل البنية التحتية القوية للمجتمع، وهناك أمثلة كثيرة على ذلك لا تتعلق فقط بأدب السجون والمعتقلات (وهو الصنف الأدبي الوحيد المتعلق بحقوق الإنسان المقبول نسبياً) وإنما يتعلق بحرية المرأة وحقوقها وهنا الطامة الكبرى . ومن ناحية ثانية، سوف يقال إن هذا “الأدب” على الرغم من كل النوايا الطيبة التي فيه والتي تتطلع إلى مجتمع أفضل، إنما يقدم صورة عن المجتمع أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها “تحريضية” بمعنى أنه يُظهر أبشع ما فيه ليقول “هذا هو المجتمع الذي نعيش فيه” والذي “ليس على مقاس بنود حقوق الإنسان” .

لكن الأدب عليه أيضاً ألا ينساق وراء المواثيق الدولية فيتبناها من دون تمحيص أو لأكن أكثر تحديداً فأقول إن مهمة الأدب، طالما هي الكشف عن العيوب، مهمتها تفنيد ومعرفة إذا ما كانت تراعى حقوق الإنسان على الإطلاق في مطلق بلد . فحين تروج احدى الدول لنموذج الديمقراطية والحرية لديها وتحاول فرضه عسكرياً على دول أخرى باعتباره النموذج الأمثل الذي يصح في كل مكان وزمان فإنها لا تخالف فقط بنود حقوق الإنسان، طالما هي تروج لهذه البنود عن طريق آلة الحرب، وإنما تحيل هذه “الوثيقة” إلى أداة تهديد وتسييس مهولة . لهذا، على الأدب أن يرى هذا أيضاً فلا يكتفي بالتبني من دون تفنيد، وذلك لأن الكتاب/ الكلمة يعد إلى هذه اللحظة من أخطر أدوات التثقيف والوعي والحض على التفكير والمحاكمة، ومن المسؤولية بمكان أن يتحلى الكاتب/المبدع برؤية مسؤولة أثناء الكتابة وعدم الاكتفاء بالشطحات الإبداعية المنفلتة من عقالها .

إننا نعيش عصر حرج بكل المعايير والمقاييس بحيث إن كلمة من هنا وكلمة غير مسؤولة من هناك يمكن أن تطيح عبر انتقالها السريع جداً بمجتمعات وأسس بأكملها . والأمثلة كثيرة على “الكلمات المتلفزة” التي “تأمر” بتنحي هذا الحاكم أو “انتهاء صلاحية ذاك الحاكم” . . . إنه عصر الكلمات المسؤولة وليس العكس، عصر الانتباه لكل كلمة تقال ولكل فكر يُطرح . . لأن مسؤولية حاملي الكلمة أكبر مما نتصور وتأثيرها ساحق في المجتمعات والشعوب .

الأدب وحقوق الإنسان توأمان، مع ذلك، يسيران جنباً إلى جنب، لكن ليس من دون تفكير أو بانقياد أعمى وإنما بكثير من الانتباه والتروي .

وقال الكاتب السوري قمر الزمان علوش: “في الحالة الطبيعية، ومن دون أن يكون الكاتب أو الروائي، أو الفنان، مطلعا على شرعة حقوق الإنسان التي تنادي بها الأمم المتحدة، أو مؤيداً لها، لا يمكن أن يكون كاتباً إنسانياً مبدعا ما لم ينطلق منها في كتاباته أو فنه، أو ما لم يقاتل من أجلها عفو الخاطر بقلمه وأظافره .

فكل أدب أو فن مبدع هو بالضرورة إنساني النزعة، وحقوق الإنسان معروفة بالفطرة، والتلازم بينهما هو شرط الإبداع واكتمال الصورة .

كل آداب الشعوب، وفي مجمل العصور، وخصوصاً في القرن الأخير، دانت الحروب والقتل والتمييز العنصري واستلاب الحريات والتعذيب في السجون . . إلخ . . وسجلت بطرق مختلفة أبشع صور انتهاكات حقوق الإنسان هذه، وقد تجلت إبداعاتها ومصداقيتها وشفافيتها في تلك الأعمال الخالدة التي واكبت أو أضاءت المرحلة الكولونيالية القديمة، وهي كثيرة، ولكن يمكن أن أذكر منها هنا كتاب “معذبو الأرض” ل”فرنس فانون” عن الاستعمار الفرنسي في الجزائر لأنه يخصنا كعرب . وبالطبع كان للحربين العالميتين اللتين خاضتهما أوروبا وأمريكا، النصيب الأكبر من الأعمال التي وضعت حقوق الإنسان في مركز اهتماماتها، نظراً لما جرى في هاتين الحربين من عنف ووحشية وجرائم ضد الإنسانية .

ولكن الغريب في الأمر، وهذا ما يحسه كل قارئ للتاريخ، أن كل هذه الآداب، وكل تلك الفنون، لم تتمكن أبداً من إيقاف وحشية الحروب أو جرائم الدكتاتوريات أو انتهاكات حقوق الإنسان في أي بقعة من بقاع الأرض، بما فيها تلك البلدان الديمقراطية التي تتباهي بأنها صنعت هذه الحقوق ونصبت نفسها حامية وراعية لها .

هل نذّكر بآلاف الأمثلة التي تدحض ادعاء وزيف هذه البلدان، بما هو حادث بالأمس أو يحدث الآن؟ وهل يمكن لأي فيلسوف أو عالم نفس أو كاتب أو مؤرخ، أن يفسر، ولو على سبيل المثال لا الحصر، ما حدث في سجن أبوغريب الجماعي على يد أكبر وأقوى دولة في العالم، وأكثرها تشدقاً بالديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان؟ . . هل يمكن لأي عقل بشري أن يفك تلك العقدة الجهنمية المحبوكة من نقيضين داخل الشخص نفسه؟ . .

في الكتابة، لا نستطيع أن نفرق بين المبدأ والشخص . ولكن كما يبدو، فإن ثقافة القتل والحرب وتحكم القوي بالضعيف، كانت أقوى عبر التاريخ وحتى هذه اللحظة، وقد هزمت، إلا في مساحات قليلة وضئيلة، ثقافة الحق والمعرفة والعدالة، وجعلت من طوفان الكتب والأفلام السينمائية جزءاً من الأرشيف الإنساني المفصول عن عالم الواقع، وأشاعت روح اليأس لدى من يكتبون بعدم جدوى الكتابة .

أما إذا سألتني: ماذا بعد؟ . . وهل وصلت الكتابة عن الإنسان وحرياته وحقوقه الطبيعية إلى جدار الصمت؟ فأنا أقول إن ذلك لن يحدث، وسيظل هناك من يكتب ويناضل ويموت في سبيل هذه القيم، ولا تستغرب إن قلت لك إن منطقتنا العربية والإسلامية التي عايشت أقسى وأمر التجارب البشرية في العصر الحديث، من القريب والبعيد، ستكون في مستقبل الأيام منطلقا لإعادة صياغة التاريخ على أسس الحق والعدالة والمعرفة لكثرة المقاومين الذين سيقضون في سبيلها” .

الكاتب الفلسطيني حسن حميد قال: “في ظني، وإجابة عن السؤال المطروح، أن كل ما يكتبه الكاتب سواء أكانت كتابته في مجال الإبداع (رواية، قصة، مسرح، شعر . .) أو في مجال التأليف والدراسة والتحليل . . له علاقة مباشرة بالإنسان، ذلك لأن موضوع الكتابة الأهم والأبدى هو الإنسان، وكل ما يدور حول الإنسان يدور بالضرورة حول حقوقه .

هواجس الإنسان وعواطفه، وتشّوفاته، وأخلاقه، وأحلامه، وأفعاله، ونزواته، . . كلها تبدو للعيان مجسدة كأفعال وتصرفات وسلوكيات لأنها ناتجة عن قناعة بأنها حق من حقوق الإنسان، من دون النظر إلى المستوى الثقافي والاجتماعي لهذا الإنسان (عالم، مجرم . .) .

هذا أولاً، أما ثانياً . . فإن الحديث عن قيم مثل: العدالة، الإخاء، المحبة، المساواة، التعاطف، الفقد، الهجر، الخوف، الموت، الاغتصاب، الحجز، الاعتقال، الطي، التحييد، الإقصاء، التهميش، الظلم، الأذى، الإكراه، . . هو حديث عن الأدب والثقافة من جهة، وهو حديث عن الأديب والكاتب من جهة ثانية، إذ ليس في بال الكاتب والمبدع، حين يكتب، من أولوية، مثل أولوية حقوق الإنسان، لأن الإنسان هو المادة الأولى، والمادة المتشظية والمتعددة التي يتعامل معها الكاتب، أو قل هي البئر الأولى التي يرتوي منها وسيعود إليها من أجل الارتواء الأبدي .

أما ثالثاً، فهو يتعلق بالجانب التنويري لأن ما يكتبه الأديب، أيا كانت جماليته وأهميته، فهو كتابة مطفأة ومعتمة إن لم يكن الإنسان مدارها وجوهرها . .

لا تنوير من دون الإنسان، ولا كتابة من دون الحديث عن الإنسان وحقوق الإنسان في عالم تسيطر عليه الأحابيل الشيطانية .

ويرى د . عبدالمنعم تليمة أن البشرية تسعى في مسعاها نحو الحق والعدل والمساواة والخير، منذ بدء التاريخ البشري حتى اليوم، وقال: نجد هذه التجليات والمساعي في النصوص الأسطورية العتيقة والملحمية، ثم أخذت درجة رفيعة من النضج في النصوص المقدسة والدينية، وحقوق الإنسان في الإسلام لها صياغات رفيعة، لكنها محدودة وخاصة بالمسلمين، وكذلك الحال في اليهودية والمسيحية، والنصوص الملحمية حسب بيئتها، لكن الفن له أدواته وهو اللغة المشتركة للبشرية فيجعل أعلى صياغة لحقوق الإنسان في نقاوتها الإنسانية المطلقة في الفن، لأن الأديان موجهة لطوائف معينة والدساتير تنظم الحياة في بلدان محددة، والقوانين موضوعة لمستويات التطور الاجتماعي، لكن الفن عندما يصوغه بشر يصبح لغة بشرية عامة، يفهمها كل الناس” .

ويؤكد القاص سعيد الكفراوي أن العلاقة بين الأدب وحقوق الإنسان علاقة قديمة من قدم الأدب نفسه، “فالأدب الجيد على طول تاريخه كان المبشر بحق الإنسان في الحرية وفي النقد وفي السعي نحو المعرفة، وعاش طوال عمره يطرح على نفسه سؤالاً: كيف يعيش هو وغيره بالعدل؟ من هنا كانت أهم الأعمال الإبداعية والفنية تؤكد حق الإنسان في تلك القيم منذ بدء التاريخ، ونشأة علم الفلسفة والوعي بالفكر، كانت منظومة حقوق الإنسان هي الهدف والمسعى” .

ويقول الكفراوي: “أعتقد أن أهم أعمال المعلمين الكبار أمثال شكسبير، وتولستوي وأنطون تشيكوف وبورخيس هي منظومة للانتماء لحق الإنسان تأكد ذلك قبل القوانين، وإنشاء عصبة الأمم، كان الأدب هو متن الحقيقة الساعي لإحداث سؤاله الكبير وإجابته المهمة للإنسان الحق في الحرية والعيش الكريم في ظل التعليم وسيادة القانون ودفاعه عن وطنه ووجوده لأن الأدب الصيغة المثلى التي عاش من خلالها الإنسان ليسعى إلى معرفته ويتعرف من خلالها إلى حياته .

ويتساءل د .محمد عبدالمطلب: “هل هناك أدب يخلو من حقوق الإنسان وصفة الأدب الأولى أنه عمل إنساني يصور الشخوص في حياتها وهي تنال كل حقوقها أو تسلب كل حقوقها ويتابع الوقائع والأحداث والسلطات المختلفة ويعري ما يراه من سوء ويمتدح ما يراه من حسن والنصوص التي ظهرت قبل 25 يناير كانت إرهاصات لهذا الواقع الذي حرم فيه الإنسان المصري من حقوقه الإنسانية، فالانتخابات مزيفة، والسلطة فاسدة، والاقتصاد يحتكر بعض الأشخاص والغني يستعبد الفقير وحاشية السلطة تقود الناس باللين أو العنف” .

ويضيف د . عبدالمطلب: إذا قرأت نصاً لجمال الغيطاني مثل نص “حكايات المؤسسة” أو قرأت نصا لنجيب محفوظ وهو يعري الاستعمار أو نصاً لمحمد سلماوي وهو يفضح السلطة الفاسدة في مصر كل هذه النصوص وغيرها تصور الإنسان الذي سلبت حقوقه الشرعية، وتصور السلطة التي تسرق حقوق هذا الإنسان .

:::::

المصدر: “دار الخليج”

http://www.alkhaleej.ae/portal/9585a7a0-7536-44be-8b34-06cb45082d72.aspx