السيادة: عندما نحميها …

السيادة: عندما نحميها … يفقد المستعمر أعصابه

العميد د. أمين محمد حطيط



السيادة كما هو ثابت هي امتلاك السلطة، التي لا تعلوها سلطة، والسيادة الشعبية تعني أن الشعب هو الذي يقرر لنفسه، ويمتلك تحديد مصيره عبر اختيار حكامه، وتحديد أهدافه واستثمار ثرواته، وطبعا لا يكون ذلك في الدول إلا عندما تستقل الدولة، وتنشئ سلطتها وتختار من يمارس هذه السلطة، او ترتضي من يتصدى للممارسة. على النقيض من ذلك وقبل الاستقلال، فإن المستعمر هو الذي يمتلك القرار، ويحدد المصير، ويستأثر بالثروات. وعلى هذا الاساس يكون التمايز بين الاستعمار والاستقلال قائماً في أن الحاكم عند استقلال الدولة يستمد مشروعيته من شعبه الذي هو صاحب السيادة، بينما الحاكم باسم الاستعمار يستمد شرعيته من المستعمر المغتصب ـ المنتهك للسيادة، ما يعني ان الشعب في الدولة المستقلة هو وحده من يمنح شرعية الحاكم أو يسقطها.
من جهة أخرى، وتنظيما للعلاقات الدولية بين الدول المستقلة، نجد أن القانون الدولي العام، وخاصة اتفاقية فيينا المتعلقة بالتمثيل الدبلوماسي بين الدول، اعتمدا قواعد نصت على كيفية احترام هذه السيادة في ظل تنظيم تبادل التمثيل الدبلوماسي بين الدول المستقلة، حيث يكون لرئيس الدولة أن ينتدب من يمثله لدى الدولة الأخرى لرعاية مصالح دولته، لكن المنتدب ـ السفير – لا يباشر عمله إلا بعد أن يعتمد من قبل رئيس الدولة التي أرسل إليها. والدولة لا تستطيع أن تفرض على الأخرى من يمثلها، بل عليها أن تعرض وتتنظر الموافقة فإن لم تحصل عليها فإن السفير لا يقبل ولا يعتمد، وإن سحبت الموافقة، فإن على السفير ان يخرج. من جهة أخرى فإن بقاء السفير معتمداً في دولة ما يمثل اعترافاً بتلك الدولة وباستقلالها ومشروعية سلطتها، وأكثر دقة من ذلك فإنه يمثل اعترافا متواصلاً بشرعية رئيس الدولة لأن السفير لا يعتمد إلا من رئيس دولة في اتجاه رئيس دولة. ويبقى وجوده فيها محكوما بشرط أساس هو ألا يتدخل في الشؤون الداخلية للدولة المعتمد لديها ، وألا يسيء إلى مصالحها، وفي المقابل يكون على الدولة المضيفة أن تؤمن حمايته وامنه وحرية حركته في المجال المسموح به.
هذا في القانون، أما في الممارسة فإننا نجد أن ممثلي بعض الدول التي ترى نفسها «وصية على العالم «، تحاول أن تفرض إرادتها وقرارها على الآخرين لجهة الحلول مكان الشعب في تحديد مشروعية الحاكم، أو لجهة الإخلال في تطبيق اتفاقية فيينا المذكورة، التي تلزم ممثلي الدول لديها بأحكام الاتفاقية، وتعطي لممثليها الحق بتجاوزها عبر التصرف في الدول المعتمدين لديها، بما يجعل بعضهم أوصياء فعليين على الدولة وأجهزتها وشعبها. وهنا نجد ردة فعل الدول المنتهكة السيادة تندرج في فئتين:
فئة تذعن للانتهاك وتسلم به (بعضها يلفت النظر إليه ولا يستجاب له فيستسلم) وهذا شأن الدول المستضعفة او الضعيفة والتي تتخبط في التبعية وتفقد استقلالها الحقيقي.
وفئة ترفض وتتصرف بما يعيد الأمور الى نصابها، عبر تدابير تتدرج من لفت النظر الى الاحتجاج وطلب إخراج السفير أو أي دبلوماسي آخر بعد توصيفه بأنه «شخص غير مرغوب به» وهذا شأن الأقوياء.
بهذا المنطق، وعلى أساس هذه المفاهيم نقرأ ما جرى في سورية أخيراً، معطوفا على مواقف صدرت عن السلطات في أميركا وفرنسا، حيث إن هاتين الدولتين سمحتا لسفيريهما في سورية بالتجول خارج ما هو مسموح به، والمشاركة في العمليات الاحتجاجية حتى والتخريبية، خارج ما تجيزه القوانين والأنظمة، ثم تطورتا في موقفيها لتحددا بنفسيهما إن كان وجود رئيس الدولة مشروعا أو غير مشروع، وكأنهما السيدان المستعمران وفاتهما أن زمن الاستعمار ولّى، وان سورية دولة مستقلة، وأن شرعية رئيس الدولة السورية تستمد أولا وأخيرا من الشعب السوري، لأن شعب أي دولة مستقلة له وحده دون سواه أن يمنح أو ينزع الشرعية عن السلطة في بلاده، وقد عبر الشعب السوري عن تأييده العارم لرئيسه في أكثر من موقف ومقام، ما أغاظ تلك الدول التي تحن الى استعمار بائد أو استعمار لن يقوم.
كما فاتهما أنهما وبحسب القواعد لهما أن تسحبا سفيريهما وتتراجعا عن اعترافهما بسلطة دولة ما ان رأتا أن سلطة تلك الدولة فقدت المشروعية، لكن فعلهما لا ينسحب أثره إلا عليها،، فضلاً عن أن سحب سفير او سحب اعتراف ليس من شأنه أن يسقط شرعية حكم أو حكومة، بل إن أثره لايتعدى العلاقة بين الدولتين، اما إطلاق الأقوال خلافا لذلك فإنه لا يعدو كونه جعجعة لا وزن لها في عالم القانون.
وهنا، وفي الحالة المعروضة، نجد أن الموقف السوري الشعبي والرسمي في مواجهة محاولات بعض السفراء انتهاك السيادة السورية، وتجاوز الصلاحية، والمعبّر عنه بالتظاهر والاعتصام والرفض العلني والتعبير السلمي عن هذا الرفض، هذا الموقف يعتبر برأينا أمثولة تحتذى في مسار المحافظة على السيادة الوطنية، حيث مثلت ردة الفعل تلك على تجاوز بعض السفراء للقانون الدولي رسالة واضحة أن في سورية شعباً وحكماً، لا يرتضيان مساً بسيادة ولا يرتضيان وصاية من أحد.
واذا كانت ردة الفعل هذه قد أفقدت الآخرين أعصابهم بعد أن اعتبروا ان الدولة ضعفت، وأن وضع اليد عليها بات ممكنا فخاب ظنهم، وتقلبوا بعد ذلك في مواقفهم من قائل «بسقوط شرعية « الى قائل «بتراجع مشروعية» الرئيس الى قول بفقدان الفرص وتضييعها… فما هذا إلا لأن سورية التي رفضت في العام 2005 المس بسيادتها من باب تحقيق دولي في مقتل رفيق الحريري، هي سورية نفسها التي نجحت مرة أخرى اليوم في حماية سيادتها وبالقوة ذاتها إن لم تكن أشد، في حين ظن الغرب ان ما أحدثته مؤامراته ضد سورية من ندوب في الجسم السوري قد تجعل المس بالسيادة الوطنية فيها متاحاً كما حصل في دول أخرى خاصة في لبنان الذي حكمه السفير الأميركي فيلتمان لمدة 3 سنوات منذ العام 2005 حكما مطلقا، وجعل حكومته المسماة زورا «حكومة ثورة الأرز» أداة لتنفيذ أوامره ، لكن النتيجة في سورية جاءت على عكس الظن والتوقع وصعقت المحاولين فأفقدتهم التوازن واظهرت ان السيادة هي ملك لشعب قوي يعرف كيف يحميها، وفاقم الخسارة أن لبنان هو أيضا انتفض على الاستعمار الجديد، وكان قد أسقط حكومة التبعية ليقيم مكانها حكومة السيادة الوطنية.

:::::

نشرت في “البناء” ، http://www.al-binaa.com