كلمة في تأسيس وتأصيل الصَدّ والضِدْ
(في لقاء “طولكرم” تضامناً مع سوريا ضد العدوان الأميركي)
عادل سمارة
فلسطين المحتلة
لم يعد معنى للقول: هي مؤامرة. فهي عدوان متعدد الأوجه والأدوات. وما يزيد خطورته هو اختطاف الاحتجاجات الشعبية باختراقها بالمسلحين واستخدامها كذريعة للتدخل. عدوان تقوده الولايات المتحدة بوضوح وتتشارك فيه اوروبا بقضها وقضيضها، وكلا الطرفين يحرِّشان شهية العدو الأقدم، النظام التركي[1]، ليكون راس الحربة مشحوناً بعضويته المطيعة في الأطلسي وبإغلاق ابواب الاتحاد الأوروبي أمامه، وبسلفية وحداثية معاً وبحقد على القومية العربية واستنهاض للاستعمار العثماني القديم. ومن تحت إبط هؤلاء تتحرك أنظمة عربية تدفع المال وتسخِّر الإعلام وترسل المرتزقة وحتى منها من يجهز جيوشاً باتصال وتواصل مع الكيان الصهيوني. جميعاً يشتركون في مصلحة القضاء على سوريا: عرب التسوية الذين علقوا في وحلها استنتجوا أنه حتى اعتراف فلسطينيين بالكيان واعتراف النظامين الأردني والمصري لا ينهي الصراع، فبات عليهم تحطيم دمشق لينتهي الصراع. فهموا بالممارسة أن القضية قومية وأن مرتكزها سوريا، وفهم المحور الأميركي/اوروبي أن مشروع تفتيت الوطن العربي ما زال يصطدم بعدم سير دمشق فيه. لكن الوضع أعمق حتى من هذا.
إن الذين حسموا موقفهم منذ البداية، ولو بسذاجة، مع الموقف الأميركي والسعودي والصهيوني لن يغيروا لأنهم لن يتغيروا ولأن التغيير بحاجة لقدرة قراءة ومتابعة ونقد الذات، وفي حالتهم… هيهات. فمن لم يرَ كارثة وعاراً في تدمير العراق لا يرى كارثة في تدمير سوريا، وهو نفسه لم يرَ كارثة حتى في ضياع فلسطين. كلام مُرّْ ولكنها الحقيقة.
الأساس: الوطني والقومي والطبقي
لا ضير أن يُفهم من هذا أن الانتماء الى الوطن والانتماء العروبي والانتماء الطبقي هي رزمة قاعدة متكاملة، وهي شروط الانتماء والصمود الوطني والنضالي، هي تسبق المعتقد الفكري الإيديولوجي وتؤسس له. ومن يفتقر إلى هذه الرزمة/القاعدة سوف يعجز كفرد عن القدرة الوطنية وعن الانتماء للأمة وعن الانتماء أخيراً للطبقات الشعبية، ذات يوم، وذات منعطف وذات أزمة سوف يتوقف. فتوفر هذه القاعدة هو ضمان من عدم الانحراف أو التيه والضياع في مجاهيل العقائد المضادة للعروبة وللإنسانية. إن التأسيس على هذه القاعدة الثلاثية وحده الذي يضمن الموقف المتماسك، ووحده الذي يمكِّن حامله من نقد الذات في حال تورط في موقف متخاذل أو مضلَّل أو موتور ، ولكنه لا يُعدِّل شيئاً لمن سقط في المأجورية والوظيفية وأضرابها.
سباق اللحظة الخطيرة:
شهدت السنوات الأخيرة متغيرين اساسيين في الوطن العربي:
المتغير الأول:
صحيح أن الكيان أُعلن عام 1948، وأن عدة حروب تلته قد خسرتها أنظمة من التيار القومي العربي، بينما أنظمة الاعتدال كانت في الصف الآخر، صف أعداء الأمة، بالطبع. ولكن تطورات جديدة أخذت طريقها، تمثلت في انتصار المقاومة وتبلور معسكر المقاومة والممانعة، كما تعزز ذلك بالانتفاضات في الوطن العربي والتي رغم محاولات خصيها بالثورة المضادة إلا أن لا أحد يعرف مآلها الأخير بعد. إن معسكر المقاومة والممانعة، رغم عدم ارتفاعه إلى المستوى الطبقي بعد، رغم أن كثيراً منه هو من صلب الطبقات الشعبية، إلا أنه يشكل ظاهرة جديدة في النضال العروبي تجمع بين النضال الشعبي المقاوم وبين الممانعة البرجوازية والبرجوازية الصغيرة لطبقة قومية ذات توجه استقلالي. كما يجمع إلى جانب ذلك حالة إيمانية شعبية تبذل المطلوب لتجاوز الإيقاع والوقيعة بين الدين والقومية. هذه الظاهرة أعمق وارسخ وأقدر على القتال والاستمرار من الأنظمة القومية السابقة رغم خلوص نواياها. فالبنية أهم من النوايا، والوعي ابقى من النوايا.
المتغير الثاني:
بدأ هذا المتغير مع الحراك الشعبي العربي في تونس ومصر واليمن وسوريا وليبيا والأردن وعمان والبحرين. واتخذ اشكالاً عدة، سواء ثورة أو انتفاضة أو احتجاج…الخ. وتنوعت مكوناته بين قوى شبابية وحركة عمالية وأحزاب تقليدية ومعارضة وطنية. كما تنوع دور الثورة المضادة بين نخبة (أولاد هيلاري) من الفيس بوك، واندساس المخابرات الأميركية والموساد، واندساس عناصر تخريبية (حالة ليبيا وسوريا) واحتلال مباشر كما فعلت السعودية في البحرين، والقصف الأطلسي ضد ليبيا…الخ
والعبرة المأخوذ من هذا الحراك هي:
· إن الوطن العربي قطراً قطراً لن يبقى كما كان.
· يمر هذا الحراك بحالة من السيولة والرمادية مفتوحة على انتصار حالات ثورية
· ومفتوحة على تحويل حالات إلى نموذج اوروبا الشرقية، اي إعادتها بل غبقائها في حظيرة الاستعمار والتبعية باسم الديمقراطية، حالة الهيمنة الثالثة.
· بروز حالات من التفكيك الداخلي بأيدي داخلية (مفعول الهيمنة الثالثة) وهذا ينتظر الأكثرية,
· سيطرة الإسلام الأميركي بمقدمته الإقليمية الإسلام التركي، وطبعته العربية الإسلام الوهابي[2]، عبر تحالف راس المال الطفيلي والكمبرادوري وقيادة العسكر وأجنحة قوية من الإخوان المسلمين والسلفية (حالة مصر). وهذه ربما تُقرأ على أنها مهارة الإخوان للإمساك بالسلطة في مصر.
· تماسك النظام في سوريا إذا تمكن من الإصلاح ليقدم حالة مختلفة ولكن مرفوضة من الثورة المضادة بمعنى نظام قومي يغادر سياساته القديمة حرياتياً والتي رفضها الشعب، ويحاول تجاوز الخضوع للسوق واللبرالية الجديدة، يخلق جبهة وطنية حقيقية ويجري انتخابات على أرضية أحزاب وطنية وقومية وعلمانية وغير تطبيعية ويستمر في علمانيته. مرفوضة لأن التجديد القومي منطقة حرام سواء لدى الغرب الاستعماري أو لدى قوى التسوية ناهيك عن الكيان. وهذه قد تُقرأ على أنها مهارة البعث للبقاء في السلطة أو كشريك قوي فيها. وهذا هو الاختبار.
نحن إذن أمام سباق اللحظة الحاسمة. يرى العدو متعدد الأطراف أن القضاء على معسكر المقاومة والممانعة لا مندوحة عنه، يسعفه في هذا تطور جديد بات يبنيه منذ زمن: تطور الهيمنة الثالثة[3] لتي جرى تصنيعها في المركز ونشرها وتوسيعها بالاختراق اختراق الحكومات والمثقفين والعساكر وراس المال الطفيلي والجامعات والإعلام المرئي والمسموع والمكتوب واللقطاء والعوام والحثالات والفرديين الموتورين والمرتزقة …الخ.
فالدور الآن لجيوش الاختراق المحلية هذه التي ستقوم بتخريب اي بلد عربي عصيٍّ على الهزيمة والرضوخ، هي احتلال البلد بأيدي من أهل البلد، وما على المركز سوى أن يخطط ويموِّل وحين الضرورة يقصف من السماء. وبالطبع لا يعني هذا مطلقاً عدم الغزو بالجنود.
مَنْ احتجز التطور يمنع الإصلاح
يفيد علم الاقتصاد السياسي وخاصة مدرسة النظام العالمي (سمير أمين وآخرون) وتفيد علاقة الوطن العربي بالمركز الراسمالي وتؤكد بأن هذا المركز الذي قطع بالقوة تطور هذه الأمة منذ محمد علي وداوود باشا، وعبد الناصر وصدام حسين لن يسمح بالإصلاح في سوريا. فما يتم الآن بوضوح من إرسال قوائم طلبات من أوباما إلى سوريا وتصريحات هيلاري كلينتون التي تتهم سوريا بالحشود على حدود تركيا، والانقلاب المطلق في موقف تركيا من سوريا، وتحركات قَطَرْ في التواصل العلني مع تركيا وحلول تركيا محل مصر في مصالحة فتح وحماس بهدف تركيع حماس، وانتقال مركز الإخوان المسلمين من لندن إلى تركيا، كل هذه تؤكد أن المطلوب من النظام السوري أن يسقط لا أن يقوم بإصلاحات.
سُقت هذه النقاط وهي بعض المطروح وهي على أهميتها ليس من الضروري سوقها لكل ذي عقل نقي وطنياً وسياسياً لأنه يدرك أن الغرب الراسمالي موجود لقطع التطور والتنمية وبالتالي لا شأن له بالإصلاح.
يقول كثيرون إن النظام السوري لم يلتقط المطلوب باكراً، وأنه قمعي وديكتاتوري. وربما اكثر. ولكن ما المطلوب اليوم؟ من الذي بوسعه أن يقرر بأن هذا النظام لأنه أخفق في ما كان ضرورياً يجب أن لا يقوم بالإصلاح؟ وطالما النظام يطرح التعددية، وإن كان راينا أن تكون على اسس وطنية وقومية وطبقية وضد التطبيع الثلاثي[4]، ويطرح إلغاء المادة الثامنة وإلغاء كون البعث الحزب القائد. فلماذا يتم رفض هذا؟
ينم هذا الرفض عن أمرين:
· الأول : وضوح الهدف الغربي الراسمالي من الإصرار على تهديم سوريا
· والثاني: ارتعاب الثوة المضادة في الوطن العربي من استمرار النهج القومي الممانع، لأن هذا يقطع عليها طريق الخيانة في تصفية القضية الفلسطينية بل الأمة بأسرها.
الحكومة العالمية والاختراق
لا يتسع هذا المقام لشرح بأن هناك حكومة عالمية سياسيا/اقتصادياً. فمن يقرأ وثيقة بيلدبيرغ الأخيرة يتأكد من ذلك حتى لو افتقر للاستيعاب بقصد. ولا قيمة قطُّ لأن تُعلن هذه الحكومة أم لا. فالعبرة في الدور والتأثير.
هذا العالم هو عالم حكومة السيطرة والهيمنة الغربية الراسمالية بدءأ من الولايات المتحدة وكندا والاتحاد الأوروبي انتهاء بالنرويج. ومن السذاجة أو الخبث الخياني افتراض أن هذه الحكومة يمكن أن تسمح لأحد بالتنمية أو الخروج من تحت جناحها. فهي قد تنتقل من السيطرة والنهب المفضوح إلى الهيمنة وخاصة الهيمنة الثالثة، وفي مختلف هذه الحالات هي تقبض على اقتصاد العالم، ولن تُفكَّ قبضتها بغير قوة الوعي والخطاب والموقف وقوة الفعل.
إن هذه الحكومة، إن جاز لنا هذا التعبير المباشر، قد وصلت خلال 500 سنة من تظليل العالم بسواد الراسمالية، تمكنت من اختراق دول وأحزاب ونقابات وحتى أفراداً. وهذا يتطلب شغلاً موازيا مكافئاً وأكثر كي يُقتلع هذا الوباء العظيم.
كثيراً ما اتخذت النرويج والدنمارك والسسويد امثلة على خطورة الغرب، بما ان هذه الدول تبدو كما لو كانت معتدلة، وهي ما أسميتها الحكومات غير الحكومية. لعل أخطرها النرويج التي خلقت اتفاق أوسلو، وشاركت في قصف العراق وها هي تقصف ليبيا. وابعد من هذا، فجامعاتها تتلقى طلبة/ات فلسطينيين بعد تنسيب من الجامعة الأميركية في القاهرة وتفرض عليهم القيام بأبحاث ميدانية في سوريا وتفرض عليهم موضوع البحث وهو إخباري ميداني! ففي عصر الاختراق ألا يعني هذا اختراقاً!! ويكفي أن نذكر أن أحد رؤساء وزارة السويد كان قد تجند للمخابرات الأميركية وهو طالب في الثانوية هناك في اميركا. إذا كانت السويد مستهدفة فماذا عن سوريا؟
ضِدّ الخطاب وصدُّ الخطاب شروط المشروع الأصلاني
لم يعد كافٍ أن تكون مع المقاومة وحتى من صُلبها، وحتى الاستشهاد لا يكفي. ولم يعد كافٍ أن يكون النضال فرض عين لا فرض كفاية، ولا حتى الانتماء للوطن بدل السلطان، ولا نقد الأنظمة التابعة والقطع معها تماماً وإن كان تحليلها خطوة إلى الأمام. ولم يعد كافياً أن تدافع عن القومية العربية والإسلام في وجه حملات الثورة المضادة التي تتهم القومية بالشوفينية والإسلام بالدم.
إن قراءة تاريخ العرق الأبيض بثقافته الراسمالية العنصرية والمذابح التي أدارها قبل مئات السنين وبقيت في ذمة دِقَّة المؤرخين والمذابح التي يديرها اليوم على الفضائيات، هكذا بلا مواربة، هذه القراءة يجب أن تقود بوعي إلى موقف واضح وحاد وحدِّي من الغرب بثقافته وفكره وأطروحاته التي يكمن ورائها جميعاً من مهدها إلى لحدها دافعه الأوحد: النهب والاستغلال وصولاً إلى الربح اللامحدود . يجب أن تقود ألى موقف الضِد وموقف الصَّد. وبغير هذا تظل تلك النضالات النظيفة طرية العود وعرضة للاحتواء باسم الديمقراطية.
يقوم هذا الموقف على مرتكزات منها:
البدء من الموقع، من الحيز من الجغرافيا كفضاء والدخول عميقاً في الزمان اي التاريخ. البدء من فضائنا وزماننا من أجل تحرير فضائنا نفسه وزماننا الحالي والقادم. وما لم نبدأ هكذا ونفهم جدلية الجغرافيا والتاريخ فلن نخرج عن هيمنة تاريخه وفكره. إن الأمر إذن إعادة العلاقة الجدلية بين زماننا ومكاننا وهما قد فُكَّتا عن بعضهما لقرون كانتا نتاجها الضياع. كنا وما زلنا في المكان دون علاقة به واستطال وجودنا في الزمان بدون فعل اقلُّه الدفاع عن المكان والانتماء له.
تخلق الأمم اللغات وتعبر باللغة عن جوهرها وروحها وحياتها على شكل ثقافتها. ولن تفلح امة في التقدم إذا ما قامت بفك العلاقة الجدلية بين ثقافتها ولغتها وبين جغرافيتها وتاريخها وحاضرها، بل لن تصل إلى مستقبلها، بل تُحمل كجثة من الغير إلى ما يمكن ان يسمى تجاوزاً مستقبلها، ولا مستقبل للموتى. وللتوضيح، فإن استيراد ثقافة الآخر، وهو عدو بلا مواربة، قاد، بما هو سِفاحاً، كما نرى إلى تشوهات بنيوية محلية، فلا ابقت البنية المحلية التقليدية على ما كانت عليه، ولا اتنقلت هذه البنية إلى بنية المتبوع. علقت في المنتصف.
إن الغرب الراسمالي الذي ينهب المحيط، ليكدس الثروات ولينفق بعضها على اطفاء بؤر التوتر في مجتمعاته وقام بذلك ممارساً مختلف أخطر أنواع المذابح في التاريخ ليس مدنياً لا في ثقافته ولا ممارساته. إن المجتمعات المدنية هي المجتمعات السلمية ذات الثقافة والحضارة السلمية، فليس الغرب الرأسمالي منها.
إن الديمقراطية الغربية الراسمالية هي جوهرياً ديمقراطية القلة المتحكمة بالمال والإعلام، وهذه مضادة للديمقراطية الشعبية التي تصنعها الأكثرية الشعبية ولكن ضمن وعي واضح وليس ضمن فلتان عاطفي، بل التي تصقل الاندفاع العاطفي في مشروع جماعي واعٍ. وفي هذه الحالة لا بد أن تقتتلا هاتين الديمقراطيتين.
إن ثقافة الغرب الرأسمالي التي احتلت المسيحية فرسملتها، ليست مؤهلة لنقد الإسلام، كما أن وليدها المحلي سفاحاً اي الوهابية ليست هي الإسلام، وهنا، يغدو الدفاع عن الإسلام في وجه راس المال دفاع حق، والدفاع عن الإسلام في مواجهة الوهابية والسلفية، كمكون اساسي في ثقافتنا، ضرورة كي لا يحتل هؤلاء الإسلام ويدمروا ثقافتنا ويومنا ومستقبلنا.
وصَّد الخطاب وضِد الخطاب هو في جوهره مشروع آخر مضاد وفعال، هو مشروع ضد في الوقت نفسه. وهذا ليس ممكناً ما لم نقطع مع لمعايير والقوالب الفكرية والثقافية التي أولجها الغرب الأبيض الراسمالي فينا فاتخذت اشكالاً خطيرة منها التطبيع مع الغرب والصهيونية لاحقاً. إن عدم الوقوف بالضد والتضاد مع الغرب هو تطبيع خطير يغطي على تاريخ عدوانه المكشوف والمفتوح على هذه الأمة. وفي هذا المستوى يجب أن نبدأ برفض التطبيع الثقافي (ولا نتوقف عند صدّ التطبيع الثقافي)، مناهجه، أفكاره رؤيته لنا، صياغة ماضينا وحاضرنا طبقا لما يخططه عقله وتنقله عيناه وتنفذه أدواته. وضمن التطبيع ذلك القبول الساذج بترويج هذا العدو لديمقراطيته التي ينكشف اليوم وجهها بحصر حرية الناس في ميادين مصر في الحديث المجاني في الهواء دون حريتها في تحرير ثروة الوطن وتحرير جهد الطبقات الشعبية وهو ما يسمى احياناً الديمقراطية الاقتصادية الاجتماعية.
ولا معنى للتعددية الغربية التي تحمل معها آفاته وخبثه معاً. وهي التعددية التي ربما تعبر عنها الناس اليوم ب: غدت الخيانة وجهة نظر”. فالتعددية التي يطرحها العدو هي تبرير وجود قوى متخارجة متغربنة متعاملة تحت ستار التعددية. ومن هنا وجوب الإصرار على رفض القوى التطبيعية والتي تعترف بالكيان.
وضمن هذا الخبث يطرح فكر العدو مسائل خبيثة من طراز التسامح. التسامح مع تاريخ الاستعمار وفي حالة فلسطين التسامح مع الاستعمار الاستيطاني ومن ثم التعاطي معه بما يسمونه ” التفكير الجديد” وماذا عسانا ننتج تفكيراً جديداً في موقفنا من عدو طرد شعب واغتصب وطنه، هل نتلطى للعيش بين حضنيه في الكيبوتسات[5]!
هذا الخطاب الثقافي في الرد والضد والصد هو المبتدأ للخلاص من استدخال الهزيمة التي أخذت لدى الكثيرين حالة تجسيد على الأرض، وهذا يعني وجوب العمل السياسي الجماعي لمواجهتها، اي نقل الخطاب إلى الميدان، وهذا شأن المثقف النقدي المشتبك.
وفي سياق اجتثاث استدخال الهزيمة لا بد من أعادة قراءة لئيمة وحامضة لما يسمى : حقوق الإنسان، والجندر/النوع (قراءة تحرر المرأة من خلال صراع النوع لا الصراع الطبقي) واسترضاء الغرب والتمني عليه أن يعترف بنا، و”الموضوعية” فيما يخص الدفاع عن الوطن، فهل هذه ممكنة؟.
لقد أدت السيطرة العسكرية ومن ثم الاقتصادية والثقافية إلى قبول الكثيرين لاستثناء وإعفاء الغرب الراسمالي الأبيض من جرائمه القديمة والجارية والمستقبلية، واصبح تعاطي الناس مع هذا الإعفاء عادياً. هكذا كان تدمير العراق بيد الغرب “جزاء” على لا ديمقراطية النظام وهو ما رحب به كثيرون من المثقفين العرب ممن استدخلوا الهزيمة وشاركت فيه أنظمة عربية، وجرت محاكمة الرئيس صدام حسين، والرئيس الصربي بينما لم يجرؤ أحد على طلب محاكمة جميع الرؤساء الأميركيين القتلة من الفلبين قبل قرن إلى فيتنام إلى غرينادا العراق إلى أفغانستان والقائمة تمتد من غزوة كولمبس إلى زمن آتٍ. وأبعد من هذا، من الذي قتل مئات الملايين في العالم غير بريطانيا وفرنسا وهولندا وإسبانيا والبرتغال وبلجيكا وبالطبع واشنطن؟. إن الخطر من الجريمة هو تناسيها وتظليلها.
لا بد من مواجهة الأكاذيب الميدانية للغرب الراسمالي الأبيض من طراز: “العالم قرية واحدة” وأية قرية! من قال أن غزة المضروبة بكل أنواع القنابل المحرمة دوليا (اي الذي حرَّمها هو الغرب نفسه) هي ضمن قرية واحدة مع مدينة المِثليين في سان فرانسيسكو بالولايات المتحدة أو لاس فيجاس؟ أي افتراء على العقل البشري هذا؟
لقد نشأت مدرسة كبيرة ومتدة في النصف الثاني من القرن العشرين، مدرسة المابعديات، ومنها مدرسة ما بعد الاستعمار نقلت الواقع الفعلي، اي وجود وبقاء وتلونات الاستعمار، إلى حالة افتراضية بأن الاستعمار قد رحل. ولعل هذه من اكثر المسائل التي لا بد نسفها، بما هي مدخل تصالحي مع تاريخ الاستعمار والأخطر محاولة تبيان كأنه مضى.
إن التعاطي الدوني مع الحداثة، سواء من مدخل أن الحداثة هي أوروبية وحسب، او من مدخل الاستسلام لمبضع هذه الحداثة والتكيف معها واللحاق التابع بها وإقحامها على مجنمعاتنا، هي آليات اختراق واستدخال هزيمة تقف كحالة إعاقة لتطور بلداننا. ولعل أقبح أوجه الحداثة هذه خلق المستعمرة الاستيطانية الصهيونية في فلسطين.
ترتب على ترويج وتبني واستدخال وتمثُّل مختلف القضايا المثارة أعلاه إنجاز الهدف الرئيس الكامن ورائها بل التي وُظِّفت من أجله وهو التبعية والاستعمار الاقتصادي والاستغلال والتبادل اللامتكافىء وتبني سياسات اللبرالية الجديدة وبشكل اعم واشمل إيديولوجيا السوق.
ولعل أخطر تجليات السوق هذه تركيز الأنظمة العربية على التصحيح الهيكلي اي اقتلاع بدايات التحرر الاقتصادي المتمثلة في القطاع العام ووقف دعم السلع الأساسية للفقراء والطبقات الشعبية عامة، والانفتاح الاقتصادي تماشياً مع ما يسمى تحرير التجارة الدولية، وهي التي لا مآل لها سوى محاصرة وتقويض قطاعات الإنتاج .
لعلَّ أخطر تجليات هذا الانقياد المستقر على الهزيمة هو الوصول إلى لحظة الاغتراب. الاغتراب عن الحيِّز والاغتراب عن الزمن المتعلق بالحيز، والاغتراب عن الذات وعن اللغة وعن التاريخ. في هذه اللحظة تحديداً، يتصبح الهيمنة الثالثة عنوان المرحلة. لذا، لا غرو أن يجري التفاخر اليوم برفض الحزبية، ورفض الإيديولوجيا، هذا دون رؤية الحقائق الأخطر وهي أن جيش السلطة هو حزب مسلَّح وجيش الإمبريالية هو حزب متعدد الجنسيات مدجج بالسلاح وإن إيديولوجيا السوق تمسح كافة الإيديولوجيات الإنسانية النظيفة. ألم تحن بعد إذن لحظة النضال لمواجهة الاختراق والاغتراب.
[1] اتصلت بي قبل عامين موظفة في القنصلية التركية وسألتني بالإنجليزية: كما نسخة تطبعوا من مجلة كنعان؟ قلت لها نحن لا نعطي معلومات لأجانب. فحولتني لأخرى تحدثت بالعربية، ربما اعتقدت أنني لم أعرف ما قالت الأولى. سألت نفس السؤال فرددت لها نفس الإجابة. فقالت ولكن نحن مسلمون. قلت ولكن الحكام العرب مسلمون وعملاء! عندها توقفَت وأوقفِت المكالمة.
[2] لم تخرِّب أميركا الإسلام وحده، أليست المحافظية الجديدة تخرييباً للمسيحية؟ ألن يصل الأمر حتى بإعادة إنتاج صورة للسيد المسيح بعيون زرقاء وعنق أحمر؟ ألم يرتكب جورج بوش تدمير العراق باسم الصليب؟
[3] ليست هذه هي اللحظة الوحيدة التي يلجأ المركز الراسمالي الأبيض إلى شكل غير العدوان العسكري المباشر، ففي الفترة بين 1917 و بداية التسعينات اي فترة الوجود السوفييتي اضطر هذا المركز لتقليص عدوانه المسلح ، إلى أن اعادت ذلك الريجانية. لكن دوس العراق وافغانستان والصومال وصمود المقاومة في لبنان وغزة وتواكب ذلك مع الأزمة المالية اقلاتصادية دفعت هذا المركز إلى تطوير آليات الهيمنة الثالثة.
[4] أي ضد التطبيع مع الكيان وضد التطبيع مع الكمبرادور العربي وضد التطبيع مع أنظمة المركز الراسمالي الأبيض ونصف الأبيض.
[5] من أفظع نماذج “التفكير الجديد” قيام فلسطينيين من مناطق الاحتلال الأول 1948 بالعيش مع السمتوطنين في الكيبوتسات. وهي، اي الكيبوتسات، كما يؤكد د. مفيد قسوم مقامة قصداً على انقاض قرى فلسطينية ممسوحة لم تعد حتى أثراً بعد عين. لست ادري كيف كان يغفو هناك!!! والأكثر مفاجلأة أن كتب لي صديق، لنعتبر هذا خطأً ومن منا لا يُخطىء؟ هذا وكأن من يفعلها مجرد طالب ابتدائية لم يقلم أظافره!