كي تكون ثورات

كي تكون ثورات لا تواصُلاً للاختراق وهيمنة ثالثة

(الحلقة الثالثة):

أمة ضُيِّعت قرناً

عادل سمارة

دخل الوطن العربي مع هذه “الثورات”، او الانتفاضات، مرحلة الصراع المفتوح مع سايكس ـ بيكو، ذلك التحالف الثلاثي الذي لم ينفرط عقده، بل يحاول تجذير نفسه بتعميق التجزئة داخل كل قطر على حدة بما فيها القطريات الخاضعة/الحليفة للمركز لكنها لا تجرؤ على رفض مخطط حليفها/وخصمها في آن اي الإمبريالية والصهيونية!

والصدام مع سايكس ـ بيكو اليوم هو صدام القومية العربية مجدداً مع هذا المشروع الراسمالي الغربي، بعد أن خسرت الحركة القومية معركتها معه مع نهاية ستينات القرن الماضي. عانى الوطن العربي من الهزيمة الاجتماعية الاقتصادية السياسية على مدار القرن الماضي والتي تجلت في انسداد التحول فلا ترسمل على طريق اللحاق ولا تحول إلى اشتراكي بل عاش فترة انتقالية مديدة لأكثر من قرن. ومع استعار هجمة الثورة المضادة اليوم حيث الوطن ميدان مفتوح من محيطه إلى خليجه يُخشى أن تمتد هذه الفترة الانتقالية أكثر! إضافة إلى الفشل الانتقالي عانت الأمة العربية من هزائم عسكرية كرست اغتصاب الأجزاء المحتلة منه[4] وأضافت عليها استكمال هزيمة احتلال فلسطين ومن ثم العراق.

واللافت أن المثقفين المخترقين بفكر الغرب الراسمالي والمنطلقين من قرار استرضائه والفخر بذلك والانهزام المسبق لصالحه، يصبون هجومهم على النظم القومية التي حاولت مواجهة الغرب وفشلت، ولكنهم يتناسون كلياً الأنظمة الرجعية والتابعة بوجودها للغرب ويتجاهلون الغرب نفسه وأحياناً حتى الصهيونية، أليس للاختراق دوره هنا؟ هذه الأنظمة التي إما وقفت على الحياد في صراع الأمة العربية مع المركز الرأسمالي والصهيونية، أو لعبت دور الحليف لهؤلاء الأعداء[5]! ولكن، في عصر شراء الأوطان بالمال، هل هذا الصمت بلا مال!

ليس المقصود هنا نقد هزائم الأنظمة والطبقات الحاكمة بما هي عدوة الشعب طبقياً وبالنتيجة قومياًوإنما هزيمة حركة التحرر الوطني العربية بشقيها القومي والشيوعي. وهي الحركة التي كانت تحمل في بنيتها عوامل هزيمتها سواء بعجزها عن التحالف الداخلي وهو العجز الذي لم يكرسه اختلاف المنبت الطبقي بمقدار ما كرسه الفقر الفكري في فهم وتحليل الواقع الاقتصادي الاجتماعي ومنه المسألة القومية، وإن كنا لا نقلل من دور استهداف  هذا الوطن من قبل العدو الراسمالي الغربي والصهيوني. كما لا يمكن إغفال الموقف المضاد للقومية العربية من قوى اساسية في الإسلام السياسي من جهة اليمين، وأجزاء من الحركة الشيوعية الموسكوفية والتروتسكية من جهة اليسار.

لقد انطلقت طروحات القوى القومية في القرن الماضي من الدعوة لوحدة الأمة العربية دون اية قراءة للخصوصيات المحلية هنا وهناك وكذلك للمعيقات المحلية من جهة، ودون أن تتخلص هذه التيارات من الأجنحة القطرية فيها من جهة ثانية في الجانب الآخر. كما انطلقت الحركة الشيوعية من تبني الأطروحة الستالينية التي قررت أن الأمة العربية أمة في طور التكوين بينما اعترفت بالكيان الصهيوني وهو تجميع استيطاني لأقوام ربما تزيد عن المئة ونفت وجود أمة وقومية عربية وربطت ذلك بالتجربة المركزانية الأوروبية بمعنى أن الأمة لا تتواجد إلا بتواجد السوق الراسمالي الموحد وهو الأمر الذي ترتب عليه انحسار الحركة الشيوعية وخاصة حين اعترفت معظم فروعها بالكيان الصهيوني مما فتح الطريق سهلاً أمام أطروحات إمبريالية وصهيونية تتهم الشيوعية بأنها أداة للصهيونية.

لم يكن هذا دون مفاعيل فقد نتج عنه الكثير وأهمه سيطرة القطري على القومي أي سيطرة سايكس ـ بيكو، هذا هو الانطلاق من القاعدة السياسية الفكرية للعدو الغربي وتلفيعها بالحديث عن الوطنية  والمواطنة والثقافة الوطنية…الخ والتي انتهت إلى ان الأردن اولا ومصر اولا والحكم الذاتي اولا اي انتهت إلى الهيمنة على الأقل، والحقيقة ان سايكس-بيكو اولا. فهل ننكر بعد هذا ان الأمة ضاعت قرناً.

“الثورة” تثبت الأطروحة المختلفة

أمام تمترس الأطروحتين الشيوعية والقومية الكلاسيكيتين عند ما وصلت كل منهما إليه،  لم يكن من السهولة وجود متسع للتحليل المختلف والمركَّب جدلياً قومياً وشيوعياً للوطن العربي. كان تحليلنا منذ عدة عقود أن التناقض النظري الذي اكتشفه ماركس بين القومية والشيوعية في التجربة الأوروبية  جرى سحبه كموديل نظري على بلدان المحيط وخاصة الوطن العربي الذي كان ولا يزال وطن تحت القصف. كما أن الطبقة البرجوازية الوطنية/القومية في بلدان المركز هي غائبة في الوطن العربي، وإن وصول البرجوازية إلى السلطة في قطريات عربية حولتها سواء بالمصلحة أو بالاضطرار إلى أنظمة قطرية اي توابع  للراسمالية العالمية، وهذه نماذج اختراق طوعي مصلحي.

إن القومية العقيدية والطبقية الواحدة الموحدة في الوطن العربي ليست موجودة بل متخيلة، وقد ينسحب هذا على بلدان أخرى ما خلا فترات التصدي لغزو خارجي حيث تكون هدنة تستفيد منها البرجوازية لتعود بعدها لاستغلال الطبقات الشعبية بوضوح. ما هو موجود بالمعنى الفعلي قوميتان لطبقتين أو تحالفين طبقيين:

ـ قومية الطبقات الشعبية التي هي عروبية وحدوية واشتراكية ،

ـ وقومية البرجوازية الكمبرادورية وهي قطرية تجزيئية وتابعة.

وإن العلاقة ما بينهما هي علاقة صراعية بالضرورة وهذا يُحتم على اية قوة طالعة أن تنطلق من قراءة منفتحة لهذه الرؤية تنطلق من الواقع وتنغرس فيه ثانية بأدوات القراءة والتحليل والنقد المشتبك. قبيل الثورات والانتفاضات الجارية كان النصر حليف القومية الحاكمة وهي حليفة الثورة المضادة بل هي الثورة المضادة. وخلال تلك العقود الدامسة السواد هيمنت المزاعم بأن العرب أمة خارج التاريخ. آنذاك استخدمت الثورة المضادة تجويف الوعي سواء القومي أو الطبقي او الحزبي لتغدو كل الساحات خواء بلقعاً، ولينخرط الناس في إيديولوجية استدخال الهزيمة، أو إن شاء غرامشي السيطرة والهيمنة المنتصرة للطبقات الحاكمة. وقد أفرز تجويف الوعي هذا مناخاً مناسباً لنـزيف الثروة بل كان هذا هدفه. ترافقت في هذه الحقبة فوائض النفط مع تراجع الإنتاج الغذائي، وتكريس التطبيع الثلاثي وتراجع البدايات التصنيعية، اي تواكب الفقر والثروة معاً. وطار هباءاً ما اعتقدته أطروحات ماركسية غربية بأن المنطقة تترسمل باللحاق، فإذا هي تتراجع القهقرى فاقدة كل من الثروة والتصنيع والزراعة. ولا حاجة هنا لأرقام تكشف الانكشاف الغذائي ومن ثم الأمني أو القومي. وبدل ان يُسترد شبر من الأجزاء المحتلة من الوطن العربي اتسعت تلك لتشمل العراق والصومال واقتربت من لبنان.

لقد أبدت أنظمة الكمبرادور حزماً هائلاً في تخارجها وتحالفها مع العدو القومي مطمئنة لقدرة قوى الأمن بعديدها وعتادها، وهو ما ضمن لها التجويف والتجريف معاً. وها هي تعمل اليوم بدأب لتحويل الحراك الشعبي إلى أدوات للهيمنة الثالثة.

_______________

[4] من الأجزاء المحتلة مباشرة من الوطن العربي….. قبل فلسطين والأهواز والإسكندرون وسبتة ومليلة

[5] ألم يكن جديراً بهؤلاء المثقفين التنبه لوقوف أكثر من نظام عربي داعمة الكيان للقضاء على المقاومة في لبنان 2006! لو كانت هذه المقاومة حركة شيوعية تهدف تحويل لبنان لبلد اشتراكي، لقلنا من حق اللبراليين عدم الانتصار لها. لكنها مقاومة وطنية.