الفتنة ليست حلاً.. فهل يقتنعون؟
العميد د. أمين محمد حطيط
عندما أطلق حزب الكتائب قذيفته على اوتوبيس فلسطيني في العام 1975 معلنا اندلاع الحرب في لبنان، سارع بيار الجميل رئيس الحزب الى تفسير ما حصل قائلا «لنا او للنار» وكان يعني بكلامه المقتضب يومها ان لبنان يكون تحت حكمهم او يحرق، وبالفعل لم يترك هذا الحزب واعوانه وحلفاؤه بابا الا وطرقوه بما في ذلك الارتباط بـ»اسرائيل» التي احتلت لبنان وأخرجت الفلسطينيين ونصّبت الكتائبي امين الجميل رئيسا للجمهورية، وكان في هذا التنصيب استجابة لما كان الاب قد طالب به، فبعد ان حرق لبنان بآتون الفتنة والحرب الداخلية تمكن الحزب من الاستيلاء على الحكم، لكنه حكم لم يستقم لصاحبه وسرعان ما انهار وتبعه انهيار الدستور والاعراف التي جعلت مما يسمى «المارونية السياسية» السمِّة التي يحكم لبنان بمقتضاها، والتي قامت على انقاضها جمهورية الطائف التي سرعان ما تحول الحكم فيها الى يد «الحريرية السياسية» التي احكمت سيطرتها كليا على لبنان وحولته بعد ان خرج الجيش السوري منه في العام 2005 الى مشيخة كل شيء فيها حريري من المطار الى الجامعة الى االمستشفى الى الطريق الى كل شيء ورسخت في الذهن مقولة لبنان لنا «نحكمه اونحرقه» مذكرا تماما بقول بيار الجميل الذي حرق فحكم ثم خرج هو وحزبه من المعادلة الوطنية. والآن ومع خروج «الحريرية السياسية» من الحكم يطرح السؤال هل سيكرر الحريريون تجربة الكتائبيين بالحريق الذي يقود الى الحكم؟
الدلالات الاولى للسلوك الحريري تشير الى ان الكتائب اهدت كتابها ومنتجها المنفصل عنها والمتقدم عليها ايضا (القوات اللبنانية) الى الحريرية السياسية فتلقفت الكتاب والوليد وقررت ان تعمل بالكتاب وتستند الى دعم الولد. وليس غريبا ان تتقلص ما سميت يوما «ثورة الارز» وجماعة «14 أذار» لتنحصر بالثالوث (الذي لا تجد احدا يسميه مقدسا) والجسم الاساس فيه هو تيار الحريري ومعه الجناحان «كتائب» و«قوات لبنانية» ويحيط بهم بعض من المستفيدين براتب او اطلالة تلفزيونية او وعد بمغنم في يوم ما. ولكن يجب الاقرار ان هذا التكتل هو تكتل الحريرية مالا وإعلاما وعلاقات خارجية. ما يعني ان الحريرية السياسية قد تجازف وتسلك سلوك الكتائب لتثبت ان لبنان لها او تحرقه؟
اذا كانت النوايا الحريرية قابلة لدفع اصحابها الى طريق النار او الاستئثار، خصوصاً وانها لم تتقبل الخروج من الحكم بعد ان ادمنت الاستئثار به منفردة لمدة ست سنوات، فإنها قد لا تتردد في طريق اقتداح النار التي باتت كما يبدو في ذهن بعض اصحاب الخطط الجهنمية الطريق الوحيد للعودة الى نعيم السلطة والتسلط على لبنان ولكن هل ان طريق النار سالكة ومضمونة النتائج؟
هنا وبمراجعة للواقع الميداني بكل ما فيه نرى الصورة التالية:
1ـ عوّل حزب الكتائب على «اسرائيل» لتخرج الفلسطينيين وتسلمه الحكم، لكن هذا الامر غير قابل للتحقق الآن لان «اسرائيل» التي لم تخرج من مفاعيل هزيمتها في العام 2006 رغم كل ما قامت به من ترميم واعادة تنظيم وتأهيل وتجهيز ومناورات، فهي غير قادرة على الحرب وان دخلتها فهي غير قادرة على الانتصار ولن تستطيع ان تنصب في لبنان حاكما ولن يكون بالتالي هناك فرصة للحريرية بان تعود الى الحكم بحراب «اسرائيلية».
2 ـ عوّل حزب الكتائب على «اسرائيل» لانشاء ميليشيا «القوات اللبنانية» التي (اصبحت الآن حزب «القوات اللبنانية» المنفصل عن الكتائب) وقد تمكنت تلك الميليشيا من السيطرة على المنطقة المسيحية، وان تتصدى للجيش وتفرض حكمها خارج حكم القانون وفوق السيادة الوطنية، وقد ساهمت الظروف آنذاك في تسهيل الامر لتلك المليشيا، أما الحريرية السياسية فقد جربت حظها مع السلاح وفشلت في العام 2008 وانهارت ميليشياتها بأقل من 6 ساعات، ولم تستطع ان تنفذ من المهام الا ارتكاب مجزرة في عكار ضد مواطنين عزّل انقضّت عليهم ثأرا لاخفاقها في بيروت.
3 ـ استفاد حزب الكتائب وميلشياته (القوات اللبنانية) من انقسام الجيش وضعف القرار السياسي، وتمدد وسيطر على منطقة لبنانية، لكن الحريرية لا تستطيع ذلك اليوم اولا لان الجيش اللبناني جيش وطني متماسك لا يخشى على وحدته، وثانيا لان القرار السياسي حازم وحاسم في منع أي إخلال بالامن وتشكل حالات الخروج عن الامن الرسمي للدولة، وما حصل في طرابلس أخيرا يشكل انموذجا بسيطا لما سيكون عليه امر اي محاولة إخلال بالأمن وزعزعة للاستقرار.
لكل هذا نرى ان سلوك درب النار لن يؤدي الى دار الحكم حتما بل انه الطريق الاقصر الى الدمار اولا والخسارة السياسية النهائية ثانيا. ومن اجل ذلك على الحريرية السياسية ان تتوقف عن المكابرة وان تقتنع بأن الماضي لن يعود فهي لن تستطيع بعد الآن ان:
ـ تحكم لبنان ست سنوات من غير موازنة وتبقي الدولة 20 سنة من غير قطع حساب.
ـ تهمّش مؤسسات الدولة وتحكم البلاد بالمؤسسات الرديفة التابعة للسلطان الحريري.
ـ تخرق القانون وتعطل الدستور وترهن لبنان للخارج.
ـ تخصخص مؤسسات الدولة والمنتج من القطاع العام وتحول اللبنانيين مستخدمين وزبائن في شركة الحريري التجارية.
ـ تستمر في خلق مراكز القوى الرسمية الخارقة للقانون المتعدية على حقوق المواطن.
ـ تنفق على هواها، تعطي من تشاء وتمنع عمن تشاء بغير حساب.
على الحريرية ان تقتنع انها ليست قدرا وان لبنان لم يعد يحتملها ومحاولاتها للعودة الى ما كان محكومة بالفشل فلا النار ممكنة لاعادتها الى مراكز السلطة لانها ان أضرمت فانها ستحرق من يشعلها قبل اي احد آخر، ولا الحكم بذهنية المشيخة ممكن لان زمن التهويل باسم الشهيد ودم الشهيد وما اليه، لم يعد ينفع بعد ان استهلك في السوق السياسي وأدى المطلوب واكثر. ومع هذه الابواب المغلقة الان امام نار الفتنة والحكم الاستئثاري المستحيل يبقى باب واحد مفتوح امام الجماعة الحريرية، وهو الايمان بان لبنان لكل ابنائه وبان اللبنانيين مواطنون متساوون في الحقوق ولن يقبلوا أن يتحولوا الى رعايا حريريين نعم عليهم ان يقتنعوا اذن بان الحريرية السياسية قد سقطت وانتهى عهدها وان الدخول الى الوطن والدولة لن يكون عبورا الى الحريرية، بل من باب القبول بالآخر والقبول بالمساواة مع الآخر، وهذا ما سيوفر على لبنان وعلى الحريريين انفسهم الكثير، اما العكس فإن نتيجته لن تكون الا خسارة إضافية يعقبها الندم الاكبر.
:::::
أستاذ في كليات الحقوق اللبنانية
عميد ركن متقاعد وباحث استراتيجي
شرت في “البناء” اللبنانية