أجب بنعم أو لا..
هل أنت مع الثورات العربية؟
احمد برقاوي
حين ينتمي المثقف إلى هموم الناس والمعرفة والوجود دون أن يتسلم تكليفاً من الناس والمعرفة والوجود فإنه يصنع هويته بوصفه مثقفاً، لأن المثقف ليس إلا ما سبق من قول. إنه حرٌ بالمعنى الوجودي للكلمة، حرٌ في حقل القول الحر المبرأ من المنفعة الذاتية. وقد قال ماركس يوماً: من حق الكاتب أن يأخذ لقاء ما يكتب، لكن ليس من حقه أن يكتب من أجل أن يأخذ.
وأنا إذ أتحدث عن المثقف الكاتب فلأني أعطي الأهمية الكبرى للقول – الموقف، وليس للقول- الاحتراف.
حين تغدو المعرفة احترافاً بلا موقف من مشكلات العالم المعيش، دون انخراط في حركة التاريخ التي يصنعها البشر بدمائهم، فهذا يدل على الفقر الروحي للمثقف التقني، أو الذاتي، الذي يحتمي خلف نزعة أكاديمية مصطنعة، ومن أخطر النتائج المترتبة على الاحتراف الأكاديمي، انسحاب المتردين برداء من التجريد من القول في لحظات التاريخ الحاسمة.
تطرح الثورات العربية اليوم على المثقف سؤالاً واحداً: أجب بنعم أو لا. هل أنت مع الثورات العربية أم ضدها؟ ليس للحياد مكان في الجواب ولا مكان لجواب: «لا اعرف».
لاشك أن الثورات العربية ـ اليوم أستاذ قاس ويحمل عصا غليظة ليضرب بها من يجيب على السؤال بـ «لا» وسيصعر كمثقف الحياد و«لا اعرف» خده شرراً .
المثقف الحقيقي والعضوي والديموقراطي هو الذي يجيب «بنعم» أنا مع الثورات العربية، لأنها كحركة شعبية تكنس التاريخ من «الأوساخ» التي تراكمت عليه منذ مئات السنين.
صحيح أن أسئلة التاريخ التي هي من هذا القبيل قليلة جداً لكنه تقبل كل نعم وكل صنف من أصناف النعم غير الملوثة بـ«لا».
السياسة تقبل جواب «نعم» عن أسئلتها أما في لحظات المصير التاريخي فالتاريخ لا يطيق أبداً جواب «نعم».
ولعمري أن المثقف الرسولي الذي ظن أنه قد انتهى من عالمنا.. الكواكبي، والزهراوي، وقسطنطين زريق، وجورج حبش، ومحمود أمين العالم والذي انحاز إلى الجديد ودعا إلى بناء مستقبل متجاوز، هذا المثقف الرسولي حاضرٌ الآن بهذه الصورة أو تلك، في عالم الثورات العربية ولكن بصورة مختلفة قليلاً . فالثورات التي بدأت شبابية وصارت متنوعة الأعمار لم تكن ثمرة نظرية ثورية، تحقيق لنظرية ثورية مسبقاً، إنها ثورات ذات أهداف لا تحتاج إلى إطار نظري صلب. بل هي ثورات التجربة التاريخية لشعوب الأرض، ثورات الأهداف الكبرى للإنسانية ، حرية كرامة ديمقراطية مساواة والتي يحققها النظام السياسي والحياة السياسية الديمقراطيين . المثقف الرسولي هنا هو التلميذ النجيب عند التاريخ حاد السمع لنداء التاريخ، حاضر البديهة لإجابة التاريخ قلب مفعم بالحب للحياة، ويقطر حزناً على أولئك الذين يقضون إنه – أي المثقف الرسولي – يعتقد أن التاريخ يحقق حلمه الأكبر وأنه استجاب لما يريد .
إن «اللا» التي كان يردها عبر خطاباته النظرية أو التحريضية فلسفة وشعراً وفكراً هي التي تحولت إلى نعم للثورات فالنعم التي ولدت من رحم «اللا» ظلت محتفظة بملامح «اللا» فـ«نعم» بوصفها انحيازاً كاملاً للثورة ومشاركة فيها هي كل أشكال النفي، كل أشكال «اللا» للواقع والحياة والقيم التي فرضتها «أنظمة الزمت العربية» كما كان يحلو لمهدي عامل أن يصف الأنظمة العربية .
لا يستطيع مثقف عضوي «لائي» الماهية أن يكون انتقائياً في علاقته بالتاريخ ، وبالتاريخ العربي الراهن الذي تصنعه جملة «الشعب يريد» المعبرة عن عبقرية الشعب وقوته ويبقى «لائياً».
لا يمكن لمثقف أن يكون مع نظام مشيخي نفطي اتوقراطي لاهوتي من جهة، ومع الثورات العربية من جهة أخرى، لا يمكن أن يكون مع تكنيس الوسخ التاريخي في منطقة والدفاع عن وسخ تاريخي في منطقة أخرى.
لا يمكن لمثقف «لائي» أن يكون من الحرية والديمقراطية والكرامة في وطنه، وهو بنفس الوقت مع الهيمنة الأميركية عدوة الشعوب في هذه المنطقة وكل منطقة.
المثقف اللائي العربي هو ضد إسرائيل بالمطلق، ضد وجودها بالمطلق.
المثقف بوصفه تلميذاً نجيباً عند التاريخ الصاعد، السائر، المتغير، المتحول نحو الأعلى، التاريخ الثوري، التاريخ بوصفه إمكانية تجدد وتجاوز المثقف هذا لا يقع في مطب الخيارات الزائفة التي يحاول البقالون الثقافيون أن يضعوه فيها من مثل تلك التي طرحت وتطرح الآن. هل أنت مع النظام الديكتاتوري الصدامي أم مع الاحتلال الأمريكي؟ الجواب لا مع هذا ولا مع ذلك وضد هذا وذاك. نحن مع عراق ديمقراطي مدني علماني سيادي. أو هل أنت مع النظام العربي الحالي أم مع نظام أصولي قادم؟ لا مع هذا ولا مع ذاك. ضد السلطة المستبدة والأصولية مع نظام ديمقراطي علماني مدني يحفظ سيادة الوطن والحق والمساواة والحرية.
من ذا الذي قال إن لا حل للعراق إلا بأحد الخيارين: إما صدام حسين أو احمد الجلبي.
الموقف من الثورات العربية ليس موقفاً إيديولوجياً وأن كان فيه من الايدولوجيا الشيء الكثير. إنه موقف أخلاقي بامتياز، أيضاً لأنه انحياز لأخلاق التحرر والإنسان والذات لأنه منحاز لازدهار الحياة بعد أن «شرشحها» الطغاة من كل أنواع الطغاة من محيط الوطن إلى خليجه انحياز للوطن ضد أمريكا وإسرائيل والغرب.
الثورات وهي تكنس التاريخ من الأوساخ التي تراكمت عليه عبر عقود من الزمن، تكنس المثقف البقال الأيديولوجي والمثقف الذي يدافع عن الظلام.
الثورات العربية اليوم تمنح المثقف العضوي إحساساً عظيماً بوجوده الأصيل. تمنحه فرحاً ميتافيزيقاً لأن تمرد الشعب على الوضع الكلي للإنسان، ليصنع معنى وجوده شكل من الخلق الجديد للحياة . تحطيم للقيم التي سعى النظام السياسي أن يجعلها قيماً دائمة، تحطيم قيم العبودية والخنوع والسرقة والقطيع والنعم الذليلة .
الثورة تملي على المثقف درساً في التعين التاريخي للوطنية بوصفها حباً للوطن. لجمال تنوعه الخلاق، لطيران أبنائه أحراراً في فضائه، ورفضاً لأي قيد خارجي . وطنية لاتتوسل الخلاص إلا من ذاتها. وإذا كان الغرب وأمريكا قد نجحا هنا وهناك بتلويث ثوب الثورة الأبيض، ويسعيان لتلويث قلب الشعب النبيل، فإن مثقف الثورات يشهر قلمه الآن ويصرخ لا .. لا للاستعمار القديم والجديد والعولمي. يجب أن تأمر الثورات المثقف العربي على أن يردد دون ملل وكلل، السياسية الأميركية في بلداننا شر مطلق، السياسة الغربية في بلداننا شر مطلق أمريكا والغرب حاميتا الطغاة العرب وغير العرب.
إعلموا أن الخوف الأمريكي والغربي من الثورات العربية يفوق خوف أنظمة الزمت العربية
إعلموا إن الخطر على مصير الثورات العربية قادم مرة أخرى من الغرب وأميركا .
لا تنسوا مصير محمد علي باشا، لا تنسوا سايكس بيكو، لا تنسوا قيام الكيان العنصري الصهيوني – النازي على ارض فلسطين لا تنسوا عدوان 1956 لا تنسوا عدوان 1967، لا تنسوا غزو العراق وتدميره، لا تنسوا حفاظ أميركا والغرب على أنظمة النفط .
أميركا والغرب أخطر على العرب والثورات العربية ألف ألف مرة من الكيان الصهيوني العنصري، فهذا كيان سيزول لا محالة ، وكيان موجود بغيره، موجود بفضل أميركا والغرب وأنظمتهما التابعة.
اعلموا أن أميركا والغرب استعمار متجدد بألوان متنوعة.
إعلموا مرة أخرى: لا يكون مثقف مع الثورات العربية ومع أمريكا والغرب معاً.
إعلموا أن المثقف المعارض الذي يأخذ ثمن معارضته مالاً وحضوراً من الغرب وأمريكا ليس معارضاً.
وأنا هنا لا أتحدث عمن ضاقت بهم السبل وفروا بأرواحهم طمعاً بالنجاة من عسف أنظمة الحكم العربية . ومازالوا منتمين إلى التقدم والحرية والديموقراطية. دون توسل الخلاص من الغرب وأمريكا بل عن أولئك الذين اختاروا أن يكونوا كلاب حراسة عند الغرب وأميركا لقاء مال وحضور.
إعلموا أيضاً علم اليقين: أن أميركا والغرب عدوان اساسيان للديموقراطية في الوطن العربي، تماماًُ كعداوة الأنظمة العربية. لأن انتصار الإرادة الحرة للعرب يعني الاقتراب من تحقيق الخيارات الكبرى لأن الديمقراطية والسيادة والحرية للعرب تعني زوال»إسرائيل» فالشعب المقيد بالسلاسل أخذ أهم عناصر بقاء إسرائيل في المنطقة.
إعلموا: أن الغرب الديمقراطي في بلدانه وأميركا ديموقراطية في أميركا ولكن دول الغرب وأميركا مستبدة خارج حدودها. ببساطة نحن نريد دولاً عربية ديموقراطية كدول الغرب وكأميركا، دول ذات سيادة كدول الغرب وأميركا والسهر على مصالح الناس وحريتهم وحقوقهم كدول الغرب وأميركا، وأن لاتكون في قلب الوطن العربي «دولة» غربية الوجه واليد واللسان كما هو الحال في أوروبا وأميركا .
دول أميركا والغرب لا تريد لنا ذلك أبداً إن خطابي هذا المباشر الذي ينم عن نزق وعصبية، ناتج عن شعوري بالخطر على الثورات العربية، وإذا كان صحيحاًَ أن أنظمة الاستبداد العربي قد حملت كثيراً من الناس على توسل الخلاص حتى من عدوها، لكن المثقف يجب أن يرفض ذلك رفضاً مطلقاً وأن يؤمن إيماناً قوياً بقوة الشعب .
ولهذا فإن الخطاب العربي الثوري- ثوري، بوصفه معبراً عن الثورات، لا يكون ثورياً إذا كان ملوثاً بأي درجة من التلوث بتبعية للغرب وأميركا، بل أستميح الثورات عذراً أن أتدخل في شؤون شعاراتها، لكن أرجو منها أن ترفع شعاراً يقول يسقط الغرب وأميركا لا للغرب ولا لأميركا.