في ذكرى غيابه،
غسان كنفاني: الحياة ليست نصراً، الحياة مهادنة مع الموت
بقلم الإعلامي: خالد الفقيه
ليس بالضرورة أن تكون الأشياء العميقة معقدة، وليس بالضرورة أن تكون الأشياء البسيطة ساذجة. هذه فلسفة خطها عاشق فلسطين بريشته وهو يمني نفسه بالعودة إلى وطنه الذي أقتلع منه، لم يفارقه حلم العودة فآمن بأن الخيمة خيمة اللجوء سينبلج منها طريق العودة الثوري في جدلية صاغها في حياة قصيرة انتهت باغتيال في وضح النهار شهدته العاصمة اللبنانية بيروت ليرتقي جسده النحيل إلى السماء محتضناً جسد لميس الغض الطري، نهاية كان يتوقعها وإن كانت مبكرة.
غسان كنفاني قال يوماً لن تستطيعوا أن تجدوا الشمس في غرفة مغلقة، والغزلان تحب أن تموت عند أهلها، أما الصقور فلا يهمها أين تموت فحلق صقراً فلسطينياً في سماء ليست ببعيدة عن سماء عكا حيث ولد وتنسم نسيم بحرها الهادر وتعلم من صلابة سورها صلابة الرجال. جسد غسان كنفاني باستشهاده ما قاله في حياته ” أفضل أن أموت وسلاحي بيدي على أن أموت وسلاحي بيد عدوي فغادر ومعه قلمه وأوراقه وآلام السكري الذي كان ينخر جسده، رافضاً الحديث عن حرية مسلوبة أو مجزوئة متمسكا بالحرية التي لا مقابل لها إلا الحرية ذاتها لأن الفكرة النبيلة عنده لا تحتاج غالباً إلى الفهم، بل تحتاج إلى الإحساس.
آمن غسان في حياته كما في مماته بأن قضية الموت ليست على الإطلاق قضية الميت بل قضية الباقين، وقال إن الخيانة في حد ذاتها ميتة حقيرة. أعطى غسان للحبر زخم الدم في حياته وشحذ الحبر ليبقى دون أن يجف ولكأنه إنساب على الورق قبل لحظات حتى بعد رحيله.
نعم رفع غسان من قيمة الحبر إلى مرتبة الدم ومنحه مرتبة الشرف محرجاً بذلك الأقلام التي تباع وتشترى من بعده، مدركاً بأن هؤلاء سيقفون خائفين مرتجفين مع كل إنحرافة عن الخط الملتزم وهم يحطون من قدر الحبر الذي بات دماً في مدح هذا أو ذاك أو عندما تسول لهم أنفسه التكسب بمداد أقلامهم.
قال غسان يوماً وكأنه يستقرء الآتي بعد حين إذا كنا مدافعين فاشلين عن القضية..فالأجدر بنا أن نغير المدافعين..لا أن نغير القضية.
واليوم وبعد هذا الغياب لا يمكن لنا وقد تتلمذنا على يدي أم سعد وعايشنا أبو الخيزران في صحراء التيه وأكتوينا بنار إبليس العرب “النفط” وعدنا إلى حيفا لنتذوق البرتقال الحزين في جارتها يافا، وعرفنا أبجديات الأدب الصهيوني لا يسعفنا إلا ما قاله غسان يوماً ما: الدموع لا تسترد المفقودين ولا الضائعين،ولا تجترح المعجزات….. كل دموع الأرض لا تستطيع أن تحمل زورقا صغيرا يتسع لأبوين يبحثان عن طفلهما المفقود.
رحل عميد الأدب الفلسطيني مبكراً بعد أن وضع القضية الفلسطينية وقضية اللجوء على مسارها الصحيح فكان أسطورة أدبية بحق فلقد كان صحفياً فلسطينياُ طليعياً أحبه من عاصروه ومن أتوا بعده، زاوج بين القلم والبندقية خشي من إنحراف البوصلة وحذر من ولوج التطبيع إلى حياة شعبه فقال من الممكن أن نخسر الجبهة العسكرية ولكن من العار أن نخسر الجبهة الثقافية.
ما تقدم يحيلنا للتساؤول عما لو كان غسان اليوم بيننا ورأى كيف ينخر التطبيع شعبه وأمته؟ هل كان سيموت كمداً؟ أم كان سيمتشق قلمه ليفضح المتهاوين في دهاليز التطبيع؟ كان غسان يعلم بأن القميص المسروق سيظل يسرق يوماً بعد آخر، فصاغ مشروعاً ثقافياً متكاملاً يبقي جذوة القضية مشتعلة ودافعه الخوف من تسلل اليأس إلى بعض المثقفين.
أوجعنا غسان برحيله في لحظة كنا فيها بحاجة إليه عندما تطاير جسده شظايا بقنبلة وضعت في سيارته فأمسى الثامن من تموز عام 1972 تاريخاً للدم الفلسطيني المنساب على حدود الوطن ليرسم بلونه القاني طريق العودة إلى فلسطين، رحل مبكراً تاركاً ورائه إرثاً كبيراً وفي هذا المقام يحسب للشهيد أنه كان أول من اكتشف المبدع الكبير ناجي العلي حيث كانت الرسمة الأولى التي وضعت ناجي العلي على سلم الإعلام المكتوب كأحد فناني الكاريكاتير هي تلك التي التقطها الأديب غسان كنفاني وأعاد نشرها عام 1961 في مجلة الحرية التابعة لحركة القوميين العرب والتي كان يرأس تحريرها. وهو ما أكده ناجي في أكثر من حديث صحفي له في وقت لاحق. “وظللت أرسم على جدران المخيم ما بقي عالقاً بذاكرتي عن الوطن، وما كنت أراه محبوساً في العيون، ثم انتقلت رسوماتي إلى جدران سجون ثكنات الجيش اللبناني،…، إلى أن جاء غسان كنفاني ذات يوم إلى المخيم شاهد رسوماً لي، فأخذها ونشرها في مجلة “الحرية”، وجاء أصدقائي بعد ذلك حاملين نسخاً من “الحرية” وفيها رسوماتي…. شجعني هذا كثيراً…. حين كنت صبياً في عين الحلوة، انتظمت في فصل دراسي وكان مدرسي أبو ماهر اليماني…. وعلّمنا أبو ماهر أن نرفع علم فلسطين وأن نحييه. وحدثنا عن أصدقائنا وأعدائنا….. وقال لي حين لاحظ شغفي بالرسم “ارسم… لكن دائماً لفلسطين”.
وتقول الوثائق التاريخية بأن الأديب الشهيد غسان كنفاني زار مخيم عين الحلوة عام 1961 ولفت انتباهه مجموعة رسومات على الجدران فسأل عنها ولمن تعود، فأخبره الحضور بأنها من إبداع الشاب ناجي العلي، فطلب لقاءه. اتفق العلي وكنفاني بعد اللقاء على أن يقوم الأخير بنشر رسمة أعجبته في مجلة الحرية لسان حركة القوميين العرب حينئذ. وتحت عنوان ينتظر أن نأتي، قدم غسان كنفاني للمرة الأولى ناجي العلي لجمهور قراء مجلة الحرية، “لكل من الناس طريقته الخاصة في قول الأمور.. قد يرى أحدهم أن الكتابة هي الأفضل، قد يرى الآخر أن الموسيقى تفعل ذلك بجودة أكثر، وقد يرى ثالث بأن الثرثرة كافية وأكثر من كافية.. وآخرون يرون أن الصمت من ذهب إذا كان الكلام من فضة!… وصديقنا الفنان الشاب “ناجي..” لا يجد خيراً من الكاريكاتير عبّر عما يرتجف في نفسه.. وقد لا يعلم – ناجي نفسه– أن الحدة تتسم بها خطوطه، وأن قساوة اللون، وأن الانصباب في موضوع معين يدلل على كل ما يجيش في صدره، وهو يحمل إلينا قصة فلسطين، لا ما حدث منها، ولكن ما يجب أن يحدث لكي يعود الذين شردوا من ديارهم إلى خير الأرض الوطن. و”كانت أولى لوحاته المنشورة عبارة عن خيمة تعلو قمتها يد مصممة على التحرير وفي مجلة “الحرية” العدد (88) يوم الإثنين الموافق 25 أيلول من عام 1961 وتحت عنوان ينتظر أن نأتي.