كي تكون ثورات

كي تكون ثورات لا تواصُلاً للاختراق وهيمنة ثالثة (الحلقة الحامسة):

إنجازات تدريجية أم صراع داخلي؟

عادل سمارة

بعد خلع الرئيس المصري لنفسه خلعاً بدا كما لو كان بيده، كانت هناك إنجازات للثورة سواء بالتحفظ على بعض رموز النظام وحبس البعض الآخر، وكشف الكثير من وثائق جهاز المخابرات، واستعادة كثير من أراض اقتنصها الوليد بن طلال ورموز من النظام (128,000) فدان بسعر 7-10 دولار للفدان، وتحسين العلاقة بإيران، والمحايدة كما يبدو ظاهرياً تجاه سوريا

ولكن بالمقابل كرر وزير الخارجية تمسك المجلس العسكري بالاتفاقات مع الكيان الصهيوني، وتلافى المجلس الحديث عن تسريب الأموال المنهوبة من مبارك وحزبه ودور أنظمة الخليج والبنوك الأوروبية والأميركية في ذلك، ولم يحرك المجلس ساكنا تجاه ليبيا التي تحول الصراع الداخلي فيها إلى عدوان أطلسي يستهدف احتلال البلد[8]، كما لم يتم بحث ولا مراجعة اتفاقية أل كويز، وصفقة الغاز للكيان الصهيوني، بينما قام الشعب بمراجعتها بتفجير الأنابيب مرتين. بمعنى آخر، فإن المجلس العسكري أوقف الثورة حتى ما قبل تخوم الثورة القومية والطبقية. وغدا واضحاً أن النظام الحقيقي اي سيطرة راس المال الطفيلي والفاسد والكمبرادوري على البلد ما زالت قائمة.

وإذا كان التشابه كبيراً بين تونس ومصر، فإن حالة ليبيا مختلفة في أمور اساسية. لم يكن القذافي سعيداً بسقوط نظام بن علي، ويبدو أنه كان يستشعر ما هو آت. ويخطىء من يعتقد أن الديكتاتور لا يراقب ما يدور حوله، فليس وحده. ما من رجل أو امرأة يحكم حتى عشيرة بمفرده.

صار واضحاً أن الحراك الشعبي في ليبيا بدأ كما هو في مصر وتونس، وقد فوجىء المراقبون بدخول السلاح في هذا الحراك سريعاً، وفي رد النظام على الحراك وعلى السلاح كان الإعلام الغربي جاهزاً لحماية السلاح الذي أدخله عملائه سلفاً فدارت ماكينة الإعلام بمزاعم أن النظام قصف بنغازي بالطائرات. وهو الأمر الذي اكتشفت زيفه روسيا ولكن متأخرة. وبناء على هذه المزاعم التي للأطلسي دور في خلقها كي يتخذ وفعلاً اتخذ قرارات على جناح السرعة بالتدخل العسكري الجوي ضد النظام، وكان القصف والدمار.

من قبيل الاستفاضة التذكير بأن هدف الناتو تقسيم ليبيا والسيطرة على النفط وجعلها سور حماية لجنوب أوروبا من المهاجرين، وخاصرة ضعيفة لمصر، بل إن الصحف الصهيونية قد أكدت أن المجلس الانتقالي أعطى للكيان قاعدة عسكرية جوية على حدود الجزائر ايضاً.

يمكننا القول أن نموذج الهيمنة الثالثة هو الأوضح في ليبيا بمعنى استخدام ليبيين في احتلال ليبيا بالعمل نيابة عن الناتو على الأرض وتمكين إعادة الاستعمار.

كانت ولا تزال الخطة ضد سوريا كما هي ضد ليبيا ولكن مع شركاء أكثر في حالة سوريا ومع اختلاف الأهداف. فمقابل نفط ليبيا هناك استهداف دور سوريا في قوس المقاومة والممانعة بمعنى أن إسقاط النظام السوري هو القضاء على آخر معقل قومي لم يعقد تسوية لإنهاء القضية الفلسطينية، وإسقاط الموقع العلماني الوحيد بما يعنيه من فتح الطريق لنظام وهابي في بلاد الشام وتحويل سوريا باسم الإسلام إلى ولاية مجدداً لتركيا التي تقودها جوهريا البرجوازية القومية الطورانية التركية والمتحالفة مع الكيان الصهيوني. كل هذا ناهيك عن أي مصير ستلاقيه المرأة السورية والأقليات وخاصة غير المسلمة؟ هو الدمار الشامل لسوريا إذن.

لكن قولنا هذا لا ينفي أن الحراك بدأ شعبيا في سوريا، وله مبرراته بالطبع ضد النظام بما هو قمعي وتوريثي، وهنا الإشكالية: نظام قمعي ولكن يتم استهدافه لغرض آخر هو تدمير سوريا كما العراق؟ ومن هنا ما أن تحركت المعارضة الوطنية حتى تحركت المجموعات المسلحة من مختلف مناطق الحدود.

لا نبالغ في القول إن الهجمة الإعلامية على سوريا كانت اشد من القصف الجوي على ليبيا، وهي هجمة ضمن سيناريوهين على الأقل:

· تحريك أكبر عدد ممكن من أنواع عديدة من المسلحين لتفكيك روابط أجهزة أمن وجيش النظام تمهيداً لإسقاطه

· إن عزَّ ذلك فليكن أوسع تخريب ممكن والأهم إشغال النظام عن الإصلاح.

في أفق الفكر الأبيض

لقد واصل الكثير من المثقفين العرب سقوطهم في أُحبولة الثقة والمراهنة على العدو الأميركي الأوروبي فغاصوا في وحل الملامة على الغرب باعتباره يكيل بمكيالين! في حين انهم هم أنفسهم نموذج استدخال الهزيمة. والغرب أكثر من سعيد بهذا فهو تجسيد للاختراق. فالملامة تعني أن في الغرب القرار الأخير، وأن هذا الشرق مخصص للتلقي ليس اكثر. وحين يكون اللائمون/العاتبون هم الساسة والمثقفين، فهذه آليات استدخال الهزيمة أو ترويج الهيمنة الثالثة أو الاختراق والإصرار عليه.

ولكي يخفي الغرب الراسمالي بعض وجهه، فقد جعل من دول الخليج واجهة لتخريب الوطن العربي، سواء باحتلال البحرين والمشاركة في ضرب ليبيا أو بزعم الوساطة في اليمن. إن دور دول الخليج هو أخطر من الدور الأميركي لأنه في خدمة الأميركي ولكن باعتمار الكوفية والعقال.

لعل النموذج الثوري الشعبي الأوضح كان في البحرين التي كان حراكها مدنياً وسلمياً، والجماهير قلما تتوفر لديها الأسلحة وهي لا تبحث عنها على أية حال. فالأسلحة توفرت للثورة المضادة في ليبيا وسوريا. أوضحت ثورة البحرين كم هو الصراع شديد على النفط وذلك بتجريد كيانات النفط قواتها للفتك بالشعب العربي هناك. لا يسمح الغرب الراسمالي لأحد أن يستنشق رائحة البنزين! أما الأسلحة التي راكمها مجلس التعاون الخليجي لعقود ولم تطلق رصاصة واحدة لتحرير الجزر الثلاثة ناهيك عن الأهواز، فقد فتكت بالبحرينيين. لكن الشعب هناك ورغم القمع الحر والمفتوح بترخيص عالمي ظل يقاوم حتى بعد رفع الأحكام العرفية من قِبل الملك الذي ينتمي إلى الأقلية التي لا تدعمه.

وتبقى تحربة اليمن مختلفة كذلك. فهي نموذج الصراع الحقيقي على اساس متسع. فاليمن الجمهورية الوحيدة في الجزيرة العربية التي تحرر جنوبها من الاستعمار بحرب الغوار، وهي الوحيدة التي عرفت الانتخابات بغض النظر عن مدى صدقيتها وعرفت التجارب الحزبية، وهي الوحيدة التي تتمتع فيها القبائل باقتناء السلاح. لكنها تشترك مع أنظمة الخليج الأخرى في التبعية السياسية للإمبريالية الأميركية بعيداً عن مزاعم مقاومة القاعدة.

إن قلق أنظمة الخليج من اليمن قائم سواء كان مستقراً بالقمع أم مضطرباً، فهو يمثل كتلة بشرية ضخمة ومسلحة وفقيرة وذات تجارب حزبية في نفس الوقت. ولهذه الأسباب ترفض دول الخليج انضمام اليمن إلى مجلس التعاون الخليجي كنادٍ لأغنياء بلا كفاية بشرية وبأقل انفتاح ممكن على الحد الأدنى من المعاصرة إلى جانب تبعية تصل حد الاحتلال الأميركي لهذه البلدان. كما لم يحاول مجلس التعاون الخليجي مساعدة اليمن رغم قلقه من فقرها لغياب تحكم هذا المجلس بالفوائض المالية التي تنزف إلى المركز الراسمالي سواء إلى الأنظمة أو المصارف أو الشركات.

ضمن سياسة مجلس التعاون مع اليمن “الأُخوَّة… ولكن عن بُعد” يحاول المجلس تمرير وساطة بتزكية أميركية تقود إلى تقويض النظام الجمهوري والعودة إلى نظام أقرب إلى الملكية التي أُزيلت عام 1963. ويبدو ان الولايات المتحدة ومجلس التعاون قد فتحت خطوطاً مع السلطة ومع المعارضة مع ميلٍ إلى احتواء المعارضة حيث تكمن في تعددها كل من قوتها وضعفها. قوتها بمعنى قدرتها على تحدي النظام الفردي، وضعفها بمعنى اتساع فرصة احتوائها من قبل الولايات المتحدة ومجلس التعاون. هل من عجب أن يقول ناطق باسم الحراك الشبابي في اليمن: “أناشد الإخوة الأميركيين”! ولعل من أسوأ المؤشرات على موقف المجلس من اليمن هي دور الوساطة الخليجية. فاية ثورة التي تقبل وسيطاً هو وراء التاريخ!! هذا إضافة إلى الفتوى التي اصدرتها هيئة كبار علماء الدين في السعودية برفض ان يحكم في اليمن لا الإخوان المسلمين ولا الاشتراكيين ولا الحوثيين! فهل يتبقى سوى الوهابيين والمحافظين الجدد!

وإثر محاولة الانقلاب من داخل القصر الجمهوري اتضح ان الصراع في اليمن يتحول إلى صراع مسلح بين قبائل وبين النظام بقبائله بالطبع مما دحر الحراك الشبابي إلى الوراء بدرجة أو أخرى، وهذا مؤشر خطير لا سيما أن صالح أُخذ للعلاج في السعودية وهذا يفتح المجال للقوى القبلية بالاقتراب من السلطة.

الأمر الهام هو خطورة الدور الخليجي في اليمن بما هو في التحليل الأخير دور اميركي

وهو الدور المتكامل مع دور جامعة الدول العربية في استدعاء الأطلسي لاحتلال ليبيا، ومشاركة قطر والإمارات والسعودية والكويت في غزو ليبيا واحتلال البحرين بمعنى ان هناك مشروع الهيمنة الأميركية على الوطن العربي يعبر هذه المرة من أنظمة الخليج.

إن أخطر المؤشرات، بل الوقائع على الأرض هو قيام المعارضة ومن يسمون انفسهم ثواراً بفتح علاقات وحوار وتلقي تعليمات من الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي. إن فتح هذه البوابات يؤكد أن هذه القوى ليست قوى الثورة التي يبحث عنها الشعب، فهي قوى تطمح لاستلام السلطة مستغلة الزخم الثوري للشباب لكي تطفئ قوته وتمتص شحنته كما تفعل أسلاك الإرث للتيار الكهربائي. إنها فاعلية الاختراق إذن، وهذا ما يؤكد أن التحولات الجارية اليوم رجراجة وعلينا عدم الركون والاطمئنان بل العمل لترسيخ التحولات وليس تخارجها وامتطائها من المستعمِر ضمن مشروع الهيمنة الثالثة.

____

[8] هناك تسريبات بأن النظام الجديد أوصل اسلحة للمنشقين!