سوريا: لم تنتفض الطبقات
فانتفض السلاح والنفط والسفراء ويسار لاقومي
عادل سمارة
“المعركة على سوريا”، و “المعركة على ليبيا”، هكذا تسمي الولايات المتحدة والغرب الراسمالي حربهما على أي بلد. لم يُكتب “المعركة في سوريا او ليبيا او اليمن”، وبهذا تضع هذه القوى نفسها كما لو كانت “تحرر” جزءاً من أرضٍ لها! وبالمفهوم الإمبريالي …هي تراها هكذا[1]. هذا ما يتغافل عنه كثير من الكتاب الذين همَّهم الوحيد إسقاط النظام في سوريا دون حساب لصالح من، ودون أخذ العبرة من العراق. بل إن بعضهم لا يرى في عرقنة سوريا أية غضاضة!
إذا ما وضعنا بالاعتبار ميل الإمبريالية مؤخراً إلى سياسة الهيمنة الثالثة مجسدة في تأجيل العدوان المسلح بعد تجربتي العراق وأفغانستان[2] وذلك ليس لمقتل الكثير من جنودها، بل لمقتل الكثير من دولاراتها، أخذت تلجا اكثر للمخترَقين من كل بلد وبلد لإشعال حرب داخلية نتائجها لصالح الغرب، ولذا لا تندرج ضمن الصراع الطبقي أو الحرب الأهلية. وهي حرب قليلة الكلفة مالياً، فهي إرسال اموال واسلحة ومدربين وخبراء بالتعاون مع الأنظمة العربية الحليفة للغرب ومع الصهيونية. ونتيجة الهيمنة الثالثة هي نفس نتيجة العدوان العسكري المباشر ولكن بكلفة اقل. على أن هذا لا يعدم احتمال التدخل العسكري المباشر، أو بالإنابة وخاصة في حالة سوريا اي تدخل إسرائيلي تركي عربي…الخ (وهذا حديث آخر).
من علم الاجتماع الغربي إلى وهم المتمركسين
تعج بلدان العدو الغربي الرأسمالي بما يسمى ( Think Tanks خزانات أو خلايا فكرية)، التي تعتمد آليتين اساسيتين:
- معرفة معمقة بعلوم الاجتماع والاقتصاد وعلم الإنسان والنفس وغيرها
- دراسة الواقع الميداني في كل بلد وخاصة البلد محط الاستهداف[3].
أفادت دراسات هذه الخزانات الفكرية أن الاقتصاد السوري، وهو ليس اقتصادا غنياً، ولكنه ليس مَديناً، وهو يعتمد داخلياً على قطاع زراعي يوفر الأمن الغذائي، وقطاع صناعي ليس عالي التطور ولكن نسبة كبيرة منه تنتج للاكتفاء الذاتي. وهذا يجعل من الصعوبة بمكان تحريك الطبقات الشعبية ضد النظام على اسس اقتصادية مباشرة.
يجادل بعض المثقفين ذوي التوجهات الماركسية المـتأثرة باليسار الغربي وخاصة في مسألتين:
- العداء المطلق للمسألة العروبية عداء خلفيته صهيونية
- والاعتقاد بأن ثورة البروليتاريا /الطبقة العاملة دائماً على الأبواب[4] (طبعا يغلفون ذلك باستخدام مصطلح الطبقات الشعبية). وهذا الإجهاد للطبقات الشعبية يقود في النهاية إلى تخريب دورها الثوري عن قصد وعمد لأن التطرف اليساري القصوي هو جوهريا ضد الثورة.
وعليه، رغم أن الطبقات الشعبية في سوريا ليست في جنة عدن، إلا أنها ليست لا في وضع المجاعة ولا في وضع الانحياز ضد النظام طبقياً وقومياً وذلك من مدخل الشعور الواضح بأن الاستهداف هو للوطن وليس للنظام.
يبدو أن خبراء علم الاجتماع الغربيين هم أقدر على التحليل من فرق المبالغة التروتسكاوية، لذا، مال تركيزهم على ما اعتبروه ثغرة الطبقة الوسطى، وهي مسألة أو ظاهرة عامة بمعنى ان هذه الطبقة هي الأكثر انجذاباً إلى الديمقراطية وبالتالي لا بد من محاولة تحريكها ضد النظام على أرضية الديمقراطية وليس الاقتصاد. لكن هذه الطبقة لم تتضرر من توجه النظام الاقتصادي في سوريا نحو السوق، هذا إذا لم تستفد من ذلك. وهو ما اكتشفته الخزانات الفكرية الغربية لتصل إلى قناعة أن التحرك الشعبي ضد النظام ما زال مجزوءاً. وهو ما نعتقده بدورنا إذا ما قرأنا التظاهرات المليونية لصالح النظام، بل الأدق لصالح سوريا.
لكن هذا لا يقلل من وجود خطط لتفكيك النظام بإرهاقه بالتظاهرات الصغيرة المتعددة وبالاشتباكات االتي تقوم بها العناصر المسلحة التي تدفقت من مختلف الحدود ومن داخل البلد والتي يطمح المخططون لها لتوسيعها كي تتحول إلى ثورة شعبية شاملة. ولكنهم يُهملون بالمقابل أن استمرار هذه المحاولات في توازٍ مع الإصلاحات التي يقوم بها النظام يمكن أن تعطي نتائج عكسية جوهرها توصل الطبقات الشعبية إلى قناعات بأن وراء هذه التحركات حقاً قوى أجنبية، ليس اقلها تدخل السفيرين الأميركي والفرنسي في حماة ناهيك عن نشاط الصهاينة الفرنسيين والعرب في باريس وغير مكان لتشويه وجه سوريا. كما نتج عن التخريب ومحاولات إرهاق النظام إحراج المعارضة الوطنية التقدمية التي وجدت نفسها مضطرة لتخفيف ضغطها على النظام كي تنأى بنفسها عن المخطط المعادي للوطن.
في الجانب الآخر، قاد توجه النظام لاقتصاد السوق إلى تعزيز جناح الفساد والنومنكلاتورا في سوريا ضد الجناح الإصلاحي الذي مثله الرئيس بشار الأسد، وهو الأمر الذي أعاق توجهات جناح الرئيس الإصلاحي منذ العام 2000. وهي الفترة التي شهدت تراجعا ولو ضئيلا في القبضة الأمنية في سوريا، وهو ما عزز أمرين:
- الوطنية السورية لدى المواطن
- وثقة ما بالرئيس نفسه
ولا يخفى أن النومنكلاتورا في سوريا ليست قلقة على سقوط النظام، لأنها بطبيعتها سوف تتحول إلى جزء من النظام التابع بل ربما تعمل اقسام منها معه الآن، والنظام التابع إذا ما حصل لن يقف ضد هذه الفئة اقتصاديا أو طبقياً او عقيدياً، بل ستكون مسألة حسابات فردية. وكل هذه أجزاء من ضعف الخاصرة السورية. وتجدر الإشارة هنا أن المهووسين بإسقاط النظام على أرضية ثأرية ممرورة وموتورة من المشروع القومي والممانعة يرفضون رؤية اية تباينات او اجتهادات داخل النظام.
لكن الأحداث في سوريا لم تنطبق ايضاً على تحليل خزانات الفكر. لم تتحرك الطبقة الوسطى، كما لم تتحرك مراكز أكثرية المجتمع، دمشق وحلب، وانحصرت التحركات في الأطراف. وليس هذا مجال تكرار الحديث عن دور الدول المحيطة. وتجلت المعارضة الوطنية والتقدمية في دمشق بشكل خاص مما يعني أن هناك اتجاهين للمعارضة، او مدرستين. ولكن بالمقابل نقلت الثورة المضادة نشاطها من العمل المسلح على الحدود بعد هزيمتها لتركز على حماة كبؤرة فيها وجود تقليدي للإخوان المسلمين وهو ما اتضح في الذهاب الوقح للسفيرين الأميركي والفرنسي إلى هناك[5] وكأنهما يقولات لحلفائهما: محظور عليكم التوقف عن الصراع مع الدولة!. فطالما المعركة مفتوحة لا يكترث إعداء سوريا بحرق عملائهم. ألا يذكرنا هذا بمن وضعتهم الولايات المتحدة في مقدمة دباباتها وهي تغزو العراق؟ لا قيمة للعميل حتى وهو يبيض ذهباً فكيف وهو يقبض ولا يُنتج!
وحيث عجزت الولايات المتحدة وأوروبا عن تحريك الشارع طبقياً، ولأن الوضع الاقتصادي الداخلي لم يكن من السوء بحيث تتحرك الطبقات الشعبية ضد النظام، ولأن البرجوازية الوطنية ليست مأزومة، كما أن اقتصاد السوق قد خدم النومنكلاتورا، كان لا بد من استخدام الاقتصاد الخارجي إن صح التعبير. ولكن، علينا الوضع في الاعتبار العالي أن محاولات تفكيك النظام بل الدولة اقتصادياً سوف تستمر.
ما أضيَعَ صغار الدول!
ما اقل الدول غير المنخرطة ولا حتى التابعة للنظام الراسمالي العالمي. وهذا يعني أن اقتصاد اي بلد لا يتحدد فقط بمكوناته الداخلية، بل كلما ارتفعت درجة التبعية كلما صار القرار الاقتصادي لبلدان المحيط تحديداً في يد المركز الراسمالي. قد يبدو هذا الحديث غريباً ونحن نتحدث عن دول مستقلة! بل إن هذا الحديث متواضع. فالمركز الراسمالي يتحكم بمصائر الأمم وإلى درجة ما بوسعه تغيير مسار ثوراتها، وهو لا بد يحاول. إن بوسع النظام الراسمالي العالمي وهو غربي بامتياز، أن يجعل أمما بلا مستقبل.
نبقى في حالة سوريا، فطالما لم تنفع آلية التحريك الاقتصادي الداخلي لجأت الولايات المتحدة لاستخدام سلاح العقوبات الاقتصادية وصولاً إلى الانهيار الاقتصادي للبلاد.
يشكل النفط شريانا أساسيا للاقتصاد السوري، سواء بالاكتفاء أو التصدير. ولأن كل دولة تقوم بالتصدير لا بد أن تضع أرصدة معينة أو موجودات في البنوك الغربية كضمانات لتسهيل والثقة بصفقاتها، فقد حاولت الولايات المتحدة تمرير طلب في مجلس الأمن يقضي بفرض عقوبات اقتصادية على سوريا وذلك كي يبرر لها تجميد هذه الموجودات مما يشكل ضربة قاصمة للاقتصاد السوري، يمكن بعدها تحريك شرائح طبقية داخلية ضد النظام، أي الطبقة الوسطى والطبقات الشعبية المشار إليها أعلاه.
كان لا بد لتمرير هذه لعقوبات، لا بد من تلويث سمعة سوريا فيما يخص ما يسمى حقوق الإنسان والديمقراطية…الخ. وقد بدأ التلويث عبر الـضخ الإعلامي على الرأي العام الغربي وكانت فرنسا قاعدة الهجوم المكثف والذي يقوده آلان جوبيه وزير الخارجية وبرنار هنري ليفي الصهيوني المتطرف وبرنار كوشنير وزير خارجية فرنسا السابق والأخيرين من خلفيات يسارية.
كان بوسع الغرب الراسمالي تحييد الصين لاستصدار قرار من مجلس الأمن بالعقوبات على سوريا لأن الصين معنية بالتسهيلات إلى النفط السعودي، ولكن لم يكن الأمر سهلاً فيما يخص روسيا.
لا بد من فقرة معترضة هنا مفادها، أن العلاقات الدولية مسألة صلفة لا مكان فيها لأية درجة من الأخلاق والإنسانية. فمواقف الدول تحدد حسب مصالحها ومصالح الدول تُحمى بقوتها، ولذا، تضيع الدول الصغيرة بين الأرجل. فيمكن تقرير مصير أمة وتدميرها نتيجة توازن العلاقات والمصالح بين القوى الكبرى. وهذا يفتح على مسألة هامة هي أن اية طبقة او حزب لا يؤمن بالوحدة العربية إنما يخون مستقبل الأمة. فلا موقع للأمم الصغيرة في عالم اليوم هذا ما تُعلمنا إياه اللحظة الحالية، فما بالك وأنظمة عربية تعمل في خدمة الإمبريالية ضد بلدن عربية!!. وإذا كانت هناك أمما بلا تاريخ، فإن الأمم الصغيرة بلا مستقبل.
إن الصين اقوى من روسيا اقتصاديا ولكن روسيا ما تزال بطموحات الدول العظمى كما أن النفط يشكل مصدر قوة لها وليس كعب أخيل كحال الصين. إضافة إلى الدور التقليدي لروسيا في الوطن العربي.
على ارضية بقايا أو ترميم دور الدولة العظمى تحتفظ روسيا بقاعدة بحرية في المتوسط، وبدور اكبر في البحر الأسود، الذي لا تكتفي بانحصار اسطولها فيه إذا ما فقدت وجودها في المتوسط. ولكي تقلل الولايات المتحدة من طموح روسيا كدولة عظمى، قررت إرسال المدمرة (يو أس اس مونيتري) التي تحمل صواريخ كروز إلى البحر الأسود ليؤكد عبث طموحات الأسطول الروسي كما يرى بعض المحللين.
وبغض النظر عن مختلف التحليلات، فقد تمكنت روسيا من الصمود وبالتالي منع استصدار قرار بالعقوبات على سوريا. لكن المعركة المفتوحة ضد سوريا لن تتوقف، ولذا تشتغل الولايات المتحدة على إحياء قرارها المضاد لسوريا (قانون محاسبة سوريا 2003) وهو القرار الذي اتخذته بعد أن فشل ضغطها على النظام السوري بعد احتلال العراق. كان هذا الضغط معركة مخفية، راهنت فيها الولايات المتحدة على ركوع سوريا بعد سهولة احتلال العراق، بينما راهنت سوريا على دور المقاومة العراقية في إهلاك الوحش الأميركي. وبمرو الوقت ثبتت مراهنة سوريا. كما تمكنت سوريا بخروجها من لبنان[6]، تمكنت من سحب البسساط من تحت الخطة الأميركية التي هدفت استخدام الوجود السوري في لبنان لفرض عقوبات عليها. ولكن الولايات المتحدة كسبت تقوية 14 آذار كقوة عميلة لها.
ولكي لا نقع في وهم المجتمع الدولي أو الديمقراطية الغربية، فإن بوسع الولايات المتحدة تطبيق قرار تجميد موجودات سوريا منفردة حتى بمعزل عن موافقة الأمم المتحدة والكونجرس. وبوسعها شن حرب مباشرة وحربا بالإنابة على سوريا دون إذن من أحد. أما أوروبا فيمكن، كالعادة، أن تلحق بالموقف الأميركي. إن ما يحول دون هذه الحرب هي تماسك سوريا المجتمعي والأمني وعدم جرأة دول في الجوار على دخول حرب ضد سوريا تبدو معها أمام شعوبها كأدوات عميلة للغرب أو طامعة في دور إقليمي بالقوة. ولكن، إذا كانت حرب السلاح محصورة الآن في مستوى العملاء والمخربين، فلا شك أن حرب الاقتصاد لن تتوقف. وهنا لا بد من تسجيل نقطة لصالح روسيا التي بموقفها الحازم حالت دون تخريب تصدير النفط السوري، والذي إذا ما أُعيق تصديره سوف تقدم السعودية للسوق الدولي بديلاً عنه! فالسعودية بدورها كمنتِج مرجِّح في الإمداد النفطي تلعب دوماً دور “مخزن النفط المضاد للأمم “!، وبالطبع هي في الثورة المضادة في وجه التاريخ.
يبدو أن النظام في سوريا ما زال يعمل على امتصاص الضربات رغم مزاعم الثورة المضادة بيمينها ويسارها، بأن النظام يقوم بالمجازر. وقد يلقي ضوءاً أكثر على الآتي القريب أمران:
- جاهزبة النظام لإصلاحات جذرية لا شكلية وهذا أمر لا مناص له منه
- حدود نجاح الحوار مع المعارضة الوطنية والتقدمية قوى ورموزاً.
(رام الله المحتلة 8 تموز 2011)
[1] أدخلت أنظمة النفط في روع المواطنين هناك أن النفط ما كان قط ليُكتشف ذات يوم ولا ذات تاريخ لولا الغرب، ولذا من الطبيعي أن يتحكم بالنفط. وقد لا تكون هناك اية مبررات لهذا الخُمود الاجتماعي والخمول السياسي أفضل من هذا المبرر. فهو يضع المواطن بين خيار النفط للغرب أو العودة إلى ركوب البعير!
[2] كانت مقدمة الانهيار الاقتصادي للولايات المتحدة كلفة العدوان على فيتنام، آنذاك تأسس تقويض هذه الإمبراطورية.
[3] وهذه الدراسة المسماة (إمبريقية- ميدانية) تتطلب العديد من الباحثين الذين يجب أن يقوموا بإجراء ابحاث ميدانية في البلد المعني قد تبدو أكاديمية أو بعيدة عن السياسة ولإنجاز هذه المسوحات يتم توفير بعثات ومنح مشروطة الموضوع والمكان، وهو ما تم كثيراً ضد سوريا.
[4] يتندَّر الإنجليز على تروتسكيي بريطانيا مرددين عبارتهم: “الثورة تندلع من ابواب المصانع”. وبالطبع لم تندلع!!
[5] تُرى ، هل في حسبان نظامي الولايات المتحدة وفرنسا توقعات بمقتل أحدهما أو كليهما في مدينة بها كل هذا التوتر؟ ماذا إذن وراء هذا السلوك الانتحاري؟ غير البحث عن اي مبرر لعدوان؟ وهل إلقاء ثقل هؤلاء الأعداء بوضوح يدل على قلق من خسران المعركة فلم بعد هناك من حرج في فضح عملائهم بدعمهم العلني للعملاء؟
[6] هل كان إخراج سوريا من لبنان تمهيداً لتسهيل انتصار الكيان الصهيوني على المقاومة وذبحها؟ لِمَ لا؟ وهل للحرب الشاملة على سوريا اليوم هي تمهيد لعدوان آخر على المقاومة؟ لِم لا ايضاً، بل اليوم الأمر اسهل حيث تقوم انظمة عربية بالمشاركة في العدوان على سوريا وليبيا علانية!!